إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين (36) بحث مفصل بقلم الشيخ علي هاني

يقدم لنا فضيلة الشيخ بحثاً في المنظور القرآني لعلاقة الإسلام والمسلمين باليهود والنصارى، وذلك من خلال دراسة الآيات الواردة بخصوصهم، وتركيز البحث في الدرجة الأولى على آية {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:62] وعلى ما يشبهها في المائدة والحج، ملخصاً وشارحاً ومستدلاً بأهم ما جاء في كتب التفسير في هذا الموضوع.

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الدليل الثالث عشر: أن النَّبِيَّ – عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ – قَاتَلَ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى،
وَكَذَلِكَ الصَّحَابَةُ، وَلَوْلَا أَنَّهُمْ مُخْطِئُونَ لَمَا كَانَ كَذَلِكَ، والقرآن أمر بقتالهم[1] {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)} التوبة

الدليل الرابع عشر: أن هذه القول خارق لإجماع علماء المسلمين،
لم يسبقهم إليه أحد إلا أحد روايتين عن العنبري[2] وهو محجوج بمخالفة إجماع من قبله ومن بعده[3] ، وصحح كثير من العلماء أن كلامه ليس في ِتَصْدِيقِ الرُّسُلِ وَإِثْبَاتِ حُدُوثِ الْعَالَمِ وَإِثْبَاتِ الصَّانِعِ، فَالْمُخْطِئُ فِيهِ غَيْرُ مَعْذُورٌ عنده أيضا.

 

[1] البحر المحيط، للزركشي (8/ 281)
[2] العَنْبَري(105 – 168 هـ = 723 – 785 م)عبيد الله بن الحسن بن الحصين العنبري، من تميم: قاض، من الفقهاء العلما بالحديث.
من أهل البصرة. قال ابن حبان: من ساداتها فقها وعلما. ولي قضاءها سنة 157 هـ وعزل سنة 166 وتوفي فيها.
[3] قال الزركشي في البحر المحيط(8/281):”فِي حُكْمِ الِاجْتِهَادِ: لَا يَخْلُو حَالُ الْمُجْتَهِدِ فِيهِ
إمَّا أَنْ تَتَّفِقَ عَلَيْهِ أَقْوَالُ الْمُجْتَهِدِينَ أَوْ تَخْتَلِفَ:
1) فَإِنْ اتَّفَقَتْ فَهُوَ إجْمَاعٌ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ،
2) وَإِنْ اخْتَلَفَتْ أَقْوَالُهُمْ: فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي حُكْمٍ عَقْلِيٍّ أَوْ شَرْعِيٍّ:
الْأَوَّلُ – الْعَقْلِيُّ: أ) فَإِنْ كَانَ الْغَلَطُ مِمَّا يَمْنَعُ مَعْرِفَةَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَرَسُولَهُ، كَمَا فِي إثْبَاتِ الْعِلْمِ بِالصَّانِعِ وَالْوَحْدَانِيَّةِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بَالتَّوْحِيدِ، فَالْحَقُّ فِيهَا وَاحِدٌ، هُوَ الْمُكَلَّفُ، وَمَا عَدَاهُ بَاطِلٌ. فَمَنْ أَصَابَهُ أَصَابَ الْحَقَّ، وَمَنْ أَخْطَأَهُ فَهُوَ كَافِرٌ.
ب) وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ ذَلِكَ [بأن لم يكن يمنع معرفة الله سبحانه ورسوله]، كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الرُّؤْيَةِ وَخَلْقِ الْقُرْآنِ، وَكَمَا فِي وُجُوبِ مُتَابَعَةِ الْإِجْمَاعِ وَالْعَمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، فَقَدْ أَطْلَقَ الشَّافِعِيُّ عَلَيْهِ اسْمَ (الْكُفْرِ)، فَمِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ أَجْرَاهُ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَوَّلَهُ عَلَى كُفْرَانِ النِّعَمِ، وَصَحَّحَهُ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ، وَلَا شَكَّ فِي أَنَّهُ مُبْتَدِعٌ فَاسِقٌ، لِعُدُولِهِ عَنْ الْحَقِّ.
