إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين (35) بحث مفصل بقلم الشيخ علي هاني

يقدم لنا فضيلة الشيخ بحثاً في المنظور القرآني لعلاقة الإسلام والمسلمين باليهود والنصارى، وذلك من خلال دراسة الآيات الواردة بخصوصهم، وتركيز البحث في الدرجة الأولى على آية {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:62] وعلى ما يشبهها في المائدة والحج، ملخصاً وشارحاً ومستدلاً بأهم ما جاء في كتب التفسير في هذا الموضوع.

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الدليل الثاني عشر:العمل بالتوراة أو الإنجيل عمل بشريعة منسوخة
فكيف يكون عملا صالحا وكيف يكون مقبولا عند الله، وقد قال تعالى {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49)} (المائدة (48ـ 49).
قال أبو السعود: “{وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب} أي الفردَ الكاملَ الحقيقيَّ بأن يسمى كتاباً على الإطلاق لحيازته جميعَ الأوصافِ الكمالية لجنس الكتابِ السماويِّ وتفوقِه على بقية أفراده وهو القرآنُ الكريم وقوله تعالى {بالحق} متعلقٌ بمحذوفٍ وقعَ حالاً مؤكّدة من الكتاب أي ملتبساً بالحق والصدق {مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} حال من الكتاب أي حالَ كونِه مصدقاً لما تقدَّمَه إما من حيث أنه نازل حسبما نعت فيه أو من حيث إنه موافقٌ له في القصص والمواعيد والدعوة إلى الحق والعدلِ بين الناس والنهي عن المعاصي والفواحش، وأما ما يتراءى من مخالفتِه له في بعض جزئياتِ الأحكام المتغيِّرة بسبب تغيُّرِ الأعصارِ فليست بمخالفةٍ في الحقيقة بل هي موافقة لها من حيثُ إنَّ كلاًّ من تلك الأحكام حقٌّ بالإضافة إلى عصره متضمِّنٌ للحكمة التي عليَها يدورُ أمرُ الشريعة، وليس في المتقدم دلالةٌ على أبديةِ أحكامِه المنسوخة حتى يخالفه الناسخ المتأخرون وإنما يدل على مشروعيتها مُطلقاً من غيرِ تعرضٍ لبقائها وزوالها بل نقول هو ناطقٌ بزوالها لما أن النطقَ بصحة ما ينسخها نطق ينسخها وزوالِها وقوله تعالى {مّنَ الكتاب} بيانٌ لِما واللام للجنس إذ المراد هو الكتاب السماوي، {وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} أي رقيباً على سائر الكتبِ المحفوظة من التغيير لأنه يشهد لها بالصحة والثبات ويقررأصول شرائعها وما يتأبد من فروعها ويعيِّن أحكامَها المنسوخةَ ببيان انتهاءِ مشروعيتها المستفادة من تلك الكتاب وانقضاءِ وقت العمل بها ولا ريب في أن تمييزَ أحكامِها الباقيةِ على المشروعية أبداً عما انتهى وقتُ مشروعيتِه وخرج عنها من أحكام كونِه مهيمناً عليه والفاء في قوله تعالى {فاحكم بَيْنَهُمْ} لترتيب ما بعدها على ما قبلها فإن كونَ شأنِ القرآن العظيم حقاً مصدِّقاً لما قبله من الكتب المنزلة على الأمم مهيمناً عليه من مُوجباتِ الحكم المأمور به أي إذا كان القرآن كما ذُكِر فاحكمْ بين أهل الكتابين عند تحاكُمِهم إليك {بِمَا أنزَلَ الله} أي بما أنزله إليك فإنه مشتملٌ على جميع الأحكام الشرعية الباقيةِ في الكتب الإلهية وتقديم بينهم للاعتناء ببيانِ تعميمِ الحكم لهم ووضع الموصول موضعَ الضمير للتنبيه على عِلِّيَّةِ ما في حين الصلة للحكم والالتفات بإظهار الاسم الجليل لتربية المهابة والإشعار بعِلَّة الحكم {وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ} الزائغة {عَمَّا جَاءكَ مِنَ الحق} الذي لا محيد عنه وعن متعلقة بلا تتَّبعْ على تضمين معنى العُدول ونحوِه كأنه قيل ولا تعدِلْ عما جاءك من الحق متبعاً أهواءهم وقولِه تعالى {لِكُلّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً ومنهاجا} كلام مستأنَفٌ جيءَ به لحمل أهل الكتابين من معاصريه صلى الله عليه وسلم على الانقياد لحُكمه بما أُنزل إليه من القرآن الكريم ببيان أنه هو الذي كُلِّفوا العملَ به دون غيره من الكتابين وإنما الذين كلفوا العملَ بهما مَنْ مَضَى قبل نسخهما من الأمم السالفة والخطابُ بطريق التلوين والالتفات للناس كافة لكن لا للموجودين خاصة بل للماضين أيضاً بطريق التغليب واللام متعلقة بجعلنا المتعدي لواحد وهو إخبارٌ بجَعَلَ ماضٍ لا إنشاءٌ وتقديمها عليه للتخصيص ومنكم متعلق بمحذوف وقع صفة لِما عُوِّض عنه تنوينُ كلَ ولا ضيرَ في توسط جعلنا بين الصفة والموصوف كما في قوله تعالى أَغَيْرَ الله أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السموات الخ والمعنى لكل أمة كائنةٍ منكم أيها الأمم الباقية والخالية جعلنا أي عيّنّا ووضعنا شرعةً ومنهاجاً خاصَّين بتلك الأمة لا تكاد أمةٌ تتخطى شرعتها التي عُيِّنت لها، فالأمةُ التي كانت من مبعث موسى إلى مبعث عيسى عليهما السلام شرعتهم التوارة، والتي كانت من مَبعثِ عيسى إلى مبعثِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم شرعتهم الإنجيل، وأما أنتم أيها الموجودون فشِرْعتُكم القرآنُ ليس إلا فآمنوا به واعملوا بما فيه والشِّرْعةُ والشريعة هي الطريقة إلى الماء شُبِّه بها الدينُ لكونه سبيلاً موصولاً إلى ما هو سببٌ للحياة الأبدية كما أن سببٌ للحياة الأبدية كما أن الماء سببٌ للحياة الفانية والمنهاجُ الطريق الواضح في الدين من نهَجَ الأمر إذا وضح المائدة
{وَلَوْ شَاء الله لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحدة} متفقة على دين واحد في جميع الأعصار من غير اختلاف بينكم وبين من قبلكم من الأممِ في شيء من الأحكام الدينية ولا نسخَ ولا تحويل ومفعول المشيئة محذوفٌ تعويلاً على دِلالة الجزاء عليه أي ولو شاء الله أن يجعلكم أمة واحدة لجعلكم الخ {ولكن لّيَبْلُوَكُمْ} متعلِّقٌ بمحذوف يستدعيه النظام أي ولكن لم يشأ ذلك أي لأن يجعلكم أمةً واحدة بل شاء ما عليه السنةُ الإلهية الجاريةُ فيما بين الأمم ليعامِلَكم معاملةَ من يبتليكم {في ما آتاكم} من الشرائع المختلفة المناسبة لأعصارها وقرونِها هل تعملون بها مذعِنين لها معتقدين أن اختلافَها بمقتضى المشيئةِ الإلهيةِ المبنيةِ على أساس الحِكَم البالغةِ والمصالحِ النافعة لكم في معاشكم ومعادِكم أو تزيغون عن الحق وتتبعون الهوَى وتستبدلون المضَرَّة بالجدوى وتشترون الضلالة بالهدى وبهذا اتَّضحَ أنَّ مدارَ عدمِ المشيئةِ المذكورة ليس مجرد الابتلاء بل العمدةُ في ذلك ما أشيرَ إليهِ من انطواءِ الاختلاف على ما فيه مصلحتُهم معاشاً ومعاداً كما ينبئ عنه قوله عز وجل {فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ} أي إذا كان الأمر كما ذكر فسارعوا إلى ما هو خيرٌ لكم في الدارين من العقائد الحَقَّة والأعمالِ الصالحة المندرجة في القرآن الكريم وابتدروها انتهاز للفرصة وإحرازاً لسابقةِ الفَضْل والتقدم ففيه من تأكيد الترغيبِ في الإذعان للحق وتشديدِ التحذير عن الزيغ ما لا يخفى ووقوله تعالى {إلى الله مَرْجِعُكُمْ} استئنافٌ مَسوقٌ مَساقَ التعليل لاستباق الخيرات بما فيهِ من الوعدِ والوعيدِ وقوله تعالى {جَمِيعاً} حالٌ من ضمير الخطاب والعامل فيه إما المصدرُ المنحلُّ إلى حرفٍ مصدريَ وفعل مبني للفاعل أو مبني للمفعول وإما الاستقرارُ المقدَّر في الجار {فَيُنَبّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} أي فيفعل بكم من الجزاء الفاصل بين المُحِقّ والمُبطل ما لا يبقى لكم معه شائبةُ شكٍ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ في الدنيا وإنما عبر عن ذلك بما ذكر لوقوعه موقع إزالة الاختلاف التي هي وظيفة الإخبار”[1] بتصرف
قال الشيرازي في الأمثل:” فتَوَجَّب العملُ بآخر شريعة إِلهية، لأنّ العمل بقوانين منسوخة ليس من العمل الصالح، بل العمل الصالح هو العمل بالشرائع الموجودة وبآخرها “.
