إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين (27) بحث مفصل بقلم الشيخ علي هاني

يقدم لنا فضيلة الشيخ بحثاً في المنظور القرآني لعلاقة الإسلام والمسلمين باليهود والنصارى، وذلك من خلال دراسة الآيات الواردة بخصوصهم، وتركيز البحث في الدرجة الأولى على آية {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:62] وعلى ما يشبهها في المائدة والحج، ملخصاً وشارحاً ومستدلاً بأهم ما جاء في كتب التفسير في هذا الموضوع.

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الدليل الثالث: قوله تعالى {من آمن بالله} يرد عليهم.
فمعنى {من آمن بالله} الإيمان الكامل بالله باعتقاد وحدانيته في الخلق والتكوين بألا يعتقدوا أن أحدا شارك الله تعالى في إنشائه الخلق أو استحقاق العبادة فهو الخالق المعبود وحده،وأنه ليس بوالد ولا ولد ولم يكن له كفوا أحد، وأنه جلت صفاته ليس كمثله أحد لا يشبه أحدا من خلقه، وليس كالأشياء، وهو السميع البصير، فالإيمان بالله تعالى يتضمن الإيمان بوحدانيته وأسمائه الحسنى، وأنه المهيمن على الوجود وحده، وأنه الأزلي الذي ليس له ابتداء، والباقي الذي لا يعروه الفناء،، وهو منزه عما تتصف به الحوادث إلى آخر ما يقتضيه التنزيه، فالنصارى الذين يقولون بالتثليث ليسوا مؤمنين بالله سبحانه وكذلك الصابئة الذين يعبدون الكواكب، واليهود الذين أشركوا في أوقات كثيرة وعبدوا الأصنام وقالوا عزير ابن الله ووصفوا الله بما لا يليق به بل لا يليق بالبشر فضلا عن الله سبحانه كقولهم {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ}، لأن القرآن نص في مواضع كثيرة أن من أشرك مع الله إلها آخر هو لا يعبد الله؛ فلذلك نجد تعبير {من دون} يرد كثيرا في نحو {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ} أي متجاوزين عبادة الله تاركين لها، مع انهم كانوا يعبدون الله وغيره، وقد نص القرآن نصا واضحا على أن اليهود والنصارى لا يؤمنون بالله لأنهم لم يؤمنوا به على الوجه اللائق، ونص كذلك على أنهم لا يؤمنون باليوم الآخر وانهم لا يدينون الدين الحق وأنهم لا يحرمون ما حرم الله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، فاليهودية والنصرانية ليست الدين الحق،قال تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29} وتفصيل هذا في المسألة الرابعة عشرة.

