إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين (29) بحث مفصل بقلم الشيخ علي هاني

يقدم لنا فضيلة الشيخ بحثاً في المنظور القرآني لعلاقة الإسلام والمسلمين باليهود والنصارى، وذلك من خلال دراسة الآيات الواردة بخصوصهم، وتركيز البحث في الدرجة الأولى على آية {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:62] وعلى ما يشبهها في المائدة والحج، ملخصاً وشارحاً ومستدلاً بأهم ما جاء في كتب التفسير في هذا الموضوع.

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الدليل السادس: دينهم يخالف دين الإسلام الذي عرفه القرآن
من المُسَلَّمات أن القرآن يفسّر بعضه بعضاً، والكتاب العزيز قد عرَّف حقيقة الإسلام المقبول عند الله تعالى في آيات كثيرة، وكلها تُعَرِّف الإسلام أنه دين التوحيد الذي لا شرك فيه، ودين الإيمان بجميع الرسل وبجميع الكتب،و سأذكر بعض المواضع التي تبين هذا لنرى أن شروط الإيمان لا تنطبق على هذه الفرق الثلاثة اليهود والنصارى والصابئة:
المجموعة الأولى: {قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84)}(آل عمران: 84) ثم قال مباشرة بعدها: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الاِْسْلاَمِ ديناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ)(آل عمران، 85) فالآية الأولى طلبت من المسلمين الإيمان بالله الواحد وبكل الكتب وبكل الرسل من غير تفريق ثم قالت:” ومن يبتغ غير الإسلام دينا”، فهذا هو الإسلام المرضي عند الله تعالى.
قال البقاعي: ” {ومن يبتغ} أي يتطلب {غير} دين {الإسلام} الذي هو ما ذكر من الانقياد لله سبحانه وتعالى المشتمل على الشرائع المعروفة التي أساسها الإيمان بعد التلبس به حقيقة بإظهار اتباع الرسل ـ ـ، وكرر الإسلام في هذا السياق كثيراً لكونه في حيز الميثاق المأخوذ بمتابعة الرسول المصدق حثاً على تمام الانقياد له والقصد الأعظم بهذا أهل الكتاب مع العموم لغيرهم لإقرارهم بهذا النبي الكريم وتوقعهم له، عالمين قطعاً بصدقه لما في كتبهم من البشارة به” . [1]
وقال أبو السعود:”(غَيْرَ الاِْسْلاَمِ: أي غيرَ التوحيد والانقيادِ لحكم الله تعالى كدأب المشركين صريحاً والمدّعين للتوحيد مع إشراكهم كأهل الكتابين {فَلَن يُقْبَلَ} ذلك{مِنْهُ} أبداً بل يُردّ أشدَّ ردَ وأقبحَه”[2]

***********

المجموعة الثانية: قال تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا [3]بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20) إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (22)}(آل عمران 18ـ 22)، نلاحظ الترتيب العجيب بين الآيات في بيان حقيقة الإسلام التي لا تدع مجالا لمشكك، فالآية الأولى تقرر الوحدانية وتؤكدها وتبين أن الله سبحانه قد شهد عليها والملائكة وأولوا العلم كذلك، وفي {شَهِدَ} مسنداً إلى الله تعالى استعارة تصريحية تبعية لأن المراد أنه سبحانه دل على وحدانيته وعلى سائر كمالاته بأفعاله الخاصة التي لا يقدر عليها غيره، وما نصبه من الدلائل التكوينية في الآفاق والأنفس، وبما أوحى من آياته الناطقة بذلك كسورة الإخلاص، وآية الكرسي وغيرهما فشَبَّه سبحانه تلك الدلالة الواضحة بشهادة الشاهد في البيان والكشف ثم استعير لفظ المشبه به للمشبه ثم سرت الاستعارة من المصدر إلى الفعل.
وأما شهادة الملائكة بذلك فنستفيدها بإخبار الله لنا بذلك وإخبار رسله.
وأما شهادة أهل العلم فلأنهم هم المرجع في جميع الأمور الدينية خصوصا في أعظم الأمور وأجلها وأشرفها وهو التوحيد، فهم بذكر الأدلة وإقامتها على التوحيد يشهدون بهذه الوحدانية، فكلهم من أولهم إلى آخرهم قد اتفقوا على ذلك ودعوا إليه وبينوا للناس الطرق الموصلة [4]
هذه هي الآية الأولى، ثم جاء في الآية التي بعدها {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} وهذه جملةٌ مستأنفة مؤكدةٌ للأولى أي لا دينَ مرضياً لله تعالى سوى الإسلام الذي هو التوحيدُ والتدرُّع بالشريعة الشريفة، وتوكيد الكلام {بإنّ} تحقيق لما تضمنَّه من حصر حقيقة الدين عند الله في الإسلام: أي الدين الكامل فقوله: {إن الدين عند الله الإسلام} صيغة حصر، وهي تقتضي في اللسان حصر المسند إليه، وهو الدين، في المسند، وهو الإسلام، على قاعدة الحصر بتعريف جزئي الجملة، أي لا دين إلا الإسلام، وقد أكّد هذا الانحصار بحرف التوكيد، وعن قتادة ” والإسلام: شهادة أن لا إلَه إلا الله، والإقرار بما جاء به من عند الله، وهو دين الله الذي شرع لنفسه، وبعث به رسله، ودل عليه أولياءه، لا يقبل غيره ولا يجزى إلا به”[5].
فـ(ال) في الدين للجنس، فجنس الدين عند الله الإسلام في كل التاريخ هو الإسلام، ولما كان ذلك مصرحاً بأنه لا دين عنده غيره كان كأن قائلاً: فمن أين جاءت اليهودية والنصرانية إذا كان الإسلام هو دين جميع الأنبياء، {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} فبينت الآية أن اليهودية والنصرانية طارئة خالفوا فيها الإسلام، اختلافا ناشئا عن علم لا عن جهل فبعد أن عرفوا الحق وتبين لهم اختلقوا الأباطيل والشركيات فيه، وما اختلفوا في حال من الأحوال أو في وقت من الأوقات إلا بعد أن علموا حقيقةَ الأمرِ وتمكّنوا من العلم بها بالحُجج النيّرة والآيات الباهرةِ وفيه من الدِلالة على ترامي حالِهم في الضلالة ما لا يزيد عليه، فإن الاختلافَ بعد حصول تلك المرتبةِ مما لا يصدر عن العاقل وقوله تعالى: {بَغْياً بَيْنَهُمْ} أي حسداً واعتداء وظلما وبغيا كائناً بينهم وطلباً للرياسة لا لشبهة وخفاءٍ في الأمر، تشنيعٌ إثرَ تشنيعٍ.
{وَمَن يَكْفُرْ بآيات الله} أي بآياته الناطقةِ بما ذكر من أن الدينَ عند الله تعالى هو الإسلامُ ولم يعمَلْ بمقتضاها {فَإِنَّ الله سَرِيعُ الحساب} قائمٌ مقامَ جوابِ الشرطِ علةٌ له أي ومن يكفرْ بآياته فإنه يجازيه ويعاقبه عن قريب فإنه سريعُ الحساب أي يأتي حسابُه عن قريب أو يتم ذلك بسرعة، وإظهارُ الجلالة لتربية المهابة وإدخالِ الروعة، وفي ترتيب العقاب على مطلق الكفرِ بآياته تعالى من غير تعرضٍ لخصوصية حالِهم – من كون كفرِهم بعد إيتاء الكتاب وحصولِ الاطلاع على ما فيه وكونِ ذلك للبغي – دلالةٌ على كمال شدة عقابهم
وحرف (من) في (إلا من بعد ما جاءهم العلم)أفاد:
أ‌) أن اختلافهم مبتدِئ ومنطلِق من مجيء البينات والعلم فهم جاءتهم البينات، ومن شأن البينات أن تزيل الخلاف وتحسم النزاع إن احتكموا إليه واهتدوا بهديه فجعلُوا ما يوجبُ زوالَ الخلافِ مُوجباً لرسوخهِ ففيه تشنيع حال الذين أوتوه بأن كانوا أسوأ حالاً من المختلفين في الحق قبل مجيء الشرائع، لأن أولئك لهم بعض العذر بخلاف الذين اختلفوا بعد كون الكتاب بأيديهم
ب‌) وتدل من مع ابتداء الغاية على التوكيد للتوبيخ في سياق التشديد لذلك لم يرد في القرآن {إلا بعد}والتأكيد واضح جدا أي إن الخلاف كان في حالة تقررت فيها دلائل الحق في نفوس المختلفين.