وعن أبي هريرة، عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أنَّه قال: “والذي نفسُ محمدٍ بيده، لا يَسْمعُ بي أحدٌ من هذه الأمة يهوديٌ ولا نصرانيٌ، ثم يموتُ ولم يؤمِنْ بالذي أُرسِلتُ بهِ إلا كانَ من أصحابِ النَّار”[2].
قال أبو الحسن المباركفوري في مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح[3]:
(من هذه الأمة) أي أمة الدعوة وهم الخلق جميعاً، (يهودي ولا نصراني) صفتان لأحد، وحكم المعطلة وعبدة الأوثان يعلم بالطريق الأولى؛ لأن اليهود والنصارى لهم كتاب، فإذا كان هذا شأنهم مع أن لهم كتاباً فغيرهم ممن لا كتاب له أولى وخصا بالذكر لأن كفرهما أقبح لكونهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، قال تعالى: {يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل} [7: 157] (ثم يموت): ثم للاستبعاد كما في قوله تعالى: {ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها} [32: 22]، أي ليس أحد أظلم ممن بينت له آيات الله الظاهرة والباطنة ودلائله القاهرة فعرفها ثم أنكرها أي بعيد عن العاقل، قاله الطيبي، وذلك لأن معجزته القرآن المستمر إلى يوم القيامة مع خرقه العادة في أسلوبه وأخباره بالمغيبات، وعجز الجن والإنس عن أن يأتوا بسورة مثله يوجب الإيمان برسالته، ويوجب الدخول على الكل في طاعته، فمن لم يؤمن بما أرسل به كان من أصحاب النار. قال النووي: في الحديث نسخ الملل كلها برسالة نبينا – صلى الله عليه وسلم -، وفي مفهومه دلالة على أن من لم يبلغه دعوة الإسلام فهو معذور.
يقول علي هاني: فإن قيل كيف يقال: إن شريعتهم منسوخة مع أن الله تعالى قال”
{قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68)} {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66)} {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47)}
وهذه الآيات تفسر تفسيرا غير صحيح ويفهمها كثير من الناس خطأ، فهم يفهمون أن القرآن يسوغ لليهود والنصارى أن يستمروا على العمل بكتابهم، وهذا فهم لا يصح، والعجب أن الآيات التي يخطئون في فهمها أو يلبسون على الناس بها تقع في سياقات لا يمكن تدفع هذا الفهم تماما ولا يمكن أن يفهم منه اطلاقا، فقد تقدم أن آية {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)} وقعت في سورة البقرة المليئة بالرد على اليهود، وكذلك الآية الثانية التي يستدلون بها {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115)} وقعت في سورة آل عمران التي كلها دعوة للتوحيد والرد على النصارى كما تقدم، وهذه الآيات الثلاثة هنا وقعت في سورة المائدة التي هي أشد السور على اليهود والنصارى، فقد نصت صراحة على كفرهم ودعتهم إلى التوحيد والإيمان بالقرآن، واقتطاع النص من سياقه ليفهم فهما سقيما،مألوف عند أعداء الإسلام فهم الآن يقولون: لا تقتل الشخص ولكن اقتل سمعته وصيته، فيقتطعون بعض الجمل لبعض الشيوخ الأجلاء يقتطعونها من سياقها لتفهم على غير ما أرادوا ثم يقولون انظر لهذا الشيخ ما يقول: وهذا ليس ببدع منهم، ولنعد إلى موضوعنا، فهذا الفهم يؤدي إلى تعارض النصوص، لا أقول يؤدي إلى تعارض الآيات في القرآن كله فقط بل يؤدي إلى تعارض النصوص المتجاورة في سورة واحدة في آيات قريبة جدا، فهذه الآيات الثلاث وردت في سورة المائدة التي ورد فيها الآية السابقة التي تقرر أن الله سبحانه جعل لكل أمة شرعة ومنهاجا {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49)} فهذه الآية التي تقرر أنه لكل منكم شرعة ومنهاجا هي الآية الثامنة والأربعون، والآيات السابقة التي يفسرونها أنها تأمر النصارى واليهود أن يستمروا على العمل بالتوراة والإنجيل مع عدم وجوب العمل بالقرآن ترتيبها (47، 66، 68) السابعة والأربعون، والسادسة والستون، والثامنة والستون فهي آيات قريبة جدا، فعلى هذا التفسير تكون آية تقول:” لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا “، وآية أخرى تقول: عليكم يا أهل الكتاب أن تعملوا بكتابكم وهذا ينجيكم ويدخلكم الجنة، فليس الأمر أنه لكل جعلنا شرعة ومنهاجا، بل المنهاج القديم جائز للكل العمل به فهو عام وليس خاصا بقوم ووقت، وهذا عين التعارض الذي ينافيه سياق الآيات،و ينزه عنه كلام أحكم الحاكمين، ولو نحن تأملنا مقاصد القرآن ولم ننظر النظرة السطحية الحمقاء لسلم فهمنا، ولارتقى إلى بيان القرآن السامي العالي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والمتأمل في سورة المائدة يقطع جازما باستبعاد هذا التفسير:
1) فقد ذكرت سورة المائدة: أنه أنزل التوراة فيها هدى ونور وأمر النبيين والربانيين والأحبار أن يحكموا بها، ثم بينت أن الله سبحانه آتى عيسى عليه السلام الإنجيل وأمر أهل الإنجيل في ذلك الوقت أن يحكموا بما أنزل الله فيه، ثم أنزل القرآن مهيمنا وحاكما على الكتب السابقة، وأمر أهل الإسلام أمة النبي صلى الله عليه وسلم أن تحكم به وحذرها من اتباع أهواءأهل الكتاب.
2) وأيضا في السورة نفسها بين أن النصارى ضيعوا حظا وافرا مما ذكروا به وأنهم حرفوا وبدلوا، ودعاهم لاتباع النبي صلى الله عليه وسلم.
3) وحكم بكفر النصارى الذين يقولون بالتثليث في السورة نفسها
فكيف بعد ذلك يقول:” اليهودي والنصراني الذي يكفر بالله ويقول بالتثليث عمله مقبول وليس واجبا عليه أن يتبع محمدا صلى الله عليه وسلم” هذا لعمري عين الضلال والتحريف ولننظر في الآيات لنرى هذا الأمر رؤية واضحة:
{وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14) يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)} وقال لهم في السورة نفسها {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19)} ونحن إذا أردنا استقصاء هذا في سورة المائدة يطول الأمر، فأرجو من القارئ الكريم أن يقرأ السورة قراءة متأنية وينظر في هذا الأمر ليرى رؤية يقينٍ الحقَّ في هذه المسألة واستبعاد َهذا التفسير المذكور.