الدليل الرابع:  هم لا يؤمنون بيوم القيامة كما وصفه الله تعالى

الإيمان باليوم الآخر: هو الإيمان بالبعث والنشور، والحساب والعقاب والثواب وأنها جنة أبدا للموحدين، أو نار أبدا للكافرين، وأن الإنسان مجزي بعمله، إن خيرا فخير أو شرا فشر: (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره 8) (الزلزلة)، ثم هو يتضمن جميع أركان الإيمان، فلا بد حتى تحصل أي فرقة وعد {فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون} أن تحدث إيماناً خالصاً بالمبدأ والمَعادِ على الوجه اللائق لا كما يزعمه أهل الكتاب فإن ذلك بمعزل من أن يكون إيماناً بهما، وقد تقدم سر الاقتصار على ذكر الإيمان بالله واليوم الآخر، في المسألة الخامسة عشرة، ألخص هنا أهم سرين:
• السر الأول: لأنهما المقصود الأعظم من الإيمان:فالإيمان بالله: مبدأ الاعتقادات كلها، والإيمان بالْيَوْمَ الْآخِرَ، يحقق المعرفة بالمصير الذى ينتهى إليه هذا الوجود، ففي الإيمان بهما إيمان بالمبدأ والمعاد فالإيمان بالله إيمان بالمبدأ وبالإيمان باليوم الآخر إيمان بالمعاد فعبر بأشرف أجزاء الإيمان، وأيضا اليوم الآخر هُوَ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ التَّخْوِيفُ، والوازع والباعث في الأعمال كلها وفيه صلاح الحال العملي، وأيضا َتُجْنَى فِيهِ ثَمَرَةُ مُخَالَفَةِ النَّهْيِ والإيمان باليوم الآخر هو فيصل الإذعان والتمرد، وفيصل الإيمان بالغيب والجحود به؛ إذ لَا يكفر به إلا من لَا يؤمن إلا بالمحسوس، ولذلك نجد القرآن يصرح باليوم الآخر ويشترطه لدخول الجنة معهم مع أن أهل الكتاب،يؤمنون باليوم الآخر، وما ذلك إلا لأن تصورهم له قد بلغ منتهى الفساد، فالنصارى مثلاً، يعتمدون فيه على وجود يسوع الفادي المخلِّص الذى يَفْدى الناس بنفسه، ويخلِّصهم من عقوبة الخطايا.وهذا يطابق ما يقوله الهنود في كرشنه، وبوذا، سواء بسواء، وعقيدة اليهود في الله وفى اليوم الآخر، لا تقل في فسادها وضلالها عن عقيدة النصارى، والهنود، فهم يقولون عن أنفسهم شعب الله المختار وأنهم إن عوقبوا على شيء لا يعاقبون إلا أياما معدودة. السر الثاني: لأن الإيمان باليوم الآخر قطرا الإيمان، ومن أحاط بهما فقد حاز الإيمان بحذافيره، لأنهما يتضمنان بقية أركان الإيمان، فمعنى الإيمان باللَّه والإيمان باللَّه هو الإيمانُ بجميع الرسل، وبجميع الكتب والملائكة، وبيان ذلك أن:
أ) الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم داخل في الإيمان بالله فإن من آمن بالله واليوم الآخر فقد آمن برسول الله لأن من جهته عرف الإيمان بالله واليوم الآخر؛ لأنه هو الداعي إلى ذلك، فيوم القيامة إنما يعرف من قبل الأنبياء وكتب الأنبياء، فِالْيَوْمِ الْآخِرِ إِنَّمَا هُوَ مُتَلَقَّفٌ مِنْ أَخْبَارِ الرَّسُولِ، فَيَتَضَمَّنُ الْإِيمَانَ بِالرَّسُولِ.
ب) وِلمـَا علم أن الإِيمان بالله قرينه وتمامه الإِيمان بالرسل، فقد عُلِمَ وَشُهِرَ مِنْ أَنَّ الْإِيمَانَ بِاللَّهِ تَعَالَى قَرِينهُ الْإِيمَانُ بالرسول، لِاشْتِمَالِ كَلِمَةِ الشَّهَادَةِ وَالْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ وَغَيْرِهَا عَلَيْهِمَا مُقْتَرِنَيْنِ مُزْدَوِجَيْنِ، كَأَنَّهُمَا شَيْءٌ وَاحِدٌ لَا يَنْفِكُّ أَحَدُهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ، فَانْطَوَى تَحْتَ ذِكْرِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ تَعَالَى الْإِيمَانُ بِالرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فتضمن الإيمان باليوم الآخر الإيمان بالأنبياء، وبما جاءوا به، فلما كان الإيمان بالله واليوم الآخر يتضمن الإيمان بجميع ما يجب أن يؤمن به، اقتصر على ذلك، لأن غيره في ضمنه.
فإذا تبين هذا تبين فساد قول من يقول: النصارى واليهود والصابئة يؤمنون بالله واليوم الآخر، مع أن القرآن نص صراحة على عدم الاعتداد بهذا الإيمان {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)} التوبة.