ت‌) وتدل كذلك على القرب أي اختلافهم حصل بعد فترة قصيرة لم يطل الزمان حتى يتطرق إلى علمهم نسيان وهذا فيه تقبيح صورة فعلهم، وأنها كانت تغييرا واختلافا سريعا عقيب مجيء البينات[6].
ثم قال بعدها:” (فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) [آل عمران: 20]
{فَإنْ حَاجُّوكَ} أي في كون الدين عند الله الإسلامَ أو جادلوك فيه بعد ما أقمت عليهم الحجج {فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ} أي أخلصتُ نفسي وقلبي وجملتي، وإنما عبر عنها بالوجه لأنه أشرفُ الأعضاء الظاهرة ومظهرُ القُوى والمشاعر ومجمعُ معظم ما تقع به العبادةُ من السجودِ والقراءة وبه يحصل التوجُّه إلى كل شيء {لِلَّهِ} لا أشرك به فيها غيرَه وهو الدينُ القويم الذي قامت عليه الحججُ ودعت إليه الآياتُ والرسلُ عليهم السلام {وَمَنِ اتبعن} عطفٌ على المتصل في أسلمتُ وحسُن ذلك لمكان الفصل الجاري مجرى التأكيد بالمنفصل أي وأسلم من اتبعني أو مفعول معه
{وَقُلْ لّلَّذِينَ أُوتُواْ الكتاب} أي من اليهود والنصارى، وُضِع الموصولُ موضعَ الضمير لرعاية التقابل بين وصفي المتعاطِفَيْن {والأميين} أي الذين لا كتابَ لهم من مشركي العرب {أأَسْلَمْتُمْ} متّبعين لي كما فعل المؤمنون فإنه قد أتاكم من البينات ما يوجبه ويقتضيه لا محالة فهل أسلمتم وعمِلتم بمقتضاها، أو أنتم على كفركم بعدُ؟ كما يقول من لخّص لصاحبه المسألة ولم يدَعْ من طرق التوضيح والبيان مسلكاً إلا سلكه فهل فهِمتها؟ على منهاج قوله تعالى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} [المائدة، الآية 91] إثرَ تفصيلِ الصوارفِ عن تعاطي الخمر والميسِر وفيه من استقصارهم وتعبيرِهم بالمعاندة وقلةِ الإنصافِ وتوبيخِهم بالبلادة وكلّة القريحةِ ما لا يخفى.
{فَإِنْ أَسْلَمُواْ} أي كما أسلمتم وإنما لم يصرّح به كما في قوله تعالى: {فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ} حسماً لباب إطلاق اسم الإسلام على شيء آخر بالكلية {فَقَدِ اهتدوا} أي فازوا بالحظ الأوفر ونجَوْا عن مهاوي الضلال {وَإِن تَوَلَّوْاْ} أي أعرضوا عن الاتباع وقَبول الإسلام {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ} قائم مقامَ الجواب أي لم يضرّوك شيئاً إذْ ما علي إلا البلاغُ وقد فعلت على أبلغِ وجه[7].
ثم قال سبحانه {(إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) [آل عمران: 21]
{إِنَّ الذين يَكْفُرُونَ بآيات الله} أيَّ آيةٍ كانت فيدخُل فيهم الكافرون بالآيات الناطقةِ بحقية الإسلام على الوجه الذي مر تفصيلُه دخولاً أولياً.
{وَيَقْتُلُونَ النبيين بِغَيْرِ حَقّ} هم أهلُ الكتاب قتل أوّلوهم الأنبياءَ عليهم السلام وقتلوا أتباعَهم وهم راضون بما فعلوا وكانوا – قاتلهم الله تعالى – حائمين حول قتلِ النبي صلى الله عليه وسلم لولا أن عصَم الله تعالى ساحتَه المنيعة، وقد أُشير إليه بصيغة الاستقبال،، والتقييدُ بغير حق لزيادة التشنيع والتصريح بفظاعته وللإيذان بأنه كان عندهم أيضاً بغير حق {وَيَقْتُلُونَ الذين يَأْمُرُونَ بالقسط مِنَ الناس} أي بالعدل، ولعل تكريرَ الفعل للإشعار بما بين القتلين من التفاوت أو باختلافهما في الوقت.
ثم قال سبحانه (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ) [آل عمران: 23].
{أَلَمْ تَرَ} تعجيبٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل من يتأتى منه الرؤيةُ من حال أهل الكتاب وسوءِ صنيعِهم، وتقرير لما سبق من أن اختلافهم في الإسلام إنما كان بعد ما جاءهم العلم بحقّيته أي ألم تنظر {إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيبًا مّنَ الكتاب} أي التوراةِ على أن اللامَ للعَهدْ ومدار التشنيع والتعجيب إنما هو إعراضُهم عن المحاكمة إلى ما دُعوا إليه وهم لم يُدْعَوا إلا إلى التوراة، والمرادُ بما أوتوه منها ما بُيِّن لهم فيها من العلوم والأحكام التي من جملتها ما علِموه من نعوت النبي صلى الله عليه وسلم وحقّية الإسلام، والتعبيرُ عنه بالنصيب للإشعار بكمال اختصاصِه بهم وكونِه حقاً من حقوقهم التي يجبُ مراعاتُها والعملُ بموجبها وما فيه من التنكير للتفخيم، وحملُه على التحقير لا يساعده مقامُ المبالغة في تقبيح حالِهم {يُدْعَوْنَ إلى كتاب الله} الذي أوتوا نصيباً منه وهو التوراة، والإظهارُ في مقام الإضمار لإيجاب الإجابة، وإضافتُه إلى الاسم الجليلِ لتشريفه وتأكيدِ وجوب المراجعةِ إليه، والجملةُ استئنافٌ مبيِّنٌ لمحل التعجيب مبنيّ على سؤال نشأ من صدر الكلام كأنه قيل: ماذا يصنعون حتى ينظُرَ إليهم؟ فقيل: يُدعون إلى كتاب الله تعالى، وقيل: حال من الموصول {لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مِدراسَهم فدعاهم إلى الإيمان فقال له نعيمُ بن عمرو، والحارث بن زيد: على أيّ دين أنت؟ قال عليه الصلاة والسلام: « على ملة إبراهيم » قالا: إن إبراهيمَ كان يهودياً فقال صلى الله عليه وسلم لهما: « إن بيننا وبينكم التوراةَ فهلُمّوا إليها » فأبيا. وقيل: نزلت في الرجم وقد اختلفوا فيه وقيل: {كتاب الله} القرآنُ فإنهم قد علموا أنه كتابُ الله ولم يشكوا فيه، وقرئ ليُحكَم على بناء المجهول فيكون الاختلافُ بينهم بأن أسلم بعضُهم كعبد اللَّه بن سلام وأضرابه وعاداهم الآخرون {ثُمَّ يتولى فَرِيقٌ مّنْهُمْ} استبعاد لتولّيهم بعد علمِهم بوجوب الرجوع إليه {وَهُم مُّعْرِضُونَ} إما حال من {فَرِيقٌ} لتخصصه بالصفة أي يتولون من المجلس وهم معرضون بقلوبهم، أو اعتراضٌ أي وهم قوم ديدنُهم الإعراضُ عن الحق والإصرارُ على الباطل[8].
يقول علي هاني: قل لي بالله عليك هل بعد هذا من توضيح لحقيقة الإسلام ووجوب اتباعه والعمل بالقرآ ن وكفر اليهود والنصارى ويقاس عليهم الصابئة.

***********

المجموعة الثالثة: وقال تعالى {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29) وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ 35}(التوبة:29ـ 35).
قد شرحنا من قبل الآية الأولى، وأما الآية الثانية هنا فقد بيَّن سبحانه ما يقوله بعض اليهود من أن عزيرا بن الله، وما تقوله النصارى: أن المسيح ابن الله، وأنهم يماثلون بهذا المشركين الوثنين فهذه العقيدة طارئة على دين عيسى عليه السلام أدخلها بولس أخذا من المشركين، قال أبو زهرة: “والنصارى قالوا المسيح ابن الله، قال بولس، وهو أول من ادعى ألوهية المسيح، ولكنه لم يقله أحد من الحواريين أصحاب الرسول إلا ما قال يوحنا في إنجيل منسوب إليه، وقد كذبته دائرة المعارف الإنجليزية، وقالت إن الذي كتبه في القرن الثالث تلميذ من تلامذة الأفلاطونية الحديثة، واستمر سائدا بين المسيحيين أن المسيح ليس إلها ولا ابن إله، حتى جاء مجمع (نيقية) سنة325 فقرر 318 أسقفا من 2048 ألوهية المسيح، وفرض ذلك فرضا على المسيحيين، وبذلك كان التغيير الذي ذكره القرآن ثم كان من بعد ذلك مجمع كهذا المجمع قرر ألوهية روح القدس، فكانوا ثلاثة، ولا شك أن ذلك كفر بل إشراك.
{ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ}أي أن ذلك القول قول تردده أفواههم بألسنتهم، ولا يدركون له حقيقة يتصورونها، فهم يرددون: الواحد ثلاثة، والثلاثة واحد، وإذا سألتهم عن مميزات كل واحد، وكيف يجتمعون، لم يحيروا جوابا إلا أن يقولوا هذه غيبيات يصدقها العقل الديني، ولا يصدقها العقل والمنطق، ويقولون الآن كما قال بعضهم في القرن الرابع المسيحي: إنها صفات ثلاثة للإله، ولو سألتهم هل المسيح الذي ولدته أمه مريم من غير أب صفة، وليس ذاتا كانت تمشي في الأسواق، وتعظ، وقتله – في زعمهم – الرومان وصلبوه، وجعلتم الصليب، قالوا: إن اللاهوت دخل الناسوت، أو ولد اللاهوت والناسوت، ولم يستطيعوا أن يصورا ما يقولون تصويرا تدركه العقول.
ومما يجب ذكره أنهم في الزوبعة التي أثارها قسطنطين الروماني الوثني الذي حول النصرانية إلى وثنية عندما أراد دخولها، وذلك في مجمع نيقية آنف الذكر – وجد الأكثرون من بينهم يستنكرون الألوهية، ولكن ما زالوا يعذبونهم، ويطردونهم، حتى وسدوا فكرة الألوهية توسيدا.
وممن أعلن معارضتهم نسطورس الذي أقر بالنبوة التي ادعاها بولس، ولكنه قال إنها بنوة محبة ثم سادت بعد بين أتباع (نيتشة) عندما ساد التثليث فكرة الثلاثة سموها صفات، وجاء بعض المسيحين في هذه الأيام لما أحسوا باستنكار العقول لعقيدتهم الباطلة، واستحسن كلمة الصفات وهي الأخرى غير معقولة، فذات المسيح المصلوب في زعمهم الذي ولد وعاش وقتل ودفن ثم قام من قبره لا يمكن أن تكون صفة، إذ الصفة غير الذات.
وإن هذا التثليث هو بذاته اعتقاد الأفلاطونية الحديثة، اختاره قسطنطين، ومن تبعه دينا لهم (1)وما أبلغ قوله تعالى في تصوير حالهم، إذ يقول: {ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ}، فهو ليس إلا ألفاظا تردد من غير تصور لمعناها، ويلقنونها لمن يدعونهم إليها، ويستعينون بطرق الاستهواء المختلفة، والخمور، ليودعوها عقولا ضالة بهم.
وقال الله تعالى: {يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ} يضاهئون أي يشابهون قول الذين كفروا، وذكر الله تعالى الذين كفروا ولم يبين من هم فقيل المشركون، ولا شك أن وصف الذين كفروا ينطبق عليهم، وهم يشابهونهم في أنهم أشركوا في العبادة غير الله، كما أشرك أولئك الأوثان، وإني أقول إن المشابهة ليست بعيدة الأركان بل ثابتة القرب واضحة، ويدخل معهم أيضا عبدة الأوثان من غير العرب أيضا، وهم البرهمية، فهم قالوا إن للإله ابنا، فالبراهمة قالوا إن كرشنة ابن لبراهما، وقال البوذيون: إن بوذا ابن للإله، كما قال النصارى، ويظهر أن موجة من ادعاء البنوة كانت سائدة في القرن الخامس قبل ميلاد المسيح أخذت منها وثنية النصارى في القرن الرابع مع الأفلاطونية الحديثة عقيدتها الباطلة، ولعل الأفلاطونية الحديثة ذاتها قد أخذت من الهنود، فقد ثبت أن كبيرها ذهب إلى الهند، وعاد[9] بعقيدته”[10]
ثم جاءت الآية الثالثة: {هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ} فالله هو الذي أرسل رسوله ملتبساً {بالهدى} أي القرآنَ الذي هُو هدى للمتقين ليُظهرَ الدينَ الحقِّ على سائر الأديان بنسخه إياها يعليه على سائر الأديان بالحجة ثم بغلبة الإسلام على جميع الأرض وعلى جميع الأديان فيدحض جميع الأديان ويزيلها، فكيف يقول القرآن هذا ثم يقال: كل الأديان حق وكلها موصلة لله مرادة لله سبحانه؟!
ثم الآية الرابعة: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) [التوبة: 31]
“{اتخذوا} زيادةُ تقريرٍ لما سلف من كفرهم بالله تعالى {أحبارهم} وهم علماءُ اليهود، {ورهبانهم} وهم علماءُ النصارى من أصحاب الصوامعِ أي اتخذ كلُّ واحد من الفريقين علماءَهم لا الكلُّ الكلَّ {أَرْبَابًا من دُونِ الله} بأن أطاعوهم في تحريم ما أحله الله تعالى وتحليلِ ما حرمه قال عدي بن حاتم: أتيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليبٌ من ذهب وكان إذ ذاك على دين يسمَّى الركوسية ـ فريق من النصارى ـ وهو يقرأ سورةَ براءة فقال: « يا عديُّ اطرَحْ هذا الوثنَ » فطرحتُه فلما انتهى إلى قوله تعالى: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أَرْبَاباً من دُونِ الله} قلت: يا رسولَ الله لم يكونوا يعبُدونهم، فقال عليه الصلاة والسلام: « أليس يحرِّمون ما أحل الله فتُحرِّمونه ويُحِلّون ما حرم الله فتَستحلّونه؟ » فقلتُ: بلى، قال: « ذلك عبادتُهم » قال الربيع: قلت لأبي العالية: كيف كانت تلك الربوبيةُ في بني إسرائيلَ؟ قال: إنهم ربما وجدوا في كتاب الله تعالى ما يخالف أقوالَ الأحبارِ فكانوا يأخُذون بأقوالهم ويترُكون حُكمَ كتابِ الله {والمسيح ابن مَرْيَمَ} عطفٌ على رهبانهم أي اتخذه النصارى رباً معبوداً بعد ما قالوا إنه ابنُه، تعالى عن ذلك علواً كبيراً، وتخصيصُ الاتخاذِ به يشير إلى أن اليهودَ ما فعلوا ذلك بعزيرٍ، وتأخيرُه في الذكر مع أن اتخاذَهم له عليه الصلاة والسلام رباً معبوداً أقوى من مجرد الإطاعةِ في أمر التحليل والتحريمِ كما هو المرادُ باتخاذهم الأحبارَ والرهبانَ أرباباً، لأنه مختصٌّ بالنصارى، ونسبتُه عليه الصلاة والسلام إلى أمه من حيث دلالتُها على مربوبيته المنافيةِ للربوبية للإيذان بكمال ركاكةِ رأيِهم والقضاءِ عليهم بنهاية الجهل والحماقة.
{وَمَا أُمِرُواْ} أي والحالُ أن أولئك الكفرةَ ما أُمروا في كتابيهم {إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إلها واحدا} عظيمَ الشأنِ هو الله سبحانه وتعالى ويطيعوا أمرَه ولا يطيعوا أمرَ غيرِه بخلافه، فإن ذلك مُخِلٌّ بعبادته تعالى فإن جميعَ الكتبِ السماوية متفقةٌ على ذلك قاطبةً وقد قال المسيح عليه السلام: (إنه من يشرِكْ بالله فقد حرم الله عليه الجنة) {لاَ إله إِلاَّ هُوَ} صفةٌ ثانيةٌ لإلها أو استئنافٌ مقرِّرٌ للتوحيد {سبحانه عَمَّا يُشْرِكُونَ} عن الإشراك به في العبادة والطاعةِ [11] “،يقول علي هاني: الآيات أوضح من الشمس في رابعة النهار في العقيدة الصحيحة، وبطلان ما يقولونه من نجاة النصارى واليهود وأنهم لهم أن يتعبدوا بالتوراة والإنجيل المحرفة بعد نزول القرآن الكريم.

 

[1] نظم الدرر (4/476)
[2] إرشاد العقل السليم (2/55).