ولتزول الشبهة زوالا تاما ويظهر بطلان هذا الرأي ألخص للقارئ الكريم تفسير علمائنا رحمهم الله الذين يفهمون النصوص كما ينبغي أن تفهم، كما وصفهم الله سبحانه بقوله: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ}وكما قال ابن مالك: ما كان أصحَّ علمَ من تقدما، ليتضح المعنى الصحيح اللائق بخطاب القرآن الكريم وما يريده سبحانه
أولا: تفسير قوله تعالى:
{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66)}
علاقة الآية بما قبلها[4]:
لما بالغ في ذم أهل الكتاب ذكر قبائحهم ومعايبهم وأقوالهم الباطلة، وهجن طريقتهم، لا سيما اليهود، وذكر انحرافهم عن دين الله؛ وأكلهم السحت؛ وتحريفهم الكلم من بعد مواضعه لينالوا عرضا من أعراض هذه الأرض، وبين أنهم لا يؤمنون بكتابهم حقيقة بل ادعاء، وختمها بقوله سبحانه {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا} {وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}، عقب ذلك بفتح باب الخير لجميع أهل الكتاب اليهود والنصارى متى آمنوا واتقوا ببيان أنهم لو آمنوا واتقوا لوجدوا سعادات الآخرة والدنيا، ولكان أجدى عليهم في الدنيا والآخرة من أكلهم السحت والسعي وراء أعراض الدنيا بالحرام، لو أنهم اختاروا الطريق، وهذا من كرمه وجوده، حيث دعاهم إلى التوبة والدخول في الإسلام واستدعاهم ورغبهم في التوبة والإيمان والتقوى، ببيان أنه يحصل لهم في الآخرة تكفير السيئات وجنات النعيم في عاجل الدنيا، مقابل ما يسعون لتحصيل الدنيا بالحرام والكفر.
وأيضا لما تكلموا على التضييق عليهم والعسر الذي عبروا عنه بتلك الكلمة البذيئة في حق الله بقولهم{وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} وما ذلك التضييق عليهم إلا بسبب انحرافهم واعوجاجهم، بين لهم طريق التوسعة عليهم بأنهم لو أنهم آمنوا بما يجب الإيمان به ويدخل دخولا أوليا الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم، كما آمن الناس واتقوا لاتسع عليهم الرزق ودرت عليهم الخيرات فضلا عما ينالونه من غفران الله لسيئاتهم وحسن جزائه الأخروي، وهذه الآية تشمل معاصري الرسول صلى الله عليه وسلم ثم جميع أهل الكتاب في كل وقت.
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ
من اليهود والنصارى على أن المراد بالكتاب الجنس الشامل للتوراة والإنجيل.
وذكروا بهذا العنوان تأكيداً للتشنيع عليهم؛ فإنّ أهليةَ الكتاب توجب إيمانهم به، وإقامتَهم له لا محالة، فكفرُهم به وعدمُ إقامتهم له وهم أهلُه أقبحُ من كل قبيح وأشنعُ من كل شنيع،
أي لو أنهم مع ما عددنا من سيئاتهم، وصدور ما صدر منهم من فنون الجنايات قولاً وفعلاً
آمنوا بما يجب الإيمان به كما طلبه الله منهم وآمنوا بما نفيَ عنهم الإيمان به في هذه السورة فيندرج فيه إيمانهم بالله وحده وإيمانهم برسول الله وبما جاء به من حق ونور، فصدّقوه واتبعوه، والإِيمان بالأَنبياء والكتب كلها {لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ}، وفي الحديث: « اثنان يُؤتَوْن أجرهم مرّتين: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيّه ثُمّ آمن بي (أي عندما بلغته الدّعوة المحمّديّة) فله أجران، ورجل كانت له جارية فأدّبها فأحْسَن تأديبها وعلَّمها ثمّ أعْتَقَها فتزوّجها فله أجران »[5] .
نص على خلاصة ما تقدم:
الطبري والسمرقندي والواحدي والسمعاني والبغوي والزمخشري وابن عطية وابن الجوزي والفخر الرازي والقرطبي والبيضاوي والخازن وأبو حيان وابن كثير والبقاعي وأبو السعود والشوكاني ومقاتل وابن الجوزي والتفسير الميسر المنتخب وغيرهم.
قال اطفيش – التيسير:” {آمَنُوا} بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاءَ به وهو يتضمن الإِيمان بالأَنبياء والكتب كلها، فأَهل الكتاب مشركون إِذا لم يؤمنوا به “.
قال البقاعي:”ولما كان الإيمان أساس جميع الأعمال، قدمه إعلاماً بأنه لا نجاة لأحد إلا بتصديق محمد صلى الله عليه وسلم. هذا مع أنه حقيق باشتداد العناية به لمبالغتهم في كتمان ما عندهم منه صلى الله عليه وسلم فقال: {آمنوا} أي بهذا النبي الكريم وما أنزل إليه من هذا الهدى”[6] .
وَاتَّقَوْا:وخافوا الله تعالى وعذابه بأن جعلوا بينهم وبين الشرك والمعاصي والباطل والمعاصي وقاية، بترك ما كانوا يتعاطون مما عدد في هذه السورة من الشرك بالله وعبادة الطاغوت ومخالفة كتابهم وإِيقاد الحرب والسعي في الأرض فساداً، والإِلحاد في صفات الله وأَفعاله، وأَكل السحت وسائر الكبائر الموبقة والمآثم والمحارم والمعاصي.
وجمع – سبحانه – بين الإِيمان والتقوى، للإِيذان بأن الإِيمان الذي ينجى صاحبه، ويرفع درجاته، هو ما كان نابعا عن يقين وإخلاص وخشية من الله، لا إيمان المنافقين الذين يدعون الإِيمان وهو منهم برئ
لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ
لو فعلوا ذلك لكفرنا أي سترنا عليهم معاصيهم فلم نحاسبهم عليها عنهم ورفعنا عنهم عقاب سيئاتهم التي اقترفوها وسارعوا فيها وإن كانت في غاية العظمة ولم نؤاخذهم بها ولم نفضحهم بها، {لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سيئاتهم}.
واللام في قوله: {لكفّرنا عنهم} وقوله {ولأدخلناها}واقعة في جواب الشرط، يكثر وقوعها في جواب (لَو) إذا كان فعلاً ماضياً مثبتاً وهي تفيد التأكيد تأكيد تحقيق التلازم بين شرط (لو) وجوابها، ويكثر أن يجرّد جواب لو عن اللام، نحو قوله تعالى: {لو نشاء جعلناه أجاجاً} في سورة الواقعة (70).
وفيه إعلام بعظم معاصي اليهود والنصارى وكثرة سيئاتهم، ودلالة على سعة رحمة الله تعالى وفتحه باب التوبة على كل عاص، وإن عظمت معاصيه وبلغت مبالغ سيئات اليهود والنصارى، وأن الإسلام يجُب ما قبله وإن جل، وأن الكتابي لا يدخل الجنة ما لم يسلم.
التكفير: تغطية تامة كثيفة لا يظهر معها شيء من المغطى، ومن مصاديق هذا ظلمة الليل يقال لها كفْر بسكون الفاء وكفَر الليلُ الشيءَ: غطاه، وكفارات الذنوب من صدقة أو نحوها تستر الذنوب وتغطيها فلا ترى ولا يؤاخذ عليها.
وتكفير السيئات: سترها وتغطيتها تغطية تامة حتى تصير بمنزلة ما لم يعمل، وفيها التغطية للأمن من الفضيحة، وفيها معنى الإذهاب والإزالة لأثر السيئات ولهذا يعدى بعن، قال ابن رجب: ولفظ التكفير يتضمن الستر والإزالة.