هَذَا كُلُّهُ إذَا كَانَتْ الْمَسْأَلَةُ دِينِيَّةً. أَمَّا مَا لَيْسَ كَذَلِكَ، كَمَا فِي وُجُوبِ تَرْكِيبِ الْأَجْسَامِ مِنْ ثَمَانِيَةِ أَجْزَاءٍ، وَانْحِصَارِ اللَّفْظِ فِي الْمُفْرَدِ وَالْمُؤَلَّفِ، فَلَا الْمُخْطِئُ فِيهِ آثِمٌ، وَلَا الْمُصِيبُ مَأْجُورٌ، إذْ يَجْرِي مِثْلُ هَذَا مَجْرَى الْخَطَأِ فِي أَنَّ مَكَّةَ شَرَّفَهَا اللَّهُ أَكْبَرَ مِنْ الْمَدِينَةِ أَوْ أَصْغَرَ.
وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيُّ قَاضِي الْبَصْرَةِ: كُلُّ مُجْتَهِدٍ فِي الْأُصُولِ مُصِيبٌ. وَنُقِلَ مِثْلُهُ عَنْ الْجَاحِظِ. وَيَلْزَمُ مِنْ مَذْهَبِ الْعَنْبَرِيِّ أَنْ لَا يَكُونَ أَحَدٌ مِنْ الْمُخَالِفِينَ فِي الدِّينِ مُخْطِئًا، وَأَمَّا الْجَاحِظُ فَجَعَلَ الْحَقَّ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَاحِدًا، وَلَكِنَّهُ يَجْعَلُ الْمُخْطِئَ فِي جَمِيعِهَا غَيْرَ آثِمٍ.
أَمَّا رَأْيُ الْعَنْبَرِيِّ فَبَيَّنَ الِاسْتِحَالَةَ، فَإِنَّهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ أَنَّ الْعَالَمَ قَدِيمٌ وَأَنَّهُ مُحْدَثٌ، وَأَمَّا [رَأْيُ] الْجَاحِظِ فَبَاطِلٌ، فَإِنَّ النَّبِيَّ – عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ – قَاتَلَ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، وَكَذَلِكَ الصَّحَابَةُ، وَلَوْلَا أَنَّهُمْ مُخْطِئُونَ لَمَا كَانَ كَذَلِكَ. قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: وَكَانَ ابْنُ الْعَنْبَرِيِّ يَقُولُ فِي مُثْبِتِي الْقَدَرِ: هَؤُلَاءِ عَظَّمُوا اللَّهَ، وَفِي نَافِي الْقَدَرِ: هَؤُلَاءِ نَزَّهُوا اللَّهَ، وَقَدْ اُسْتُبْشِعَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُ، فَإِنَّهُ يَقْتَضِي تَصْوِيبَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَسَائِرِ الْكُفَّارِ فِي اجْتِهَادِهِمْ، قَالَ: وَلَعَلَّهُ أَرَادَ أُصُولَ الدِّيَانَاتِ الَّتِي اخْتَلَفَ فِيهَا أَهْلُ الْقِبْلَةِ، كَالرُّؤْيَةِ وَخَلْقِ الْأَفْعَالِ وَنَحْوِهِ. وَأَمَّا مَا اخْتَلَفَ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ، كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوس، فَهَذَا مِمَّا يُقْطَعُ فِيهِ بِقَوْلِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ قُلْت: وَهَذَا أَحَدُ الْمَنْقُولَاتِ عَنْهُ. قَالَ الْقَاضِي فِي ” مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ “: اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ الْعَنْبَرِيِّ فَقَالَ فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ: إنَّمَا أُصَوِّبُ كُلَّ مُجْتَهِدٍ فِي الدِّينِ تَجْمَعُهُمْ الْمِلَّةُ. وَأَمَّا الْكَفَرَةُ فَلَا يُصَوِّبُونَ.