[3] قال ابن عاشور: والقيام هنا بمعنى المواظبة كقوله: {أفمن هو قائم على كلّ نفس بما كسبت} [الرعد: 33] وقوله: {ليقوم الناس بالقسط} [الحديد: 25] وتقول: الأمير قائم بمصالح الأمة، كما تقول: ساهر عليها، ومنه « إقام الصلاة » وهو في الجميع تمثيل.شبهت المحافظة والمواظبة والمداومة بالقيام، والعناية بها وإيفاءها حقها والإتيان بها على أحسن احوالها، وعدم تضييعها ب بقيام أحد مستقيما في أحسن أحواله أو مجاز مرسل كما سبق مجاز مرسل من قبيل ذكر المسبب وإرادة السبب ولما قرر توحيده قرر عدله، فقال: {قائمًا بالقسط} أي: لم يزل متصفا بالقسط في أفعاله وتدبيره بين عباده، فهو على صراط مستقيم في ما أمر به ونهى عنه {قَائِمَاً بالقسط} مقيماً للعدل فيما يقسم من الأرزاق والآجال، ويثيب ويعاقب، وما يأمر به عباده من إنصاف بعضهم لبعض والعمل على السوية فيما بينهم قال الطباطبائي:وثانيا: أن قوله تعالى: {قائما بالقسط} حال من فاعل قوله: {شهد الله}، والعامل فيه شهد، وبعبارة أخرى قيامه بالقسط ليس بمشهود له لا له تعالى ولا للملائكة وأولي العلم بل الله سبحانه حال كونه قائما بالقسط يشهد أن لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم يشهدون بالوحدانية كما هوظاهر الآية حيث فرقت بين قوله: {لا إله إلا هو}، وقوله: {قائما بالقسط}: بتوسيط قوله: {والملائكة وأولوا العلم}، ولوكان القيام بالقسط من أجزاء الشهادة لكان حق الكلام أن يقال: إنه لا إله إلا هو قائما بالقسط والملائكة، ومن ذلك يظهر ما فيما ذكره عدة من المفسرين في تفسير الآية من الجهتين جميعا كما لا يخفى على من راجع ما ذكروه في المقام
[4] قال ابن كثير:”شهد تعالى – وكفى به شهيدا، وهو أصدق الشاهدين وأعدلهم، وأصدق القائلين – {أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ} أي: المتفَرد بالإلهية لجميع الخلائق، وأن الجميع عبيده وخلقه، والفقراء إليه، وهو الغني عما سواه كما قال تعالى: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزلَ إِلَيْكَ أَنزلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ 7 شَهِيدًا} الآية [النساء: 166]. ثم قرن شهادة ملائكته وأولي العلم بشهادته فقال: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ} وهذه خصوصية عظيمة للعلماء في هذا المقام. ”
{قَائِمًا بِالْقِسْطِ} منصوب على الحال، وهو في جميع الأحوال كذلك.
{لا إِلَهَ إِلا هُوَ} تأكيد لما سبق {الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} العزيز: الذي لا يرام جنابه عظمةً وكبرياء، الحكيم في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره”.
[5] جامع البيان (6/ 275).
[6] انظر ملتقى أهل التفسير بحث الفرق بين بعد ومن بعد / علي هاني يوسف.
[7] إرشاد العقل السليم (2/19)بتصرف.
[8] إرشاد العقل السليم (2/20).
[9] زهرة التفاسير (6/3282).
[10] قال محمد رشيد رضا في تفسير الآية كلاما مهما أنقله على طوله ليظهر استحالة نجاة اليهود والنصارى وليظهر بطلان دينهم قال:”تقدم في الآية 29 السابقة لهذه الآيات أن أهل الكتاب المراد بهم اليهود والنصارى لا يؤمنون بالله تعالى على الوجه الحق الذي جاءت به رسله من توحيد وتنزيه لذاته وصفاته، ولا باليوم الآخر على الوجه الصحيح من أن الناس يبعثون بشرا كما كانوا في الدنيا- أي أجسادا وأرواحاً- وأنهم يجزون بإيمانهم وأعمالهم، وعليها مدار سعادتهم وشقائهم، لا على أشخاص الأنبياء والصديقين، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله إلى كل منهم إيمانا وإذعانا وعملا، ولا يدينون دين الحق. أي إنما يتبعون تقاليد وجدوا عليها آباءهم وأحبارهم ورهبانهم، فلما بين تعالى هذا في سياق قتالهم وما ينتهي به إذا لم يؤمنوا بما جاء رسول الله وخاتم النبيين صلى الله عليه وسلم- وهو أداء الجزية بشرطها – عطف عليه ما يبين مبهمه، ويفصل مجمله، ويبين غايته، وهو هذه الآيات الأربع. ـ ـ ـ وجملة القول: إن اليهود كانوا وما زالوا يقدسون عزيراً هذا، حتى إن بعضهم أطلق عليه لقب ابن الله، ولا ندري أكان إطلاقه عليه بمعنى التكريم الذي أطلق على إسرائيل وداود وغيرهما، أم بالمعنى الذي سيأتي قريبا عن فيلسوفهم (فيلو)، وهو قريب من فلسفة وثنيي الهند التي هي أصل عقيدة النصارى. وقد اتفق المفسرون على أن إسناد هذا القول إليهم يراد به بعضهم لا كلهم، وهو مبني على القاعدة التي بيناها في تفسير بعض آيات سورة البقرة التي تحكي عنهم أقوالاً وأفعالاً مسندة إليهم في جملتهم، وهي مما صدر عن بعضهم، وهي أن المراد من هذا الأسلوب تقرير أن الأمة تعد متكافلة في شؤونها العامة، وأن ما يفعله بعض الفرق أو الجماعات أو الزعماء منها يكون له تأثير في جملتها، والمنكر الذي يفعله بعضهم إذا لم ينكره عليه جمهورهم ويزيلوه يؤاخذون به كلهم، وأما الذين قالوا هذا القول من اليهود فهم بعض يهود المدينة، كالذين قال الله فيهم: {وقالت اليهود يد الله مغلولة غلَّت أيديهم} [المائدة: 64]، والذين قال فيهم {لقد كفر الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء} [آل عمران: 181] ردا على قوله تعالى: {من ذا الذي يقرض الله قرضا حسناً} [البقرة: 245]؟ ويحتمل أن يكون قد سبقهم إليه غيرهم ولم ينقل إلينا.
ومن المعلوم أن بعض النصارى الذين قالوا إن المسيح ابن الله كانوا من اليهود، وقد كان (فيلو) الفيلسوف اليهودي الإسكندري المعاصر للمسيح يقول: إن لله ابنا هو كلمته التي خلق بها الأشياء، فعلى هذا لا يبعد أن يكون بعض المتقدمين على عصر البعثة المحمدية قد قالوا: إن عزيراً ابن الله بهذا المعنى.
{وقالت النصارى المسيح ابن الله} هذا القول كان يقوله القدماء منهم، ويقصدون به معنى مجازياً كالمحبوب والمكرم، ثم سرت إليهم فلسفة الهنود في (كرنشا) وغيرهم من قدماء الوثنيين، ثم اتفقت عليه فرقهم المعروفة في هذه الأزمنة، وعلى أنه حقيقة لا مجاز. وعلى أن (ابن الله) بمعنى(الله) وبمعنى(روح القدس)؛ لأن هؤلاء الثلاثة عندهم واحد حقيقة لا مجازا، هذا تعليم الكنائس الذي قررته المجامع الرسمية بتأثير الفلسفة الرومية ولكن بعد المسيح وتلاميذه بثلاثة قرون، ويخالفه خلق كثير منهم أعظمهم شأنا الموحدون والعقليون. والكنائس الكاثوليكية والأرثوذكسية والبروتستنتينية لا تعتد بنصرانيتهم ولا بدينهم، وهاك خلاصة تاريخية في أطوار هذه العقيدة، وهي ما في دائرة المعارف العربية للبستاني، قال:
ثالوث Trinité –Y
كلمة تطلق عند النصارى على وجود ثلاثة أقانيم معاً في اللاهوت تعرف بالآب والابن والروح القدس، وهذا التعليم هو من تعاليم الكنيسة الكاثوليكية والشرقية وعموم البروتستانت إلا ما ندر، والذين يتمسكون بهذا التعليم يذهبون إلى أنه مطابق لنصوص الكتاب المقدس، وقد أضاف اللاهوتيون إليه شروحا وإيضاحات اتخذوها من تعاليم المجامع القديمة وكتابات آباء الكنيسة العظام، وهي تبحث عن طريقة ولادة الأقنوم الثاني، وانبثاق الأقنوم الثالث، وما بين الأقانيم الثلاثة من النسبة، وصفاتهم المميزة وألقابهم، ومع أن لفظة ثالوث لا توجد في الكتاب المقدس، ولا يمكن أن يؤتى بآية من العهد القديم تصرح بتعليم الثالوث، قد اقتبس المؤلفون المسيحيون القدماء آيات كثيرة تشير إلى وجود صورة جمعية في اللاهوت، ولكن إذ كانت تلك الآيات قابلة لتفاسير مختلفة كانت لا يؤتى بها كبرهان قاطع على تعليم الثالوث، بل كرموز إلى الوحي الواضح الصريح الذي يعتقدون أنه مذكور في العهد الجديد، وقد اقتبس منه مجموعان كبيران من الآيات كحجج لإثبات هذا التعليم: أحدهما: الآيات التي ذكر فيها الآب والابن والروح القدس معا. والآخر: التي ذكر فيها كل منهم على حدة، والتي تحتوي على نوع أخص صفاتهم ونسبة أحدهم إلى الآخر.