سَيِّئَاتِهِمْ:
قبائحهم التي عملوها قبل الإسلام، وإن كانت في غاية العظم ونهاية الكثرة؛ لأن الاسلام يجُبُّ ما قبله، ومنها القبائح التي عددناها.
والسيئات: جميع سيئة فَيْعلة من السوء، أصلها: سَيْوِئةَ، صيغت على وزن فَيْعَلَة للمبالغة في قيام الوصف بالموصوف مثل قيّم وسيّد وصيقل وهيّن،ففيها الدلالة على قوة وشدة القبح، ويقابلها الحسنة، مِنْ سَاءَ يَسُوءُ إذَا قَبُحَ، فسيئات: فيعلات، أي: قبيحات جدا،التي يشتد تنكر النفس لها أو تكرّهها.
{وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65)}
في الآخرة مع ذلك جنات النعيم التي فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين ينعمون فيها، فلا تذهب السيئات عنهم فقط بل إنه سبحانه يثيبهم في الآخرة فيدخلهم جنات النعيم مع المسلمين في الاَخرة، وتكرير اللام لتأكيد الوعد.
وَإِضَافَةُ جَنَّاتِ إِلَى النَّعِيمِ تُفِيدُ مُلَازَمَةِ النَّعِيمِ لَهَا، فليس فيها إلا النعيم الخالص عن شائبة ما ينغصه من الكدورات وخوف الزوال؛، فَلَا يَكُونُ فِيهَا مَا يكون فِي جَنَّاتِ الدُّنْيَا مِنَ الْمَتَاعِبِ مِثْلُ الْحَرِّ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ أَوْ شِدَّةِ الْبَرْدِ أَوْ مثل الحشرات، أَوْ مَا يُؤْذِي مِثْلُ شَوْكِ الْأَزْهَارِ وَالْأَشْجَارِ، وأيضا في إضافة الجنات إلى النعيم تنبيه على ما يستحقونه من العذاب لو لم يؤمنوا ويتقوا.
وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ
• المناسبة: لما بيَّن سبحانه في الآية الأولى أنهم لو آمنوا لفازوا بسعادات الآخرة، بين في هذه الآية أيضا أنهم لو آمنوا لفازوا بسعادات الدنيا ووجدوا طيباتها وخيراتها.
• والضمير في قوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التوراة والإنجيل}: يعود إلى أهل الكتاب من اليهود والنصارى الذين فتح الله لهم باب الإِيمان ليدخلوا فيه كي ينالوا رضاه.
• الأصل في مادة (ق، و،م) انتصاب الشيء إلى أعلى ثابتا ومنه قيام الإنسان نحو {الذين يذكرون الله قياما وقعودا} {جدارا يريد أن ينقض فأقامه} {ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها}.
• فالقيام في اللغة هو: الانتصاب المضاد للجلوس والاضطجاع، وللقيام لوازم عرفية مأخوذة من عوارضه اللازمة، فهي أكمل الأحوال وأحسنها وأتمها وأقدر حالات الإنسان على العمل، ولذلك أطلق مجازاً على الإتيان بالتوراة والإنجيل على أحسن أحوالهما وأكملهما من غير اعوجاج ولا تقصير وتوفية حقهما على أقوم الوجوه وأحسنها، تشبيها بالقائم من الناس، إذ هي أظهر هيئات المرء، والإقامة إفعال منه، والهمزة للتعدية.
وفي المراد بإقامة التوراة والإنجيل قولان:
القول الأول: قالوا المراد بالإقامة بعد مجيء الإسلام: فالمراد بإقامتهما، الاعتراف والإقرار بما فيهما من بشارات بصدق النبي صلى الله عليه وسلم والإِيمان بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم والعمل بشرعه، وإذاعة ما فيهما من نعت سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، والدعاء إِليه بلا كتم ولا تحريف شيء منها ولا تغيير ولا حذف لهذه البشارات والإيفاء بالعهود والمواثيق التي أخذت عليهم، وكذلك إقامة الأمور التي اتفقت عليها هذه الكتب من أمور لا تنسخ: من الإيمان بالله الواحد وبجميع رسله وكتبهم، وبما دعت إليه من أصول الأخلاق، وليس المراد مراعاة جميع ما فيهما من الأحكام منسوخة كانت أو غيرها، فإن ذلك ليس من الإقامة في شيء[7] ، بل هي تعطيل لهما وردٌّ لشهادتهما، لأنهما شاهدان بنسخ هذه الأحكام وانتهاءِ وقت العمل بها، لأن شهادتهما بصحة القرآن الذي ينسخها شهادةٌ بنسخ العمل بهذه الأحكام التي في التوراة والإنجيل وخروجها عن كونها من أحكامهما، وأن الأحكام التي يعمل بها هي ما قرره النبي الذي بُشَّرَ في التوراة والإنجيل ببعثه، وذُكر في تضاعيفهما نعُوتُه، فإذن إقامتُهما بيانُ شواهدِ النبوة والعملُ بما قررته الشريعة الإسلامية من الأحكام كما يُفصح عنه قوله تعالى: {وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ من ربّكمْ}[8] فإن إقامة كل الكتب الثلاثة لا تتأتَّى بغير ذلك..قال أبو السعود:” {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التوراة والإنجيل} بمراعاة ما فيهما من الأحكام التي من جملتها شواهدُ نبوةِ النبي صلى الله عليه وسلم ومبشراتُ بِعثتِه، فإن إقامتهما إنما تكون بذلك لا بمراعاة جميع ما فيهما من الأحكام لانتساخِ بعضِها بنزول القرآن فليست مراعاةُ الكلِّ من إقامتهما في شيء”[9] .
• وقال الطبري:”فإن قال قائل: وكيف يقيمون التوراة والإنجيل وما أنزل إلى محمد صلى الله عليه وسلم، مع اختلاف هذه الكتب ونسخ بعضها بعضا؟ قيل: وإن كانت كذلك في بعض أحكامها وشرائعها، فهي متفقة في الأمر بالإيمان برسل الله والتصديق بما جاءت به من عند الله فمعنى إقامتهم التوراة والإنجيل وما أنزل إلى محمد صلى الله عليه وسلم تصديقهم بما فيها والعمل بما هي متفقة فيه وكلّ واحد منها في الخبر الذي فرض العمل به”[10] .
اختار هذا القول: الطبري وأبو حيان ومكي والزمخشري والبيضاوي وأبو السعود والآلوسي والخازن والفخر الرازي والشعراوي والسعدي والقاسمي واطفيش في الهميان والتيسير ومكي والواحدي والجلال والشوكاني والسمرقندي، وجمهور العلماء.
القول الثاني:
قالوا المراد بالإقامة ا قبل مجيء الرسول صلى الله وسلم بدين الإسلام، قالوا لأنه لما تكلم اليهود على التضييق عليهم والعسر الذي عبروا عنه بتلك الكلمة البذيئة في حق الله تعالى بقولهم: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ}، وما ذلك التضييق عليهم إلا بسبب انحرافهم واعوجاجهم الماضي، بين لهم أن هذا من عدم استقامتهم في الماضي: {ولو أنهم أقاموا التوراة}:أي قبل إنزال الإنجيل بالعمل بجميع ما دعت إليه من أصل وفرع وثبات عليها وانتقال عنها {والإنجيل} أي بعد إنزاله كذلك – لصلحت حياتهم الدنيا، ونمت وفاضت عليهم الأرزاق، ولأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم من فيض الرزق، ووفرة النتاج، وصلاح أمر الحياة.. ولكنهم لا يؤمنون ولا يتقون ولا يقيمون منهج الله – إلا قلة منهم في تاريخهم الطويل مقتصدة غير مسرفة على نفسها، فمعنى إقامة التّوراة والإنجيل على هذا إقامة تشريعهما قبل الإسلام، أي لو أطاعوا أوامر الله وعملوا بها سلموا من غَضَبه ولأغدق عليهم نعمَه، فاليهود لم يقيموا أحكامها كما تقدّم آنفاً، وكفروا بالإنجيل ورفضوه، وذلك أشدّ في عدم إقامَته.
