إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين (24) بحث مفصل بقلم الشيخ علي هاني

يقدم لنا فضيلة الشيخ بحثاً في المنظور القرآني لعلاقة الإسلام والمسلمين باليهود والنصارى، وذلك من خلال دراسة الآيات الواردة بخصوصهم، وتركيز البحث في الدرجة الأولى على آية {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:62] وعلى ما يشبهها في المائدة والحج، ملخصاً وشارحاً ومستدلاً بأهم ما جاء في كتب التفسير في هذا الموضوع.

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

المسألة الخامسة والعشرون: الرد على من يخطئ القرآن الكريم في رفع الصابئون:
قد تجرأ بعض أعداء الإسلام، على دعوى وجود الغلط النحوي في القرآن! وعدَّ رفع الصابئين هنا من هذا الغلط ! وهذا جمع بين السخف والجهل، وإنما جاءت هذه الجرأة من الظاهر المتبادر من قواعد النحو مع جهل أو تجاهل أن النحو استنبط من اللغة ولم تستنبط اللغة منه، وأن كل ما ثبت نقله عن العرب فهو عربي صحيح، ولا ينسب إلى العرب الغلط في الألفاظ ولكن قد يغلطون في المعاني، فهذا القول لا يقوله عالم إلا أن يكون كجهلة بعض المستشرفين الذين يحسبون أن قواعد النحو حاكمة على القرآن، وذلك من فساد النظر لأن القرآن فوق النحو، إذ النحو يستقي منه، وهو لا يخضع لما يقرره النحويون، بل هم الذين يخضعون له، فلو لم يكن ذلك المعترض ضعيف العقل أو قوى التعصب على الإسلام، لنهاه عن هذا الاعتراض رواية هذا اللفظ عن النبي عليه الصلاة والسلام، وإن لم يؤمن بأنه منزل عليه من الله عز وجل، فكيف وقد تلقته العرب بالقبول والاستحسان، فكان إجماعا عليه أقوى من إقرار الأندية الأدبية (الأكاديميات) الآن؟ بل يجب أن ينهاه مثل ذلك نقله عن أي بدوي من صعاليك العرب ولو برواية الآحاد، وليت شعري هل يعد ذلك المعتصب الأعمى مبتكرات مثل شكسبير في الإنكليزية وفيكتور هيغو بالفرنسية من اللحن والغلط فيهما؟ [1]، ويذكرني هذا بقصة عبد الله بن إسحاق الحضرمي الذي كان من مؤصلي مذهب البصريين مع الفرزدق وكان يكثر الاعتراض على الفرزدق:
ويروى أن الفرزدق أنشد قصيدة لعبد الله بن إسحاق، فلما بلغ قوله
وعضُّ زَمَان يا ابن مروان لم يَدَعْ… من المال إلا مُسْحَتًا أو مُجَلَّفُ[2]
قال له عبد الله: علام رفعت “أو مجلف”؟فقال الفرزدق: على ما يسوءك وينوءك! علينا أن نقول: وعليكم أن تتأولوا.
ويروى أن الفرزدق أنشد هذه القصيدة لعبد الله، فلما بلغ البيت المستشهد به قال له عبد الله: علام رفعت “أو مجلف” فقال الفرزدق: على ما يسوءك وينوءك! علينا أن نقول: وعليكم أن تتأولوا.