والجدال عن الأقانيم في اللاهوت ابتدأ في العصر الرسولي، وقد نشأ على الأكثر عن تعاليم الفلاسفة الهيلانيين والغنوسطيين، فإن ثيوفيلوس أسقف أنطاكية في القرن الثاني استعمل كلمة ثرياس باليونانية، ثم كان ترتليانوس أول من استعمل كلمة ترينيتاس المرادفة لها، ومعناها الثالوث. وفي الأيام السابقة للمجمع النيقاوي حصل جدال مستمر في هذا التعليم وعلى الخصوص في الشرق، وحكمت الكنيسة على كثير من الآراء بأنها أراتيكية، ومن جملتها آراء الأبيونيين الذين كانوا يعتقدون أن المسيح إنسان محض، والسابيليين الذين كانوا يعتقدون أن الآب والابن والروح القدس إنما هي صور مختلفة أعلن بها الله نفسه للناس، والآريوسيين الذين كانوا يعتقدون أن الابن ليس أزلياً كالآب بل هو مخلوق منه قبل العالم ولذلك هو دون الآب وخاضع له، والمكدونيين الذين أنكروا كون الروح القدس أقنوماً.
وأما تعليم الكنيسة فقد قرره المجمع النيقاوي سنة 325 للميلاد، ومجمع القسطنطينية سنة 381، وقد حكما بأن الابن والروح القدس مساويان للأب في وحدة اللاهوت، وأن الابن قد ولد منذ الأزل من الآب، وأن الروح القدس منبثق من الآب، ومجمع طليطلة المنعقد سنة 589 حكم بأن الروح القدس منبثق من الابن أيضا. وقد قبلت الكنيسة اللاتينية بأسرها هذه الزيادة وتمسكت بها، وأما الكنيسة اليونانية فمع أنها كانت في أول الأمر ساكتة لا تقاوم قد أقامت الحجة فيما بعد على تغيير القانون حاسبة ذلك بدعة.
وعبارة (ومن الابن أيضا) لا تزال من جملة الموانع الكبرى للاتحاد بين الكنيسة اليونانية والكاثوليكية، وكتب اللوثيريين والكنائس المصلحة أبقت تعليم الكنيسة الكاثوليكية للثالوث على ما كان عليه من دون تغيير، ولكن قد ضاد ذلك منذ القرن الثالث عشر جمهور كبير من اللاهوتيين وعدة طوائف جديدة كالسوسينيانيين والجرمانيين والموحدين والعموميين وغيرهم، حاسبين ذلك مضاداً للكتاب المقدس والعقل، وقد أطلق سويد نبرغ الثالوث على أقنوم المسيح معلما بثالوث، ولكن لا ثالوث الأقانيم؛ بل ثالوث الأقنوم، وكان يفهم بذلك أن ما هو إلهي في طبيعة المسيح هو الآب، وأن الإلهي الذي اتحد بناسوت المسيح هو الابن، وأن الإلهي الذي انبثق منه هو الروح القدس، وانتشار مذهب العقليين في الكنائس اللوثيرية والمصلحة أضعف مدة من الزمان اعتقاد الثالوث بين عدد كبير من اللاهوتيين الجرمانيين.
وقد ذهب (كنت) إلى أن الآب والابن والروح القدس إنما تدل على ثلاث صفات أساسية في اللاهوت: وهي القدرة والحكمة والمحبة، أو على ثلاثة فواعل عليا: وهي الخلق والحفظ والضبط، وقد حاول كل من هيجن وشلنغ أن يجعلا لتعليم الثالوث أساسا تخيلياً، وقد اقتدى بهما اللاهوتيون الجرمانيون المتأخرون، وحاولوا المحاماة عن تعليم الثالوث بطرق مبنية على أسس تخيلية ولاهوتية، وبعض اللاهوتيين الذين يعتمدون على الوحي لا يتمسكون بتعليم استقامة الرأي الكنائسية بالتدقيق كما هي مقررة في مجمعي نيقية والقسطنطينية المسكونيين، وقد قام محامون كثيرون في الأيام المتأخرة لعضد آراء السابيليين على الخصوص اه.
وأقول: قد حدثت في هذا العهد مذاهب جديدة في النصرانية في أوروبا وأمريكة قرب ببعضها كثيرون من إصلاح الإسلام لها، سيفضي هذا إلى رجوع السواد الأعظم إليه بعد تنظيم الدعاية الصحيحة له وتعميمها، ونعود الآن إلى الرد على قولهم المسيح ابن الله؛ لأن هذا آخر موضع له في التفسير فنقول:
كنا بينا في تفسير سورة المائدة{وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه} [المائدة: 21] أن لقب «ابن الله » أطلق في كتب اليهود والنصارى على آدم كما تراه في نسب المسيح في آخر الفصل الثالث من إنجيل لوقا، وهو«ابن شيث بن آدم ابن الله » وعلى يعقوب كما في الفصل الرابع من سفر الخروج «هكذا يقول الرب: إسرائيل ابني البكر »، وعلى أفرايم كما في سفر أرميا«لأني صرت أبا وأفرايم هو بكري »، وعلى داود«هو يدعوني أبي أنت إلهي وصخرة خلاصي* أنا أيضا أجعله بكرا أعلى من كل ملوك الأرض »، وأنه أطلق أيضا على الملائكة وعلى المؤمنين الصالحين وسمي الله أبا لهم في مواضع كثيرة من كتب العهدين، ويقابله إطلاق المسيح لقب«أولاد إبليس » على غير الصالحين، وتسمية إبليس أباهم، كما ترى في إنجيل يوحنا«أنتم تعملون أعمال أبيكم، قالوا: إننا لم نولد من زنا لنا أب واحد وهو الله* فقال لهم يسوع لو كان الله أباكم لكنتم تحبونني » إلى أن قال «أنتم من أب هو إبليس، وشهوات أبيكم تريدون أن تعملوا » وهنالك شواهد أخرى من استعمال كلمة ابن الله في الأفراد كسليمان عليه السلام وفي المؤمنين الصالحين وتسميتهم مولودين من الله تعالى وتسميته سبحانه أبا لهم.
وبينا أيضا أن هذا الاستعمال مجازي قطعاً، لا يحتمل المعنى الحقيقي بحال من الأحوال، ولكن النصارى قد خرجوا عن قوانين العقل واللغات بجعل إطلاق لفظ«ابن الله » على المسيح وحده حقيقيا وعلى غيره مجازياً، ووعدنا بتوضيح ذلك في تفسير {يا أهل الكتاب لا تغلو في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيراً لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد} [النساء: 169] الآية من سورة النساء وكذا في مواضع من التفسير و(المنار)،. وكثرة الكلام في المحال لا تزيده إلا غموضا وإشكالا، فالنصارى قد تحكموا في تفسير (ابن الله) وتفسير(الكلمة) وتفسير(روح القدس) وتفسير اسم الجلالة (الله) بما ينافي العقل ونصوص العهد القديم والعهد الجديد، فجعلوها متعارضة متناقضة. كل ذلك لإدخال عقيدة قدماء الوثنيين من الهنود والمصريين واليونان على دين أنبياء بني إسرائيل المبني على أساس التوحيد المطلق، ولكننا نأتي بخلاصة أخرى في الموضوع نرجو أن تكون أوضح وأظهر مما سبق، وأدل على نوع من أنواع إعجاز القرآن، وهو تحديد الحقائق فيما اختلف فيه أهل الكتاب من أمر دينهم، مما كان مجهولاً لهم ولغيرهم من البشر، كما وعد الله عزَّ وجلَّ في آيات منه، كاختلافهم في المسيح نفسه، وفي معنى اسم الله وكلمته وروحه أو روح القدس، فنقول:
قال جورج بوست في قاموس الكتاب المقدس:
الله: اسم خالق جميع الكائنات والحاكم الأعظم على جميع العوالم والمعطي كل المواهب الحسنة. والله«روح غير محدود، أزلي غير متغير في وجوده وحكمته وقدرته وقداسته وعدله، وجودته وحقه » وهو يظهر لنا بطرق متنوعة وأحوال مختلفة في أعماله وتدبير عنايته(روا:20)، ولا سيما في الكتب المقدسة، حيث يتجلى غاية التجلي في شخصيته وأعمال ابنه الوحيد المخلص يسوع المسيح.