اختاره البقاعي وأبو زهرة وسيد قطب وأجازه ابن عاشور وبعض العلماء.

وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ
القول الأول:
المراد بما أنزل إليهم من ربهم القرآن الكريم الذي نزل على قلب هذا النبي الذي بشرت به كتبهم الذي أكمل به الدين؛ لأنهم لما خوطبوا به، كان نازلا إليهم وإنزال الكتاب إلى أحد مجرد وصوله إليه، وإيجاب العمل به وإن لم يكن الوحي نازلاً عليه، والتعبير عن القرآن بـ(أنزل إليهم من ربهم}:
أ) للإيذان بوجوب إقامته عليهم لنزوله اليهم، فهم مخاطبون به، وهو منزل إليهم مع غيرهم، وليسوا خارجين عن التكليف الذي دعا إليه، ب) وللتصريح ببطلان ما كانوا يدعونه من عدم نزوله إلى بني إسرائيل.
وتقديم {إِلَيْهِمُ} للاهتمام بالمقدم والتشويق للمؤخر، والتعبير بـ(ربهم) وإضافة الرب إلى ضميرهم مزيد لطف بهم في الدعوة إلى الإقامة لبيان أن هذا القرآن إنزال من الذي يربيهم بالنعم ويريد خيرهم، ففي القرآن هدايتهم وسعادتهم والرزق الواسع من كل ناحية، وفي إعادة هذه الجملة الكريمة مرتين {وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ} 66، 68، تأكيد لإرادة القرآن الكريم.
اختاره ابن عباس وأبو السعود والآلوسي وسيد طنطاوي والسمعاني والطبراني والطبري والجبائي والصابوني ومكي والقرطبي والفارسي والميسر ومحمد رشيد رضا وأبوز هرة والميسر والماوردي والبغوي القرطبي والطبرسي.
القول الثاني:
المراد سائر ما أوحاه الله تعالى إلى أنبيائهم كزبور داود وحِكَم سليمان أشعياء، وكتاب أرمياء، وكتاب حزقيل وكتاب حبقوق بقافين وكتب دنيال، وفي هذا الاحتمالان الماضيان:
أ) إما المراد بعد مجيء القرآن فالمراد الإيمان بما فيها من البشارة بالنبي صلى الله عليه وسلم وهي مملوءة بالبشائر بمبعثه صلى الله عليه وسلم.
رجحه البقاعي وابو حيان والزمخشري والبيضاوي.
ب) أو المراد قبل الإسلام فالمراد أنهم لو أقاموها قبل البعثة المحمدية لعمهم الخير وأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم.فهو ذم لهم بأنهم لم يقيموها ولا تدبروها، وإنما كان الدين عندهم أماني يتمنونها، وبدعا وتقاليد يتوارثونها. فهم بين غلو وتقصير، وإفراط وتفريط. والمراد أن دهماءهم وسوادهم الأعظم كان كذلك كما يعلم من تواريخهم وتواريخ غيرهم.
الطباطبائي
القول الثالث: الجمع بين القولين
قوله: {وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِمْ مّن رَّبّهِمْ} من سائر كتب الله التي من جملتها القرآن، فإنها كلها وإن نزلت على غيرهم، فهي في حكم المنزلة عليهم لكونهم متعبدين بما فيها
الشوكاني وابن عجيبة وهميان الزاد وأجازه الآلوسي.
الترجيح: الراجح هو القول الأول الذي عليه الجمهور وهو أن المراد بما أنزل إليهم من ربهم هو القرآن الكريم، والتعبير عنه بذلك لما ذكر هناك من الأسرار البلاغية، ولأنه هو المناسب لسياق سورة المائدة التي موضوعها الإيفاء بالعقود التي بين الله وبين عباده أو بين الناس، وما ذكرناه في علاقة الآية بما قبلها أخذا من علمائنا، فالذي يدعوا له التأمل يوضح أن هذا هو الأرجح، وإليك الآيات السابقة على هذه الآية ليتضح الأمر كمال الاتضاح {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ ـ ـ ـ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57) وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (58) قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60) وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ (61) وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63) وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66) يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67) قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69) لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70)}
في دروزة في التفسير الحديث: “ومن المؤولين من صرف جملة: {وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ} إلى القرآن ومنهم من صرفها إلى كتب الله السابقة. والقول الأول معزو إلى ابن عباس. ونحن نراه الأوجه؛ لأن ما أنزل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو منزل إلى الناس جميعا وأهل الكتاب من الجملة، ويعضد هذا الآية الأولى من الآيتين التي تقرر بأنهم لو آمنوا لكفر الله عنهم سيئاتهم؛ حيث إن المقصود إيمانهم برسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن ويعضده ذكر التوراة والإنجيل قبل الجملة، وتعضده أيضا الآيتان (15، 16) من هذه السورة؛ حيث خوطب فيهما أهل الكتاب بأنه قد جاءهم من الله نور وكتاب مبين. وبهذا يزول ما يرد من إشكال في لوم أهل الكتاب على عدم إقامتهم التوراة والإنجيل وإيذانهم بأنهم لو أقاموا لحسنت حالتهم، فالمطلوب منهم أو الواجب عليهم أن يقيموها ويقيموا في الوقت نفسه أحكام ما أنزل إليهم بواسطة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو القرآن.
وقد يرد إشكال آخر، فما دام أن الدعوة الإسلامية موجهة إليهم، وفي حال إيمانهم بها تكون الشريعة الإسلامية التي تقوم على القرآن والسنة النبوية القولية والفعلية هي شريعتهم، فكيف يؤمرون والحالة هذه بإقامة التوراة والإنجيل؟ وجوابا على هذا نقول: إن الآية قد جاءت في معرض التنديد لتقول لأهل الكتاب: إن ما أصابهم من ضيق وعسر إنما أصابهم لأنهم أيضا لم يقيموا أحكام كتبهم ويتبعوا وصاياها، ومن جملة ذلك الإيمان برسالة النبي الأمي صلى الله عليه وآله وسلم الواردة صفته في التوراة والإنجيل على ما شرحناه في سياق آية سورة الأعراف (157) التي تذكر ذلك”.
لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ
الجملة الكريمة استعارة عن سبوغ النعم عليهم، وتوسعة الرزق عليهم، {لأكلوا}: لوسع عليهم أرزاقهم بأن يفيض عليهم بركات من السماء والأرض ويكثر ثمرة الأشجار وغلة الزروع ويرزقهم الجنان اليانعة الثمار من كل جانب وإدخال (من) لبيان جهة المأكول أنه من جهة الفوق والتحت، وأنه يعمهم من جميع جهاتهم بحيث جعلوا مغمورين فيه مع القرب وفيها التأكيد، والأكل من جميع الجهات كناية عن سبوغ النعمة وكثرتها وأنها عمتهم[11].
مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ:
بعد ذكر قبائح أهل الكتاب من التعدي عن حدود الله والكفر بآيات الله ونزول السخط واللعن على جماعتهم أن ذلك كله، جاءت هذه الآية لتبين أنه إنما تلبس به أكثرهم وليسوا جميعهم، وأن منهم أمة معتدلة ليست على هذا النعت وهذا من نصفة الكلام الإلهي حيث لا يضيع حقا من الحقوق ويراقب إحياء أمر الحق وإن كان قليلا.
