إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين (26) بحث مفصل بقلم الشيخ علي هاني

يقدم لنا فضيلة الشيخ بحثاً في المنظور القرآني لعلاقة الإسلام والمسلمين باليهود والنصارى، وذلك من خلال دراسة الآيات الواردة بخصوصهم، وتركيز البحث في الدرجة الأولى على آية {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:62] وعلى ما يشبهها في المائدة والحج، ملخصاً وشارحاً ومستدلاً بأهم ما جاء في كتب التفسير في هذا الموضوع.

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الدليل الثاني: أن اسم النصارى لم يرد في القرآن مرادا به الموحدون
أن اسم النصارى لم يرد في القرآن مرادا به الموحدون بل في كلها ورد مرادا به أصحاب التثليث،
لذلك نجد القرآن الكريم قابلهم بالحنيفية وأن ما دانوا به مضاد ومقابل لملة إبراهيم عليه السلام، وبين أن الهداية في الحنيفية لا في ضلالاتهم، وأنهم نسوا حظا عظيما مما وصلهم من الله سبحانه فأغرى الله العداوة بين فرقهم إلى يوم القيامة عقوبة لهم، وأنهم حرفوا وبدلوا دين المسيح عليه السلام أو حُرِّف لهم وبـُدِّل فاتبعوه وضلوا فيه ضلالا كفريا، وأن ما عندهم ليس بهدى بل ضلال وأهواء، وأنهم قالوا بالتثليث، وأنهم فرَّقوا بين الرسل فكفروا بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم، وأنهم يوالون اليهود ضد المسلمين، وأنهم لا يؤمنون باليوم الآخر على الوجه الذي فصله القرآن وهو: أنه يوم ينجي الله المؤمنين بجميع الرسل والكتب لا سيما المؤمنون بسيدنا محمد وبالقرآن، ويعذب الكافرين بأي رسول أو كتاب تعذيبا مخلدا، فلذلك جعلهم القرآن الكريم لا يؤمنون باليوم الآخر، وحكم بكفرهم بلفظ صريح لا يقبل التأويل؛ لأنهم لم يؤمنوا بالله الواحد الذي لا شريك له الذي لم يتخذ ولدا.
ونحن نستعرض بعض الآيات التي ورد فيها اسم النصارى لنرى هذه الأوصاف المذكورة عنهم:
{وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120)}(البقرة:120)
{وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135) قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136)} البقرة:136).
{وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15}(المائدة: 15)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51)} (المائدة: 51)
{قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29) وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)}(التوبة:29ـ 1)
وقال في موضعين:” قالوا إنا نصارى” أي إنهم يَدَّعون أنهم أتباع عيسى عليه السلام ادعاء كاذبا كما تقدم تفصيله في المسألة التاسعة، فكيف بعد ذلك يجعلهم القرآن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون؟!، أليس هذا عين التعارض والتحريف لكتاب الله تعالى حتى جرَّأ بعض النصارى الذين قرأوا تفسيرهم فقال:”هناك تعارض في القرآن، فمرة يُكَفِّر النصارى [1] ،ومرة يقول: لا خوف عليهم”، وما هذا إلا من هؤلاء الذين لا يفهمون القرآن حقَّ الفهم، ويحرفون آياته.
ثم القرآن قد قرر أن النصرانية واليهودية ليستا دينا مرضيا عنده، وقرر كذلك أنهم لا يؤمنون بالله واليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق، فكل هذا يبطل تلك الدعوى.
• وإرادة النصارى المحرفين ودعوتهم للإيمان يُعَيِّن أن المراد من (الذين هادوا) الذين ذمهم الله وكفَّرهم ونسَب لهم الأقوال الباطلة، من الذين لم يؤمنوا بسيدنا عيسى ولا سيدنا محمد عليهما الصلاة والسلام كما تقدم في المسألة السادسة، فقد قررنا أن الذين هادوا قسمان:
أ) المؤمنون منهم ممن كان على الحق في فترةِ ما قبل نسخ شريعتهم فهذا يشمل الزمان من زمن سيدنا موسى إلى زمن سيدنا عيسى عليه السلام، وهؤلاء غير مرادين هنا؛لأنهم قُرنوا بالنصارى الكفار، فتعين أن المراد بهم هو القسم الثاني الآتي، فالكلام عن الكفار لا عن المؤمنين.
ب‌) الكفار منهم وهم من ثبت على العمل بالتوراة رغم نسخها بشريعة سيدنا عيسى عليه السلام ثم بشريعة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء كفار ادعوا أنهم أولياء لله وحدهم، وحرفوا التوراة وكذبوا وطعنوا في الإسلام، وهؤلاء هم الذين أرادهم القرآن في آية {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ}، وهم الذين قال تعالى فيهم: {إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ} {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ} {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} {وَطَعْنًا فِي الدِّينِ} [2] ،فهؤلاء كفار قطعا. وأما الصابئة فقد تقدم تفصيل ضلالاتهم وهم مقابلون للحنفاء، والصابئة بجميع أقسامهم مشركون بالله سبحانه لا يؤمنون بالأنبياء ولا الكتب ولا باليوم الآخر بالمعنى الذي أراده الله سبحانه ووصفه في القرآن، اللهم إلا القسم السادس من الصابئة الذين ذكروا في المسألة الحادية عشرة وهم الموحدون منهم الذين كانوا على الحق، وإرادة هذا القسم لم يقل به إلا قليل من المفسرين، ورده المحققون كما تقدم، ثم على فرض وجود هذا القسم فمن مضى من أهل ذلك الدين قبل خروجهم منه ليسوا من الصابئين بل من الموحدين المسلمين، واقتران اسم الصابئة بالنصارى يعين إرادة الفرق الضالة منهم، وأيا ما كان فليس مراد الآية أن النصارى مع بقائهم على الشرك وكذلك اليهود والصابئة لا خوف عليهم فهذا لم نسمعه ولم نقرأه إلا في زماننا زمن العجائب.

 

[1] جاء في شبههم التي نشروها مستفيدين من تفسير المحرفين للقرآن: ” الشبهة الأولى: قال: (مرة يقول محمد إن الجنة لليهود والنصارى والصابئين والمسلمين، ومرة يقول للمسلمين فقط: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ (2) مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ([البقرة:62]، ويقول: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85] ” يقول علي هاني: انظر إلى المحرفين لكتاب الله كيف يفتحون المجال لمثل لهؤلاء المشككين، وما ذلك إلا من سوء فهمهم لكتاب الله تعالى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.

[2]{مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (46)} (4/46){يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41)}(5/41).{مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5) قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6)} (62/6).