ثم قال:طبيعة الله: عبارة عن ثلاثة أقانيم متساوية الجوهر(من 28: 19 و20 كو 13: 14) الله الآب، والله الابن، والله الروح القدس، فإلى الآب ينتمي الخلق بواسطة الابن، وإلى الابن الفدى، وإلى الروح القدس التطهير. غير أن الثلاثة أقانيم تتقاسم جميع الأعمال الإلهية على السواء. أما مسألة التثليث فغير واضحة في العهد القديم كما هي في العهد الجديد، وقد أشير إلى هذا الأمر في تك ص 1 حيث ذكر «الله » و«روح الله » (قابل مز33: 6 ويو 1: 1 و3)، والحكمة الإلهية المشخصة أم ص 8 تقابل «الكلمة » في (يو ص 1)، وربما تشير إلى الأقنوم الثاني. وتطلق نعوت القدير على كل أقنوم من هذه الأقانيم الثلاثة على حدته.ثم قال:وحدة الله: ظاهرة في العهد القديم أكثر منها في العهد الجديد، والتثليث بين في العهد الجديد، خفي في العهد القديم. والداعي الأعظم لهذا الأمر إنما هو إظهار لخطأ الشرك بالله ومنع عبادة الأوثان التي كانت كثيرة الشيوع في الأزمنة الأولى قديما، ففي تث 6: 4 يدعى الله«رباً واحداً »، وكان يدعى «الإله الحي » تمييزا له عن آلهة الوثنيين الكاذبة. والاعتقاد بأن الله واحد بين جداً في ديانة اليهود.
ثم قال:ابن الله: د31: 25 ابن الآلهة لقب من ألقاب القادي، ولا يطلق على شخص آخر سواه إلا حيث يستفاد من القرينة أن المقصود بالملقب غير ابن الله الحقيقي. وقد تسمت الملائكة بني الله(أي38: 7)، وأطلق هذا الاسم على آدم(لو3: 38)؛ إذ أنه هو الشخص الأول المخلوق من الباري رأساً. وقد تسمى المؤمنون أبناء الله(رو 8: 14 و2 كو 6: 18)، وذلك لأنهم أعضاء في عائلة الله الروحية. وأما إذا أريد بهذا اللقب المسيح فيذكر مع التفخيم والعظمة حتى أن القارئ يعرف القصد بكل سهولة.
وهذا اللقب يدل على طبيعة المسيح الإلهية، كما أن القول بأنه«ابن الإنسان » يدل على طبيعته البشرية. والمسيح هو ابن الله الأزلي والابن الوحيد(قابل يو 180 و5: 19 26 و9: 35:38 ومت 11: 27 و16: 16 و21: 37 وآيات أخرى غير هذه في الرسائل)، ومع أن المسيح يأمرنا بأن ندعو الله«أبانا »، فهو لا يدعوه كذلك إنما يدعوه«أبي »، وذلك إيماء لما هنالك من الإلفة العظيمة، والعلاقة الشديدة الكائنة بينهما مما تفوق علاقته كل علاقة بشرية. وإشارة إلى أننا نحن أولاده ليس على سبيل البنوة التي للمسيح ربنا؛ بل من قبيل البنوة التي أنعم علينا بها بواسطة التبني والتجديد اه بحروفه.
أقول: إن ما لخصه صاحب هذا القاموس من عقيدة النصارى، هو أوضح ما تعرف به هذه العقيدة بالاختصار المتوخى في هذا القاموس، على غموضه وضعفه في نفسه، وما يذكرونه في عامة كتبهم قلما يفهم المراد منه لما في عباراتها من التعقيد اللفظي والمعنوي في موضوع غير معقول في نفسه، وفيما ذكره مؤاخذات كثيرة نذكر أهم ما يتعلق بموضوعنا هنا منها، ولذلك نغض الطرف عما قاله في بيان المراد من اسم الجلالة؛ لأننا نقلناه تمهيدا لما بعده، فنقول:
1 ما ذكره فيما سماه «طبيعة الله » لا يدل عليه لفظ الاسم الكريم، ولا شيء من كتب الأنبياء في العهد القديم، ولا مما جاء عن متقدميهم في سفر التكوين. فثبت بهذا أن هذه الطبيعة المدعاة لم تكن معروفة عند أنبياء أهل الكتاب قبل النصرانية التقليدية، وهي أصل الدين فيها، ونتيجة هذا أن هذه العقيدة مبتدعة بعدهم، وهم برآء منها.
2 إن ما أشار إليه من نص الإنجيل فيها لا يدل عليها، وهو ما في إنجيل متى من قوله في آخره رواية عن المسيح عليه السلام 28. 19 «وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس »، فهذا اللفظ لا يدل على أن هذه الأسماء الثلاثة عبارة عن ثلاثة أقانيم متساوية الجوهر، وأن كلاً منها عين الآخر، وأنه يطلق عليه اسم (الله) الخالق لجميع الكائنات الخ ما ذكره في معنى اسمه عزَّ وجلَّ، ولا على أنها تتقاسم الأعمال الإلهية على السواء كما ادعاه فيما سماه طبيعة الله.
وكذلك ما أشار إليه من رسالة بولس الثانية إلى كورنثوس، وهو قوله في آخرها «نعمة ربنا يسوع المسيح ومحبة الله وشركة الروح القدس مع جميعهم »، على أننا نعتقد أن بولس هو واضع أساس الديانة النصرانية الحاضرة، وجاء فيها بما لم يؤثر عن المسيح عليه السلام، ولا عن تلاميذه الحواريين رضي الله عنهم.
3 إن ما ذكر في كتب العهدين من استعمال ابن الله والروح القدس ينافي هذا المعنى ولا يتفق معه بوجه من الوجوه كما بيناه في تفسيرنا عند ذكرها في الآيات من سورتي آل عمران والنساء. وقد أشرنا إلى أهمها آنفا.
4 إن ما أشار إليه من عبارة المزمور (33: 6) ليس فيه أدنى إشارة إلى هذه الطبيعة المبتدعة في هذا التثليث، وهذا نصها «بكلمة الرب صنعت السموات وبنسمة فيه كل جنودها »، وهو يزعم هنا أن المراد [بكلمة الرب] المسيح، تفسيرا لها برأي يوحنا في أول إنجيله، وهذا المعنى للكلمة لم يكن معروفا لداود عليه السلام ولا لغيره من أنبياء اليهود؛ بل هو معنى اخترعه الذي كتب إنجيل يوحنا، والمرجح عند بعض المحققين أنه أحد تلاميذ بولس. وكان الدكتور جورج بوست كتب هذا الشاهد هنا قبل أن يكتب تفسير«الكلمة » في قاموسه، وكأنه لما كتبه نسي ما كان كتبه هنا، فإنه قال في الجزء الثاني منه ما نصه: يقصد بالكلمة السيد يسوع المسيح، ولم ترد هذه الكلمة بهذا المعنى إلا في مؤلفات يوحنا اه. فكيف فسر بها عبارة المزمور إذاً؟
وكذلك ما نقله عن رسالتي بولس إلى كولوسي وإلى العبرانيين لا يدل على ما ذكره، ولو دل عليها لكان أحد دلائلنا على أن هذه العقيدة قد وضع بولس أساسها} إذ لم يعرفها أحد من أنبياء التوراة قبله عليه السلام ولا المسيح.