فهذه الجملة مستأنَفةٌ مبنيّةٌ على سؤال نشأ من مضمون الجملتين المصدّرتين بحرف الامتناع (لو) الدالتين على انتفاء الإيمان والاتقاءِ وإقامةِ الكتب المُنْزلة من أهل الكتاب، كأنه قيل: هل كلُّهم كذلك مصرّون على عدم الإيمان؟، فقيل: (منهم أمة مقتصدة)
القول الأول:
والأمة: الجماعة من الناس الذين يجمعهم دين واحد. أو جنس واحد. أو مكان واحد.
(مقتصدة): أي طائفة معتدلة، من الاقتصاد وهو الاعتدال في أمر الدين لا تغلو بالإفراط ولا تهمل بالتقصير، والمراد به هنا: السير على الطريق المستقيم الذي يوصل إلى الحق والخير، وهو طريق الإِسلام، والمعنى: منهم جماعة مستقيمة على طريق الحق، وهم من دخل منهم في الإِسلام واتبع ما جاء به النبي – صلى الله عليه وسلم وهم المؤمنون منهم كعبد الله بن سلام وأضرابه من اليهود وثمانية وأربعون من النصارى.
والاقتصاد من القصد وهو الاعتدال، وهو افتعل بمعنى اعتمل واكتسب ففيها مبالغة أي مجتهدة في العدل لا غلو ولا تقصير.
{وَكَثِيرٌ منهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ} أي مقولٌ في حقهم هذا القولُ، وساء: أفادت الذم والتعجب أي بئسما يعملون وفيه معنى التعجب
{وكثير منهم} أي بني إسرائيل {سآء ما يعملون} أي ما أسوأ عملهم الذي هم فيه مستمرون على تجديده، من العِناد والمكابرةِ وتحريفِ الحق والإعراض عنه، وهم الأجلافُ المتعصِّبون ككعبِ بن الأشرف وأشباهه والروم ففيه معنى التعجيب، وهم الذين حرفوا الكلم عن مواضعه، وارتكبوا العظائم في عداوة الله ورسوله [12]
مجاهد والسدي وابن زيد واختاره الجبائي أبو السعود وسيد طنطاوي ودروزة واطفيش وأبو زهرة والجلال والآلوسي والبقاعي والقاسمي والزمخشري والواحدي ومكي وابن جزي والبيضاوي وابن الجوزي والقرطبي وأبو علي الجبائي.
وهو الأصح ويدل عليه المضارع: يعملون: مستمرون على تجديده
القول الثاني:
والمقتصد يطلق على المطيع، أي غيرُ مسرف بارتكاب الذنوب، واقف عند حدود كتابهم، لأنّه يقتصد في سَرف نفسه، ودليل ذلك مقابلته بقوله في الشقّ الآخر {ساء ما يعملون}. وقد علم من اصطلاح القرآن التعبير بالإسراف عن الاسترسال في الذنوب، قال تعالى: {قل يا عبادي الّذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله} [الزمر: 53]، ولذلك يقابل بالاقتصاد، أي الحذر من الذنوب، واختير المقتصد لأنّ المطيعين منهم قبْل الإسلام كانوا غير بالغين غاية الطاعة، كقوله تعالى: {فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مُقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله} [فاطر: 32]، فالمراد هنا تقسيم أهل الكتاب قبل الإسلام لأنّهم بعد الإسلام قسمان سيّء العمل، وهو من لم يسلم؛ وسابق في الخيرات، وهم الّذين أسلموا مثل عبد الله بن سَلاَم ومخيريق
القول الثالث: جمع بين القولين:
وقال مجاهد: المقتصدة مسلمة أهل الكتاب قديماً وحديثاً، ونحوه قول ابن زيد: هم أهل طاعة الله من أهل الكتاب. وذكر الزجاج وغيره: أنها الطوائف التي لم تناصب الأنبياء مناصبة المتمرّدين المجاهدين قال ابن عطية وقال مجاهد: المقتصدة مسلمة أهل الكتاب قديماً وحديثاً. قال القاضي أبو محمد: وعلى هذا يتخرج قول الطبري: ولا يقول في عيسى إنه عبد رسول إلا مسلم، وقال ابن زيد: هم أهل طاعة الله من أهل الكتاب، وهذا هو المترجح، وقد ذكر.
يقول علي هاني: للقارئ أن يأخذ بأي قول ورأي ذكره علماؤنا رحمهم الله للآية، فكلها لا تؤدي إلى تعارض آيات القرآن الكريم ولا تعارض مسلمات وثوابت القرآن الكريم، بل هي في الحقيقة على الأقوال التي عليها الجمهور دعوة وترغيب بالإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم وبما يجب الإيمان به ودعوة للتقوى، وللإيمان بالقرآن الذي أنزل إليهم، فالآية عكس ما فسرها هؤلاء.

*************

الآية الثانية: {(قُلْ يَأَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) [المائدة: 68] يقال في هذه الآية ما يقال في سابقتها، ولكي لا أطيل اكتفي نقل ما قاله أبو السعود رحمه في تفسير الآية: قال رحمه الله:
“{قُلْ يا أهل الكتاب} مخاطِباً الفريقين {لَسْتُمْ على شَيء} أيْ دينٍ يُعتدّ به ويليق بأن يسمى شيئاً لظهور بُطلانه ووضوح فساده، وفي هذا التعبير من التحقير والتصغير ما لا غايةَ وراءه {حتى تُقِيمُوا التوراة والإنجيل} أي تراعوهما وتحافظوا على ما فيهما من الأمور التي من جملتها دلائلُ رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم وشواهدُ نبوته، فإن إقامتهما إنما تكون بذلك، وأما مراعاة أحكامهما المنسوخةِ فليست من إقامتهما في شيء، بل هي تعطيل لهما وردٌّ لشهادتهما، لأنهما شاهدان بنسخها وانتهاءِ وقت العمل بها، لأن شهادتهما بصحة ما ينسخها شهادةٌ بنسخها وخروجها عن كونها من أحكامهما، وأن أحكامهما ما قرره النبي الذي بشَّرَ فيهما ببعثه، وذُكر في تضاعيفهما نعُوتُه، فإذن إقامتُهما بيانُ شواهدِ النبوة والعملُ بما قررته الشريعة من الأحكام كما يُفصح عنه قوله تعالى: {وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ من ربّكمْ} أي القرآن المجيد بالإيمان به، فإن إقامة الجميع لا تتأتَّى بغير ذلك، وتقديمُ إقامةِ الكتابين على إقامته مع أنها المقصودةُ بالذات لرعاية حقِّ الشهادة واستنزالِهم عن رتبة الشِّقاق، وإيرادُه بعنوان الإنزال إليهم لما مرّ من التصريح بأنهم مأمورون بإقامته والإيمان به لا كما يزعُمون من اختصاصه بالعرب، وفي إضافة الربِّ إلى ضميرهم ما أشير إليه من اللطف في الدعوة، وقيل: المراد بما أُنزل إليهم كتبُ أنبياءِ بني إسرائيلَ كما مر، وقيل: الكتبُ الإلهية فإنها بأسرها آمرةٌ بالإيمان لمن صدَّقَتْه المعجزةُ ناطقةٌ بوجوب الطاعة له. رُوي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن جماعةً من اليهود قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ألست تقرأ أن التوراة حقٌّ من عند الله تعالى؟ فقال عليه السلام: «بلى »، فقالوا: فإنا مؤمنون بها ولا نؤمنُ بغيرها فنزلت، قوله تعالى: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً منهُم ما أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبّكَ طغيانا وَكُفْراً} جملة مستأنَفةٌ مبيِّنةٌ لشدة شكيمَتِهم وغُلوِّهم في المكابرة والعناد وعدمِ إفادة التبليغ نفعاً، وتصديرُها بالقسم لتأكيد مضمونها وتحقيق مدلولِها، والمرادُ بالكثير المذكور علماؤهم ورؤساؤهم، ونسبةُ الإنزال إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع نسبته فيما مر إليهم للإنباء عن انسلاخِهم عن تلك النسبة {فَلاَ تَأسَ عَلَى القوم الكافرين} أي لا تتأسف ولا تحزن عليهم لإفراطهم في الطغيان والكفر بما تُبلّغه إليهم، فإن غائلتَه آيلةٌ إليهم وتبِعَتَه حائقةٌ لا تتخطاهم، وفي المؤمنين مندوحةٌ 40 لك عنهم، ووضعُ المُظْهر موضعَ المُضمَرِ للتسجيل عليهم بالرسوخ في الكفر “[13].