وَغَلَا بَعْضُ الرُّوَاةِ عَنْهُ فَصَوَّبَ الْكَافِرِينَ الْمُجْتَهِدِينَ دُونَ الرَّاكِنِينَ إلَى الْبِدْعَةِ. وَنَحْنُ نَتَكَلَّمُ مَعَهُمَا مُخْتَصَرًا فَنَقُولُ: أَنْتُمَا (أَوَّلًا) مَحْجُوجَانِ بِالْإِجْمَاعِ قَبْلَكُمَا وَبَعْدَكُمَا. و(ثَانِيًا) إذَا أَرَدْتُمَا بِذَلِكَ مُطَابَقَةَ الِاعْتِقَادِ لِلْمُعْتَقِدِ فَقَدْ خَرَجْتُمَا عَنْ حَيِّزِ الْعُقَلَاءِ وَانْخَرَطْتُمَا فِي سِلْكِ الْأَنْعَامِ. وَإِنْ أَرَدْتُمَا الْخُرُوجَ عَنْ عُهْدَةِ التَّكْلِيفِ وَنَفْيِ الْحَرَجِ – كَمَا نُقِلَ عَنْ الْجَاحِظِ – فَالْبَرَاهِينُ الْعَقْلِيَّةُ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ الْخَارِجَةِ عَنْ حَدِّ الْحَصْرِ تَرُدُّ هَذِهِ الْمَقَالَةَ. وَأَمَّا تَخْصِيصُ التَّصْوِيبِ بِالْمُجْمِعِينَ عَلَى الْمِلَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ فَنَقُولُ: مِمَّا خَاضَ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ الْقَوْلَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يَعْظُمُ خَطَرُهُ. وَأَجْمَعُوا قَبْلَ الْعَنْبَرِيِّ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمَرْءِ إدْرَاكُ بُطْلَانِهِ. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي ” الْمَنْخُولِ “: لَعَلَّهُ أَرَادَ خَلْقَ الْأَفْعَالِ وَخَلْقَ الْقُرْآنِ، إذْ الْمُسْلِمُ لَا يُكَلَّفُ الْخَوْضَ فِيهِ، بِخِلَافِ قِدَمِ الْعَالَمِ وَنَفْيِ النُّبُوَّاتِ، وَهُوَ مَعَ هَذَا فَاسِدٌ، فَإِنَّ اعْتِقَادَ الْإِصَابَةِ الْمُحَقَّقَةِ عَلَى هَذَا مُحَالٌ. وَقَالَ إلْكِيَا: ذَهَبَ الْعَنْبَرِيُّ إلَى أَنَّ الْمُصِيبَ فِي الْعَقْلِيَّاتِ وَاحِدٌ، وَلَكِنْ مَا يَتَعَلَّقُ بِتَصْدِيقِ الرُّسُلِ وَإِثْبَاتِ حُدُوثِ الْعَالَمِ وَإِثْبَاتِ الصَّانِعِ، فَالْمُخْطِئُ فِيهِ غَيْرُ مَعْذُورٌ. وَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْقَدَرِ وَالْجَبْرِ وَإِثْبَاتِ الْجِهَةِ وَنَفْيِهَا فَالْمُخْطِئُ فِيهِ غَيْرُ مَعْذُورٍ وَلَوْ كَانَ مُبْطِلًا فِي اعْتِقَادِهِ بَعْدَ الْمُوَافَقَةِ بِتَصْدِيقِ الرُّسُلِ وَالْتِزَامِ الْمِلَّةِ، وَبَيَّنَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْخَلْقَ مَا كُلِّفُوا إلَّا اعْتِقَادَ تَعْظِيمِ اللَّهِ وَتَنْزِيهِهِ مِنْ وَجْهٍ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَبْحَثْ الصَّحَابَةُ عَنْ مَعْنَى الْأَلْفَاظِ الْمُوهِمَةِ لِلتَّشْبِيهِ، عِلْمًا مِنْهُمْ بِأَنَّ اعْتِقَادَهَا لَا يَجُرُّ حَرَجًا. وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ: لَعَلَّهُ أَرَادَ أَنَّهُ مَعْذُورٌ فِي اجْتِهَادِهِ، وَلَكِنْ عَبَّرَ عَنْهُ بِالْمُصِيبِ. وَاَلَّذِي نَقَلَهُ الْإِمَامُ عَنْهُمَا الْجَوَازُ فِي الْأُصُولِ مُطْلَقًا بِمَعْنَى حَطِّ الْإِثْمِ، لَا بِمَعْنَى الْمُطَابَقَةِ لِلْحَقِّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، إذْ فِيهِ الْجَمْعُ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، وَهُوَ مُحَالٌ. وَمَا ذَكَرَاهُ لَيْسَ بِمُحَالٍ عَقْلًا، لَكِنَّهُ مُحَالٌ شَرْعًا، لِلْإِجْمَاعِ عَلَى تَخْلِيدِ الْكُفَّارِ فِي النَّارِ، وَلَوْ كَانُوا