5 قوله: إن مسألة التثليث غير واضحة في العهد القديم، صوابه غير موجودة فيه ألبتة، لا بالنص ولا بالظاهر ولا بالفحوى والإشارة الواضحة، على أن هذه العقيدة عند النصارى هي أساس الدين أو ركنه الأعظم، فلو كانت عقيدة إلهية موحى بها إلى الأنبياء لصرحوا كلهم بها تصريحاً لا يقبل التأويل، كما صرحوا بالتوحيد الذي اعترف هو وغيره بأنه ظاهر[وبين جداً] في العهد القديم، وهاتان العقيدتان على أتم التناقض. وما ذكره من الإشارة إليها في أول سفر التكوين بذكر اسم الله ولفظ [روح الله] غير مسلم، فإنه لم يفهم ذلك منهما أحد من اليهود ولا غيرهم قبل ابتداع هذه العقيدة، ولا يجوز -بل لا يعقل- أن يكون أساس العقيدة في كتاب الله مبهما لا يفهمه المخاطبون منه كما عملت آنفا من استشهاده بالمزمور 33: 6، وهذان اللفظان موجودان في القرآن المجيد الذي يصرح بكفر القائلين بالتثليث.
6 ما ذكره في مسألة (وحدة الله) من سبب التصريح بتوحيد الله تعالى بأقوى النصوص في العهد القديم وهو سد ذريعة الوثنية التي كانت كثيرة الشيوع في الأزمنة الأولى هو حجة عليه، فإن تلك الوثنية التي أراد الله تعالى إلى سد ذرائعها بنصوص التوحيد القطعية لموسى وغيره من الأنبياء عليهم السلام كان من أركانها عقيدة التثليث الهندية المصرية اليونانية، فما وقع فيه النصارى من الوثنية هو الذي أريد وقاية أتباع الأنبياء منه بتلك النصوص الإلهية في كتبهم، ولا سيما الوصية الأولى من وصايا التوراة، وإنما أوقعهم فيه هذه الألفاظ المجملة في رسائل بولس وأناجيل تلاميذه، وعدم تأويلهم لها بما يوافق توحيد جميع الأنبياء ونصوص التنزيه فيها وفي الإنجيل أيضا.
7 إن استشهاده على كلمة«ابن الله » بما جاء في الفصل 3 من سفر دانيال غريب جداً جداً، فإن عادته في قاموسه أن يذكر بجانب كل كلمة تفسيراً لها وشاهداً عليها من كلام الله أو كلام الأنبياء، والعبارة التي ذكرها هنا هي كلمة لملك بابل نبوخذ نصر الوثني، قالها في أحد الأفراد الذين ألقاهم في أتون النار ولم يحترقوا، وهي «ومنظر الرابع شبيه بابن الآلهة »، فلينظر المسلمون وغيرهم من العقلاء بم يؤيد هؤلاء النصارى تسميتهم المسيح ابن الله؟ وبم يثبتون أن لله ابناً حقيقيا؟ إنهم يحاولون إثبات هذا أو يؤيدونه بكلام الوثنيين في عقائدهم، ثم ينكرون أنهم وثنيون.
8 إنه حاول أن يفرق بين ما أمر المسيح به المؤمنين من خطابهم لله تعالى في الصلوات بقوله في أول الصلاة الربانية «أبانا الذي في السموات » الخ، وما في معناه كقوله«أبي وأبيكم »، وبين روايتهم عنه في بعض المواضع من قوله «أبي »، فهو يزعم تقليداً لرؤساء ملته أن إضافة الأب إلى ضمير المتكلم منه عليه السلام وإضافته إلى ضمير الجميع فيما أمرهم به من قول«أبانا » دليل على أن أبوته تعالى له حقيقية وأبوته للمؤمنين على سبيل التبني.
وهذا من أغرب ما يؤثر عنهم من التحكم والابتداع المخالف للغة وللعقل وللنقل المأثور عن الأنبياء، فأبوة الله الحقيقية لبعض البشر أو غيرهم من الخلق لا تعقل، وأبوة التبني تزوير يجل الله عنه كما يتنزه عن مجانسة الخلق بالأبوة الحقيقية، والأظهر في هذه الأبوة في كل موضع -إن صح النقل- أنها مجاز عن الرحمة والرأفة والتكريم، ولا ننكر أن حظ المسيح عليه السلام منها جدير بأن يكون أعلى من حظ يعقوب وأفرايم وداود وسليمان ممن أطلق عليهم هذا اللقب في أسفار العهد القديم. ومن الكفر الصريح والطعن في تنزيه الله عزَّ وجلَّ عندنا وعند كل عاقل مستقل الفكر أن يقال أن له سبحانه ابناً حقيقيا، وأبناء بالتبني، أي أدعياء، وهو عزَّ وجلَّ يقول في أبناء التبني الذي كان معهوداً عند العرب وأبطله بالإسلام {وما جعل أدعياءكم أبناءكم ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق وهو يهدي السبيل ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم} [الأحزاب: 4، 5].
وأما الفرق بين ضمير الجمع وضمير المفرد فيما نقلوه فسببه يعرفه العوام كالخواص، وهو أن الجمع للجماعة، والمفرد للفرد، ولو نقلوا عن المسيح عليه السلام أنه كان يقول في صلاته«أبي الذي في السموات » لكان لهم شبهة في هذه التفرقة. على أنه معارض بقول الرب في داود«مز 89: 26 هو يدعوني أنت أبي »، فإذا كانت إضافة لفظ أب إلى ضمير المفرد المتكلم تقتضي أن يكون المضاف إليه ابناً حقيقيا لله تعالى فقد كان هذا لداود قبل المسيح، وأن لإضافة ابن إلى ضمير الرب المفرد من الاختصاص ما يساوي بل يفوق إضافة لفظ الأب إلى ضمير العبد. وقد تقدم ما في سفر الخروج من قول الرب«4: 22 ابني بكري إسرائيل »، ومثله قوله في سفر أرميا«31: 9 إني صرت أبا لإسرائيل وأفرايم هو بكري »، ووصف الأب الابن بكونه بكرا له يقرب به من الحقيقة أو الاختصاص ما لا يقرب مثله بإضافة الابن اسم أبيه إلى ضمير نفسه، إذ من المعلوم أن المتبنى يخاطب متبنيه ويخبر عنه بقوله«أبي » كالابن من الصلب، ولكن الرجل لا يصف من تبناه ولا يخبر عنه بقوله ابني البكر.
9 قوله: إن المؤمنين أعضاء في عائلة الله الروحية ما أملاه عليه إلا أن عقله لا يفهم من لفظ«ابن الله وأبناء الله » إلا المعنى المجازي، ومقتضاه أن كل ما يعقل من نصوص العهد الجديد في إطلاق اللفظ على المسيح بكثرة أو نوع امتياز إنما يراد به أنه عليه السلام كان أفضل من غيره من أعضاء هذه العائلة الروحية المدعاة، والمسلمون لا ينكرون هذا الامتياز، فإنهم يفضلونه عليه السلام على أجداده إسرائيل وداود وغيرهما ممن أطلق عليه لقب «ابن الله » في العهد القديم. بل يفضلونه على جميع الأنبياء ما عدا إبراهيم وموسى ومحمدا صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
10 إننا على بحثنا هذا في كلامه لإقامة الحجة على النصارى كلهم ننكر لفظ «عائلة الله » وأمثاله مما يخل بتنزيه الله رب العالمين عما تقتضيه من المجانسة، فهو عزَّ وجلَّ ليس له جنس مادي ولا روحي{ليس كمثله شيء} [الشورى: 11]، {سبحان ربك رب العزة عما يصفون} [الصافات: 180]، {قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد} [الإخلاص: 1 4].
وأما معنى«روح القدس » وبطلان ما زعموه من كونه هو الله فقد تقدم بيانه مفصلا في تفسير آية(2: 87) {وأيدناه بروح القدس} وآية[4: 171]، {وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه} وآية[4: 169 من سورة النساء المشار إليها فيما تقدم قريبا].
11 إنه من أجل عداوته للتوحيد، ولتنزيه الخالق عزَّ وجلَّ عن الجنس والولد والشريك، لم يذكر في صفاته عزَّ وجلَّ ما ورد في العهدين القديم والجديد، من تنزهه تعالى عن الند والنظير والشبيه، الذي يجب بحكم العقل أن تؤول لأجله أو تحمل عليه وتقيد به جميع النصوص الدالة على التشبيه، كما جعل المسلمون قوله عزَّ وجلَّ:{ليس كمثله شيء} [الشورى: 11] وقوله:{سبحان ربك رب العزة عما يصفون}[الصافات: 180] أصل عقيدة التنزيه، وقيدوا بها معاني الآيات الموهمة للتشبيه، وقد جاء في سفر الاستثناء من أسفار التوراة (فكلمكم الرب من جوف النار فسمعتم صوت كلامه ولم تروا الشبه ألبتة*فاحفظوا أنفسكم بحرص فإنكم لم تروا شبهاً يوم كلمكم الرب في حوريب من جوف النار)، والعقلاء من اليهود يردون جميع العبارات التي ظاهرها التشبيه والأعضاء للرب تعالى إلى هذا النص النافي للتشبيه.
وقد جاء في إنجيل يوحنا الذي تفرد بأقوى الشبهات على التثليث ما يدل على التنزيه قال: (الله لم يره أحد قط الابن الوحيد الذي في حضن الآب هو الذي خبر)، ومثله في الرسالة الأولى ليوحنا «الله لم ينظره أحد قط »؛ بل قال مثل ذلك أستاذه بولس في رسالته الأولى إلى تيموتادس، فإنه وصاه بحفظ الوصية إلى ظهور المسيح وقال عن هذا الظهور:«الذي سيبينه في أوقاته المبارك الوحيد ملك الملوك ورب الأرباب*الذي وحده له عدم الموت ساكناً في نور لا يدنى منه الذي لم يره أحد من الناس ولا يقدر أن يراه أحد الذي له الكرامة والقدرة الأبدية ».
فتبين بما تقدم أن عقيدة التثليث وألوهية المسيح المخالفة لحكم العقل ليس لها أصل في كتب الأنبياء عليهم السلام لا قطعي ولا ظني، وإن شبهاتها في العهد الجديد ضعيفة ليست نصاً ولا ظاهرة فيها. على أن كتب العهد الجديد لا يوثق بها، فإن النصارى قد أضاعوا أكثر ما كتب من إنجيل المسيح في عصره، ثم رفضت مجامعهم المسكونية الرسمية بعد دخول التعاليم الوثنية فيهم من قبل الرومانيين أكثر ما وجد عندهم من الأناجيل التي كانت تعد بالعشرات، وقيل بالمئات، واعتمدت أربعاً منها ليس فيها إلا قليل مما رووه من أقوال المسيح وأفعاله، كما قال يوحنا في آخر إنجيله«وأشياء أخرى كثيرة صنعها يسوع إن كتبت واحدة فلست أظن أن العالم نفسه يسع الكتب المكتوبة آمين » اه ومن المعلوم بالبداهة أنه كان يقول عند ما كان يفعل، فلم تكتب أقواله ولا أفعاله الكثيرة.
وقد تكرر في كتب العهد الجديد -ومنها الأناجيل الأربعة- ذكر إنجيل المسيح، وفي بعضها يسمى «إنجيل الله »، ومن المعلوم بالبداهة أنه لا يراد بهذا الإنجيل أحد هذه التواريخ الأربعة التي تحدث عنه. وفي هذه الكتب أيضا أنه كان يوجد أناجيل كاذبة، وأناجيل محرفة، ورسل كذبة. وقد فصلنا القول في مسألة إنجيل المسيح وهذه الأناجيل، وأثبتنا عدم الثقة بها، وأن مجموعها يثبت ما نطق به كتاب الله المنزل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو أن النصارى كاليهود نسوا حظاً عظيماً مما ذكروا به، وأنهم أوتوا نصيباً منه، وأنهم انتحلوا عقائد وثنيي الهند وغيرهم من القدماء في الثالوث (فراجعه في ج 6).
قال الله تعالى: {ذلك قولهم بأفواههم}، أي ذلك الذي قالوه في عزير والمسيح هو قولهم الذي تلوكه ألسنتهم في أفواههم، ما أنزل به الله من سلطان، ولا يتجاوز حركة اللسان، إذ ليس له مدلول في الوجود، ولا حقيقة في مدارك العقول، فهو كقوله تعالى: {وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا ما لهم به من علم ولا لآبائهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً} [الكهف: 4، 5]، وفي معناه قوله في التبني {وما جعل أدعياءكم أبناءكم ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق وهو يهدي السبيل} [الأحزاب: 4] وقوله في أهل الإفك {إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم} [النور:15] فذكر الأفواه وكذا الألسنة مع العلم بها بالحس لبيان ما ذكر، أي أنه قول لا يعدوها ولا يتجاوزها إلى شيء في الوجود فهو كما يقول العوام:«كلام فارغ ».
{يضاهئون قول الذين كفروا من قبل} أي يشابهون ويحاكون فيه قول الذين كفروا من قبلهم، فقالوا هذا القول أو مثله. قيل: إن المراد بهم مشركو العرب الذين قالوا إن الملائكة بنات الله. وقيل: إن المراد سلفهم الذين قالوا هذا القول قبلهم. وهذا مبني على أن الكلام في اليهود والنصارى الذين كانوا في عصر نزول القرآن، إذ لم يصل إلينا أن أحدا من سلف أولئك اليهود في بلاد العرب أو غيرها قالوا عزير ابن الله، وإن كان غير بعيد في نفسه، ولو كانت الآية نصاً فيه لجزمنا به؛ لأن عدم وصول نقل إلينا فيه لا يقتضي عدم وقوعه.
والراجح المختار أن المراد بكل من اليهود والنصارى في الآية الجنس، وهو يصدق بوقوع ذلك من بعضهم في أي عصر كان، والمختار في مضاهأتهم للذين كفروا من قبلهم يصدق في كل من وقع ذلك منهم والله أعلم بهم.
وقد علمنا من تاريخ قدماء الوثنيين في الشرق والغرب أن عقيدة الابن لله والحلول والتثليث كانت معروفة عند البراهمة في الهند والبوذيين فيها وفي الصين واليابان وقدماء الفرس والمصريين واليونان والرومان، وقد بينا هذا في تفسير آية 4: 196 التي تقدمت الإشارة إليها آنفا، وهذا البيان لهذه الحقيقة من معجزات القرآن، فإنه لم يكن يعرفها أحد من العرب ولا ممن حولهم؛ بل لم تظهر إلا في هذا الزمان، كما يقال مثل هذا فيما بينه من حقيقة أمر كتبهم، وسيأتي بيانه قريبا في فصل خاص.
{قاتلهم الله} هذه الجملة تستعمل في اللسان العربي للتعجب، فهو المراد بها لا ظاهر معناها. قال في مجاز الأساس: وقاتله الله ما أفصحه. اه وحكى النقاش أن أصل«قاتله الله » الدعاء ثم كثر في استعمالهم حتى قالوه على التعجب في الخير والشر، وهم لا يريدون الدعاء اه. وفسره بعضهم بالدعاء على أن المراد به اللعنة أو الهلاك. والأول أظهر.
{أنى يؤفكون} تقدم مثل الجملة في الرد على قول الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة من سورة المائدة، إذ قال تعالى: {ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون} [المائدة: 75]، ومثله في سورة الأنعام بعد الاستدلال على الخالق عز وجل: {ذلكم الله فأنى تؤفكون} [الأنعام: 95]، والإفك صرف الشيء عن وجهه، [وبابه من وزن ضرب]، ويقال أفك بالبناء للمفعول بمعنى صرف عقله عن إدراك الحقيقة، ورجل مأفوك العقل، فمادة أفك تستعمل في صرف العقل والنفس عن الحق إلى الباطل ونحوه. والمعنى هنا كيف يصرفون عن حقيقة التوحيد والتنزيه للخالق عز وجل، وهو الذي تجزم به العقول، والذي بلغه عن الله تعالى كل رسول، فهو جمع بين المعقول والمنقول، ويقولون هذا القول الذي لا يقبله عقل، ولم يصح به عن أنبياء الله ورسله نقل؟ فأين عزير والمسيح من رب العالمين، الخالق لهذا الكون العظيم، الذي وصل من عجائب سعته إلى علم البشر القليل أن بعض شموسه لا يصل نورها إلى الأرض إلا بعد قطع الملايين من السنين النورية، فهل يليق بعاقل من هذه الدواب التي تعيش على هذه الذرة الصغيرة منه (وهي الأرض) أن يجعل لخالقه كله، ومدبر أمره، ولدا وعائلة من جنسه، وأن يرتقي به الغرور إلى أن يجعل واحدا منهم هو الخالق له، والمدبر لأمره، مع العلم بأنه ولد من امرأة وكان يأكل ويشرب ويتعب ويتألم الخ:{وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون} [الزمر: 39]، {وقالوا اتخذ الرحمن ولداً سبحانه بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين} [الأنبياء: 26 29].(المنار (10 / 298)
[11] إرشاد العقل السليم (4/60).