الآية الثالثة: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47)}في الآية الكريمة قولان مشهوران، وأقوال [14]أقل شهرة وكلها يجوز للقارئ أن يأخذها قد قررها العلماء، ولا تؤدي إلى تعارض آي القرآن:
القول الأول: وهو قول الجمهور: الطبري والواحدي والسمعاني والبغوي والزمخشري والطبرسي وابن الجوزي والقرطبي الثعالبي الجلالين والزمخشري وسيد طنطاوي وأبو زهرة وابن عاشور ورشيد رضا واطفيش.
قالوا: لما كان السياق في ذكر التوراة وأنها حكم بها فترة ثم نسخت، ثم أنزل الله الإنجيل وأمر أهلها أن يحكموا بها ثم نسخت بإنزال القرآن ثم أمر جميع الناس أن يحكموا به، فالكلام ظاهر في تقدير محذوف تقديره “وقلنا”:
{وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ} وهذا المحذوف من جملة ما أَنزل الله في الإِنجيل لا أَمر لهم بعد بعث سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلم بالحكم بالإِنجيل، والتقدير: وآتيناه الإنجيل وقلنا لهم في الإِنجيل وليحكم أَهل الإِنجيل بما أَنزل الله فيه من المواعظ والأَمثال، فيكون هذا إخبارا عما فرض عليهم في ذلك الوقت من الحكم بما تضمنه الإنجيل، ثم حذف القول لأن ما قبله من قوله {وكتبنا وقفينا} يدل عليه، وحَذْفُ القولِ كثيرٌ كقوله تعالى: {والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم} أي يقولون سلام عليكم، ويؤيد هذا التقدير القراءة الأخرى في الآية بكسر اللام على أنها لام تعليل (ولـِيَحكم) أي: وآتيناه الإنجيل لِيَحكم أهلُ الإنجيل بما فيه.، فأما بعد نزول القرآن فـ(الإنجيل) منسوخ.
قال ابن عاشور:” ولا شكّ أنّ هذا الأمر سابق على مجيء الإسلام، فهو ممّا أمر الله به الّذين أرسل إليهم عيسى من اليهود والنّصارى، فعلم أنّ في الجملة قولاً مقدّراً هو المعطوف على جملة {وآتيناه الإنجيل}، أي وآتيناه الإنجيل الموصوف بتلك الصّفات العظيمة، وقلنا: ليحكم أهل الإنجيل، فيتمّ التّمهيد لقوله بعده {ومن لم يحكم بما أنزل الله}، فقرائن تقدير القول مُتظافِرة من أمور عدّة”[15] . وقال سيد قطب:”وقد جعل الله في الإنجيل هدى ونورا وموعظة للمتقين، وجعله منهج حياة وشريعة حكم لأهل الإنجيل.أي إنه خاص بهم، فليس رسالة عامة للبشر – شأنه في هذا شأن التوراة وشأن كل كتاب وكل رسالة وكل رسول، قبل هذا الدين الأخير – ولكن ما طابق من شريعته – التي هي شريعة التوراة – حكم القرآن فهو من شريعة القرآن. كما مر بنا في شريعة القصاص. وأهل الإنجيل كانوا إذن مطالبين أن يتحاكموا إلى الشريعة التي أقرها وصدقها الإنجيل من شريعة التوراة: (وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه) “[16].
وهناك أمر مهم نبه عليه أكثر من عالم أبي زهرة وهو أنه لو فرضنا عدم تقدير كلمة (قلنا)، فإن الكلام لا يدل على بقاء شريعة الإنجيل للنصارى، وذلك لأنه بعد بعث سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم صاروا هم أهل القرآن؛ لأنهم هم الذين يخاطبون برسالته ومعهم غيرهم من الخليقة، فكل الذين يدركون نبيا هم أهل رسالته التي يخاطبون بها، لا فرق بين قريب دان، فـ”أهل الإنجيل” توحي أن العمل بالإنجيل محدود، والسياق يدل على ذلك دلالة بينة ويدعم هذا الفهم، فقد أخبرتنا الآيات أنه سبحانه أنزل التوراة للذين هادوا فهذا يدل على أنها محدودة المدة في العمل والعمل بها مقصور عليهم، ثم قال سبحانه {وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46)}ثم قال سبحانه {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} فالسياق بل النص الواضح أن الرسول صلى الله عليه وسلم وأتباعه مأمورون بالحكم بالقرآن الكريم لأن الإنجيل مدته محدودة لأهل الإنجيل كما كانت مدة الذين هادوا كذلك فشريعة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم قد نسخت ما يخالفها مما سبقها، إذ شريعة القرآن هي المهيمنة على ما عداها، كما قال تعالى: {وأنزلناك إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه}، وهذه الهيمنة توجب العمل بما أقره القرآن، وبطلان العمل بما نسخه منها، وأما أحكامُ الإنجيل المنسوخةُ فليس الحكمُ بهما حكماً بما أنزل الله فيه بل هو إبطالٌ وتعطيلٌ لما أنزل الله، إذ الإنجيل شاهدٌ بنسخ هذه الأحكام وانتهاءِ وقت العمل بها، لأن شهادة الإنجيل بصحة القرآن شهادة بنسخها، وبأن الأحكام التي يرتضيها الله هي أحكام ما بشر به الإنجيل وهو القرآن الذي شهد الإنجيل بصحته.
القول الثاني:
قالوا هذا أمر لأهل الإنجيل بعد نزول القرآن الكريم أن يؤمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم عملا بالبشرى التي في الإنجيل، {وَليَحْكُمْ أَهْلُ الإنجيل بِمَا أَنزَلَ الله فِيهِ} أمرٌ مبتدأٌ لهم بأن يحكموا ويعملوا بما فيه من الأمور التي من جملتها دلائلُ رسالتِه عليه الصلاة والسلام وشواهدُ نبوته وما قرَّرت الشريعة الشريفةُ من أحكامه، وأما أحكامُه المنسوخةُ فليس الحكمُ بهما حكماً بما أنزل الله فيه بل هو إبطالٌ وتعطيلٌ له، إذ هو شاهدٌ بنسخها وانتهاءِ وقت العمل بها، لأن شهادته بصحة ما ينسَخُها من الشريعة شهادةٌ بنسخها، وبأن أحكامَه ما قرَّرتْه تلك الشريعةُ التي شهد بصحتها كما سيأتي في قوله تعالى: {قُلْ يا أهل الكتاب لَسْتُمْ على شَيء حتى تُقِيمُوا التوراة والإنجيل} [المائدة، الآية 67] الآية.
أبو السعود وابن كثير والآلوسي والقاسمي
الراجح: هو الأول الذي عليه الجمهور ويعضده قراءة كسر اللام، والسياق.
وعلى كل الأقوال، يتضح أن ما استدل به الذين يجيزون لأهل التثليث من النصارى واليهود أن يعملوا بكتابهم بعد نزول القرآن، وقالوا: لا يلزمهم العمل بالقرآن ـ يتضح أن هذا القول باطل عاطل لم يقل به أحد من علماء المسلمين قبل زماننا وليس عليه دليل من كتاب ولا سنة ولا نقل عن أحد.