وقد علمنا جبريل عليه السلام أركان الإيمان التي أرادها الله منا، ولا نرى اليهود ولا النصارى ولا الصابئة حققوا شيئا منها، روى ابن ماجه عن عمر رضي الله عنه قال: كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم فجاء رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد شعر الرأس، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، فجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأسند ركبته إلى ركبته، ووضع يديه على فخذيه، ثم قال: “يا محمد، ما الإسلام؟ فقال: شهادة أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت. قال: صدقت، فعجبنا منه يسأله ويصدقه، ثم قال: يا محمد، ما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، قال: صدقت، فعجبنا منه يسأله ويصدقه، ثم: قال يا محمد، ما الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه فإنك إن لا تراه فهو يراك، قال: فمتى الساعة؟ قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل، قال: فما أمارتها؟ قال: أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان”[1].
هذا هو الإيمان الذي يزيل الفوارق التي تكون بين الأمم والجماعات والأديان، وبناء عليه لا يكون مؤمنا من آمن بالله واليوم الآخر ولم يؤمن ببعض الأنبياء وفرَّق بينهم في الإيمان، فكيف بالذي كفر بخاتم الأنبياء سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وفرَّق بين الله ورسله، فكيف بالذي لم يؤمن بالله حق الإيمان ولم يوحده فكيف بالذي لم يؤمن بيوم القيامة الوجه الذي أراده الله سبحانه.
ثم عبارة {بالله واليوم الآخر} في مصطلح القرآن يراد بها الإيمان بجميع الأركان كما تقدم ويوضحه استعمالات القرآن لذلك:
{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}(سورة البقرة: 228)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}(2/264).
{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2)}سورة النور:2).وقد فصل هذا في المسألة السادسة عشرة، فلا يصح ما يفعله هؤلاء القوم من قولهم:”إن الله لم يشترط لدخول الجنة والأمن من النار إلا شرطين اثنين”
قال الماتريدي:” أنه ذكر المؤمنين بقوله: (إن الذين آمنوا) وإيمانهم ما ذكر في آية أخرى؛ وهو قوله: (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه، والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير) [البقرة: 285]؛ وهم قد فرقوا بين الرسل بقولهم: (نؤمن ببعض ونكفر ببعض) [النساء: 150]، وفرقوا بين الكتب أيضا؛ آمنوا ببعض، وكفروا ببعض. فهؤلاء الذين ذكرهم عز وجل في هذه الآية هم الذين آمنوا بجميع الرسل [وآمنوا بجميع الكتب] أيضا. فإذا كان هذا إيمانهم لم يكن عليهم خوف ولا حزن “[2].
وقال ابن عطية:”وفي الإيمان باليوم الآخر اندرج الإيمان بالرسل والكتب، ومنه يتفهم، لأن البعث لم يعلم إلا بإخبار رسل الله عنه تبارك وتعالى “[3]
وقال القرطبي:”وفي الإيمان بالله واليوم الآخر اندرج الإيمان بالرسل والكتب والبعث”.
قال اطفيش – التيسير:”{مَنْ آمَنَ} من اليهود والنصارى والصابئين وترك الإشراك بالله {بِاللهِ} ورسله وأنبيائه وكتبه ولم ينكر نبيا أو كتابا {وَالْيَوْمِ الآخِرِ} يوم البعث والجزاء. {وَعَمِلَ صَلِحاً} ولم يفرق بين أحد من رسله قبل بعثة نبينا صلى الله عليه وسلم أو بعدها، فآمن به واتبع القرآن، ومن لم يؤمن به، وبالقرآن لم ينتفع بعمله فهو مشرك في النار، وهو غير متبع للتوراة والإنجيل، بل كافر بهما أيضاً، لأن فيهما الأمر باتباعه صلى الله عليه وسلم، وكذا من كفر من اليهود والنصارى قبل سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. لا يدخلون في الآية، كمن قال، عيسى إله، ومريم إله، أو عيسى ابن الله”.
قال السمرقندي: “وقوله تعالى:{من آمن بالله واليوم الآخر} ولم يذكر في الآية الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، لأنه لما ذكر الإيمان بالله تعالى فقد دخل فيه الإيمان بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم، لأنه لا يكون مؤمناً بالله تعالى ما لم يؤمن بجميع ما أنزل الله تعالى على محمد وعلى جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فكأنه قال: من آمن بالله وبما أنزل على جميع أنبيائه وصدق باليوم الآخر وَعَمِلَ صالحا، أي أدى الفرائض”[4].

 

[1] صحيح البخاري بَابُ سُؤَالِ جِبْرِيلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الإِيمَانِ، وَالإِسْلاَمِ، وَالإِحْسَانِ، وَعِلْمِ السَّاعَةِ رقم 50
[2] تأويلات أهل السنة (1/ 484).
[3] المحرر الوجيز (1/ 158).
[4] بحر العلوم / السمرقندي (1/59).