غَيْرَ آثِمِينَ لَمَا سَاغَ ذَلِكَ. وَأَمَّا ابْنُ فُورَكٍ فَنُقِلَ عَنْهُ ذَلِكَ فِيمَا يُمْكِنُ فِيهِ التَّأْوِيلُ، نَحْوُ الْقَوْلِ بِالْقَدَرِ وَالْإِرْجَاءِ. وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي ” الشِّفَاءِ “: ذَهَبَ الْعَنْبَرِيُّ إلَى تَصْوِيبِ أَقْوَالِ الْمُجْتَهِدِينَ فِي أُصُولِ الدِّينِ فِيمَا كَانَ عُرْضَةً لِلتَّأْوِيلِ وَحَكَى الْقَاضِي ابْنُ الْبَاقِلَّانِيِّ مِثْلَهُ عَنْ دَاوُد بْنِ عَلِيٍّ الْأَصْفَهَانِيِّ، وَحَكَى قَوْمٌ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا قَالَا ذَلِكَ فِيمَنْ عَلِمَ اللَّهُ مِنْ حَالِهِ اسْتِفْرَاغَ الْوُسْعِ فِي طَلَبِ الْحَقِّ مِنْ أَهْلِ مِلَّتِنَا وَغَيْرِهِمْ. وَقَالَ الْجَاحِظُ نَحْوَ هَذَا الْقَوْلِ. وَتَمَامُهُ فِي أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْعَامَّةِ وَالنِّسَاءِ وَالْبُلْهِ مُقَلِّدَةِ النَّصَارَى وَالْيَهُودِ وَغَيْرِهِمْ لَا حُجَّةَ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ، إذْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ طِبَاعٌ يُمْكِنُ مَعَهَا الِاسْتِدْلَال، وَقَدْ نَحَا الْغَزَالِيُّ قَرِيبًا مِنْ هَذَا الْمَنْحَى فِي كِتَابِ ” التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالزَّنْدَقَةِ ” وَقَائِلُ هَذَا كُلِّهِ كَافِرٌ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى كُفْرِ مَنْ لَمْ يُكَفِّرْ أَحَدًا مِنْ النَّصَارَى وَالْيَهُودِ، وَكُلُّ مَنْ فَارَقَ دِينَ الْمُسْلِمِينَ وَوَقَفَ فِي تَكْفِيرِهِمْ أَوْ شَكَّ، لِقِيَامِ النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ عَلَى كُفْرِهِمْ. فَمَنْ وَقَفَ فِيهِ فَقَدْ كَذَّبَ النَّصَّ. انْتَهَى.
وَمَا نَسَبَهُ لِلْغَزَالِيِّ غَلَطٌ عَلَيْهِ، فَقَدْ صَرَّحَ بِفَسَادِ مَذْهَبِ الْعَنْبَرِيِّ، كَمَا سَبَقَ عَنْهُ، وَهُوَ بَرِيءٌ مِنْ هَذِهِ الْمَقَالَةِ وَاَلَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ فِي كِتَابِ ” التَّفْرِقَةِ ” هُوَ قَوْلُهُ: إنَّ مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ مِنْ نَصَارَى الرُّومِ أَوْ التُّرْكِ أَنَّهُمْ مَعْذُورُونَ، وَلَيْسَ فِيهِ تَصْوِيبُهُمْ، وَالْكَلَامُ إنَّمَا هُوَ فِيمَنْ بَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ وَعَانَدَ. وَإِنَّمَا نَبَّهْت عَلَى هَذَا لِئَلَّا يَغْتَرَّ بِهِ الْوَاقِفُ عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: مَا نُقِلَ عَنْ الْعَنْبَرِيِّ وَالْجَاحِظِ إنْ أَرَادَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ مُصِيبٌ لَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَهُوَ بَاطِلٌ قَطْعًا، لِأَنَّ الْحَقَّ مُتَعَيَّنٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فِي جِهَةٍ وَاحِدَةٍ، وَالْمُتَفَاضِلَانِ لَا يَكُونَانِ حَقَّيْنِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ. وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ أَنَّ مَنْ بَذَلَ الْوُسْعَ وَلَمْ يُقَصِّرْ فِي الْأُصُولِيَّاتِ أَنَّهُ يَكُونُ مَعْذُورًا غَيْرَ مُعَاقَبٍ فَهَذَا أَقْرَبُ وَجْهًا، لِكَوْنِهِ نَظَرِيًّا، وَلِأَنَّهُ قَدْ يُعْقَدُ فِيهِ أَنَّهُ لَوْ عُوقِبَ وَكُلِّفَ بَعْدَ اسْتِفْرَاغِهِ غَايَةَ الْجَهْدِ لَزِمَ تَكْلِيفُهُ لِمَا لَا يُطَاقَ. وَقَالَ فِي ” شَرْحِ الْإِلْمَامِ “: يُمْكِنُ أَنْ يُجِيبَ الْعَنْبَرِيُّ عَمَّا رُدَّ بِهِ عَلَيْهِ مِنْ تَبْيِيتِ الْمُشْتَرَكِينَ وَاغْتِرَارِهِمْ وَعَدَمِ الْمَعْرِفَةِ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْمُعَانِدِ وَغَيْرِهِ، فَلَهُ أَنْ يَقُولَ: الْمُكَلَّفُ مِنْهُ مَعَ إمْكَانِ النَّظَرِ بَيْنَ مُعَانِدٍ وَمُقَصِّرٍ، وَأَنَا أَقُولُ بِهَلَاكِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. هَذَا إنْ كَانَ مَا قَالَا بِنَاءً عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ. وَأَمَّا الَّذِي حُكِيَ عَنْهُ مِنْ الْإِصَابَةِ فِي الْعَقَائِدِ الْقَطْعِيَّةِ فَبَاطِلٌ قَطْعًا، وَلَعَلَّهُ لَا يَقُولُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَأَمَّا الْمُخْطِئُ فِي الْأُصُولِ وَالْمُجَسِّمَةِ: فَلَا شَكَّ فِي تَأْثِيمِهِ وَتَفْسِيقِهِ وَتَضْلِيلِهِ. وَاخْتُلِفَ فِي تَكْفِيرِهِ. وَلِلْأَشْعَرِيِّ قَوْلَانِ. قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَابْنُ الْقُشَيْرِيّ وَغَيْرُهُمَا: وَأَظْهَرُ مَذْهَبَيْهِ تَرْكُ التَّكْفِيرِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقَاضِي فِي كِتَابِ ” إكْفَارِ الْمُتَأَوِّلِينَ “: وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: رَجَعَ الْأَشْعَرِيُّ عِنْد مَوْتِهِ عَنْ تَكْفِيرِ أَهْلِ الْقِبْلَةِ، لِأَنَّ الْجَهْلَ بِالصِّفَاتِ لَيْسَ جَهْلًا بِالْمَوْصُوفَاتِ. وَقَالَ: اخْطَفْنَا فِي عِبَارَةٍ وَالْمُشَارُ إلَيْهِ وَاحِدٌ. وَالْخِلَافُ فِيهِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا كَمَا قَالَهُ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ، وَكَانَ الْإِمَامُ أَبُو سَهْلٍ الصُّعْلُوكِيُّ: لَا يُكَفِّرُ، قِيلَ لَهُ: أَلَا تُكَفِّرُ مَنْ يُكَفِّرُك؟ فَعَادَ إلَى الْقَوْلِ بِالتَّكْفِيرِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ، فَهُمْ يُكَفِّرُونَ خُصُومَهُمْ وَيُكَفِّرُ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ الْآخَرَ. قَالَ الْإِمَامُ: وَمُعْظَمُ الْأَصْحَابِ عَلَى تَرْكِ التَّكْفِيرِ. وَقَالُوا: إنَّمَا نُكَفِّرُ مَنْ جَهِلَ وُجُودَ الرَّبِّ، أَوْ عَلِمَ وُجُودَهُ وَلَكِنْ فَعَلَ فِعْلًا، أَوْ قَالَ قَوْلًا، أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَصْدُرُ ذَلِكَ إلَّا عَنْ كَافِرٍ. وَمَنْ قَالَ بِتَكْفِيرِ الْمُتَأَوِّلِينَ يَلْزَمُهُ أَنْ يُكَفِّرَ أَصْحَابَهُ فِي نَفْيِ الْبَقَاءِ أَيْضًا، كَمَا يُكَفَّرُ فِي نَفْيِ الْعِلْمِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْمَسَائِلِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا. قُلْت: وَقَدْ أَطْلَقَ الشَّافِعِيُّ – رَحِمَهُ اللَّهُ – تَكْفِيرَ الْقَائِلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، لَكِنَّ جُمْهُورَ أَصْحَابِهِ تَأَوَّلُوهُ عَلَى كُفْرَانِ النِّعْمَةِ، كَمَا قَالَهُ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ.”