 

[1] إرشاد العقل السليم (3/44)
[2] صحيح مسلم باب وجوب إيمان أهل الكتاب برسالة الإسلام رقم الحديث 240 وقد ذكر الإمام السيوطي سبب ورود هذا الحديث في اللمع في أسباب ورود الحديث/ عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي (المتوفى: 911هـ) قال سبب: أخرج الدارقطني في الافراد عن عبد الله بن مسعود قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله رأيت رجلا من النصاري متمسكا بالانجيل ورجلا من اليهود متمسكا بالتوراة يؤمن بالله ورسوله، ثم لم يتبعك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” من سمع بي من يهودي أو
نصراني ثم لم يتبعني فهو في النار “. ص 90
[3] (1/ 53)
[4] لتتضح علاقة الآية بما قبلها أذكر الآيات التي قبل هذه الآية الكريمة:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57) وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (58) قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60) وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ (61) وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63) وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)}.
[5] مسند الإمام أحمد 19634 وفي صحيح البخاري 3011 ثَلاَثَةٌ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ: الرَّجُلُ تَكُونُ لَهُ الأَمَةُ، فَيُعَلِّمُهَا فَيُحْسِنُ تَعْلِيمَهَا، وَيُؤَدِّبُهَا فَيُحْسِنُ أَدَبَهَا، ثُمَّ يُعْتِقُهَا فَيَتَزَوَّجُهَا فَلَهُ أَجْرَانِ، وَمُؤْمِنُ أَهْلِ الكِتَابِ، الَّذِي كَانَ مُؤْمِنًا، ثُمَّ آمَنَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [ص:61]، فَلَهُ أَجْرَانِ، وَالعَبْدُ الَّذِي يُؤَدِّي حَقَّ اللَّهِ، وَيَنْصَحُ لِسَيِّدِهِ “،
[6] نظم الدرر (6 /224)
[7] الذي نحن فيه غير الخلاف في أصول الفقه هل شرع من قبلنا شرع لنا: قال محمد بن الحسن بن العربيّ في الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلاميفقهنا مبتكر ليس مقبتسًا, فهو كالعلم المرتجل؛ إذ نبينا -صلى الله عليه وسلم- النبي الأمي، وأمته التي بُعِثَ فيها بدوية، لم تكن لها في زمن تكوين الفقه حضرية تتمكن بها من الاقتباس من الكتب قبلها، ففقهنا مقتبس من قرآننا وسنة نبينا، ناشيء بنشأتهما.
أما من قال من علمائنا: إن شرع من قبلنا شرع لنا.
فليس مراده أننا نطالع توراتهم مثلًا ونقتبس منها الأحكام, فهذا لا قائل به, وإنما مرادهم أن ما ورد في القرآن والسنة حكاية عن وقائع الأمم السالفة ونوازلها الفقهية إذا لم يقيم دليل على نسخه يكون شرعًا لنا, لكون الشرع قرره ولم ينكره, فحكايته له وعدم إنكاره بمنزلة قوله: اعملوا به، كقوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} الآية1، أما كتب الكتابيين فلا يجوز لنا أن نأخذ منها الأحكام أصلًا, لقوله -عليه الصلاة والسلام: “لا تصدقوهم ولا تكذبوهم, وقولوا آمنًّا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم” (1/76).
[8] قال أبو السعود في تفسير {(قُلْ يَأَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} أبو السعود -{قُلْ يا أهل الكتاب} مخاطِباً الفريقين {لَسْتُمْ على شَيء} أيْ دينٍ يُعتدّ به ويليق بأن يسمى شيئاً لظهور بُطلانه ووضوح فساده، وفي هذا التعبير من التحقير والتصغير ما لا غايةَ وراءه {حتى تُقِيمُوا التوراة والإنجيل} أي تراعوهما وتحافظوا على ما فيهما من الأمور التي من جملتها دلائلُ رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم وشواهدُ نبوته، فإن إقامتهما إنما تكون بذلك، وأما مراعاة أحكامهما المنسوخةِ فليست من إقامتهما في شيء، بل هي تعطيل لهما وردٌّ لشهادتهما، لأنهما شاهدان بنسخها وانتهاءِ وقت العمل بها، لأن شهادتهما بصحة ما ينسخها شهادةٌ بنسخها وخروجها عن كونها من أحكامهما، وأن أحكامهما ما قرره النبي الذي بشَّرَ فيهما ببعثه، وذُكر في تضاعيفهما نعُوتُه، فإذن إقامتُهما بيانُ شواهدِ النبوة والعملُ بما قررته الشريعة من الأحكام كما يُفصح عنه قوله تعالى: {وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ من ربّكمْ} أي القرآن المجيد بالإيمان به، فإن إقامة الجميع لا تتأتَّى بغير ذلك، وتقديمُ إقامةِ الكتابين على إقامته مع أنها المقصودةُ بالذات لرعاية حقِّ الشهادة واستنزالِهم عن رتبة الشِّقاق
[9] إرشاد العقل السليم (2 / 350).
[10] جامع البيان (10 / 462).
[11] قال البقاعي {لأكلوا} أي لتيسر لهم الرزق، وعبّر بـ ” من ” لأن المراد بيان جهة المأكول لا الأكل {من فوقهم}، ولما كان ذلك، قال موضحاً له معبراً بالأحسن ليفهم غيره بطريق الأولى: {ومن تحت أرجلهم} أي تيسراً واسعاً جداً متصلاً لا يحصر، أو يكون كناية عن بركات السماء والأرض، فبين ذلك أنه ما ضربهم بالذل والمسكنة إلا تصديقاً
قال أبو السعود: ومفعول (أكلوا) محذوف بقصد التعميم، أو للقصد إلى نفس الفعل كما في قوله: فلان يعطي ويمنع، و(مِنْ) في الموضعين لابتداء الغايةاطفيش – الهميان: {لأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرجُلِهِم}: من للابتداء، والكلام عبارة عن توسيع الرزق، كأنه قيل لأفيض عليهم الرزق من كل جهة، وجعلوا مغمورين فيه، فان هذا مما يعبر به عن توسيعه.
[12] قال أبو حيان: فالجملة الأولى جاءت منهم أمة مقتصدة، جاء الخبر الجار والمجرور، والخبر الجملة من قوله: ساء ما يعملون، وبين التركيبين تفاوت غريب من حيث المعنى، وذلك أن الاقتصاد جعل وصفاً، والوصف ألزم للموصوف من الخبر، فأتى بالوصف اللازم في الطائفة الممدوحة، وأخبر عنها بقوله: منهم، والخبر ليس من شأنه اللزوم ولا سيما هنا، فأخبر عنهم بأنهم من أهل الكتاب في الأصل، ثم قد تزول هذه النسبة بالإسلام فيكون التعبير عنهم والإخبار بأنهم منهم، باعتبار الحالة الماضية
وأما في الجملة الثانية فإنهم منهم حقيقة لأنهم كفار، فجاء الوصف بالإلزام، ولم يجعل خبراً، وجعل خبر الجملة التي هي ساء ما يعملون، لأن الخبر ليس من شأنه اللزوم، فهم بصدد أن يسلم ناس منهم فيزول عنهم الإخبار بمضمون هذه الجملة
[13] إرشاد العقل السليم (3 / 62).
[14] قد لخصها كلها أبو حيان قائلا:” {وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه} أمر تعالى أهل الإنجيل أن يحكموا بما أنزل الله فيه من الأحكام ويكون هذا الأمر على سبيل الحكاية، وقلنا لهم: احكموا، أي حين إيتائه عيسى أمرناهم بالحكم بما فيه إذ لا يمكن ذلك أن يكون بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، إذ شريعته ناسخة لجميع الشرائع، أو بما أنزل الله فيه مخصوصاً بالدلائل الدالة على نبوّة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قول الأصم، أو بخصوص الزمان إلى بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو عبر بالحكم بما أنزل الله فيه عن عدم تحريفه وتغييره، فالمعنى: وليقرأه أهل ,الإنجيل على الوجه الذي أنزل لا يغيرونه ولا يبدلونه، وهذا بعيد “. البحر المحيط (4/280).
[15] التحرير والتنوير (6/ 219).
[16] ظلال القرآن (2/900).