المسألة السادسة والعشرون: أسرار الاختلاف بين الآيات الثلاثة تقديما وتأخيرا ورفعا ونصبا واختلافا في الفاصلة:
قوله تعالى: (إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) البقرة: 62
وقال في سورة المائدة 69: (إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون).
وقال في سورة الحج17: (إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد).
أولا سر الترتيب في تقديم الذين آمنوا ثم الذين هادوا في الآيات الثلاث ثم تأخير الصابئين في سورة البقرة وتاخيره في المائدة والحج:
1) يكون سر الابتداء بذكر المؤمنين في جميع الآيات كما تقدم:
أ‌) الاهتمام بشأنهم ليكونوا في مقدمة ذكر الفاضلين فلا يذكر أهلُ الخير إلا ويذكرون معهم، ففيه إدماج للتنويه بالمسلمين في هذه المناسبة، لأنّ المسلمين هم المثال الصّالح في كمال الإيمان فكأن المسلمين لأنّهم الأوحدون في الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصّالح، أوّلون في هذا الفضل.
ب‌) و الإِشعار بأن دين الإِسلام دين قائم على أساس أن الفوز برضا الله لا ينال إلا بالإِيمان الصادق والعمل الصالح، ولا فضل لأمة على أمة إلا بذلك فحال هذه الملة الإسلامية، وحال من قبلها من سائر الملل، يرجع إلى شيء واحد، وهو: أنّ من آمن منهم بالله واليوم الآخر وعمل صالحا، استحقّ ما ذكره الله من الأجر.
ت‌) والتحرّز عن الغرور وعن تسرّب مسارب الشرك إلى عقائد.
ث‌) إن المؤمنين أحق بالتقديم وهم أهل الخطاب والمتكلم معهم في الآي قبل، فهم من حيث أحوالهم معظم من قصد بالخطاب والتأنيس، وأما إن أريد بهم المنافقون فقد تقدم سر ذلك
2) وأما ذكر {الذين هادوا} في جميع الآيات ثانيا:
فلأن أهل الكتابين يلون المؤمنين فإنهم ليسوا كافرين بكل الرسل ولا منكرين لكل ما أنزل من الكتب، فهم مقرون بالبداءة والعودة وإرسال الرسل فقد كانوا أقرب للمسلمين في عقائدهم، لولا التبديل والتغيير والتحريف الذي وقع منهم، فإنهم جاءهم رسول وكتاب فنكثوا ونقضوا وكفروا بمن قدم إليهم، فقدم أهل الكتاب اليهود والنصارى لأنهم اقرب للمؤمنين من الصابئين.
ولما كان اليهود أقدم وأسبق زمانا والسياق المتقدم لهم قدموا على النصارى، فالسياق في سورة البقرة والمائدة كان مع الذين هادوا فناسب تقديمهم في الدعوة للتوبة إلى الله من كفرهم.
3) تقديم النصارى على الصابئين في سورة البقرة وتأخيرهم في المائدة والحج
في سورة البقرة قدم اليهود والنصارى على الصابئين، وهذا هو الأصل لما ذكر من أنهم أهل كتاب وأقرب للمسلمين[3] ، وأخر الصابئون لتأخرهم عن هؤلاء الأصناف في أنهم ليسوا من أهل الكتاب أو ليسوا مثلهم في ما وراء ما ذكر من أحوالهم، فدينهم أبعد ما يكون عن دين الإسلام كما تقدم، فإيراد ذكرهم على ما في سورة البقرة من تقديم النصارى على الصابئين بيِّن.
وأيضا لما ذكرت أحوالهم وقصصهم في سورة البقرة على هذا الترتيب ذكروا كذلك في الآية، فذكر أولا أحوال اليهود في كلام طويل ابتدأ بـ{يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40)}ثم ذكر النصارى {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111)} وما بعده و{ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى} ثم الصابئة {ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم}فقد كان قوم سيدنا إبراهيم من الصابئة.
وأما آية المائدة {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69)} فقد قدم الصابئون على النصارى لأمور:
1) في التقديم تأكيد للمقصد الذي سيق له الكلام من الدعوة للتوبة وأن التوبة مقبولة من الكل إن حققوا الشروط، ففي توسيط حال الصابئين بين الذين هادوا والنصارى، التّنبيه على تعجيل الإعلام بهذا الخبر فإنّ الصابئين يكادون ييأسون من هذا الحكم أو ييأس منهم من يسمع الحكم على المسلمين واليهود.
2) وأيضا توسط هذا المبتدأ المحذوف الخبر، بين الجزأين، أدل على الخبر المحذوف من ذكره بعد تقضي الكلام وفي نهايته.
3) وأيضا أخر ذكر النصارى لأن الكلام فيما بعد هذه الآية على ذم عقيدة النصارى وتسفيه عقيدة التثليث، وقد ذمّ النصارى في المائدة ذماً فظيعاً على معتقداتهم، وتكلم على عقيدة التثليث جعلهم كأنهم لم يؤمنوا بالله وكأنهم صنف من المشركين فقرنوا بالصابئة في الآية،ومن أمثلة ذمهم وتوبيخهم قوله تعالى {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (77)}
فلما كان الكلام في ذم معتقدات النصارى اقتضى تأخيرهم عن الصابئين المشركين حتى تكون منزلتهم أقل منزلة،ولأجل أن يقرنهم بالمشركين الصابئة لأن السياق في ذمّ عقيدتهم، ليخبر أنهم مثلهم في الشرك لأن من يلصق ألوهية بغير الله يكون كمن عبد الكواكب وخرج عن التوحيد؛ لأن الصابئة وإن كانوا يقولون بالإله الواحد لكنهم يجعلون معه شركاء سماوية أو أرضية، فقدم الصابئين عليهم لما تقدم من الفوائد، وليس نحو هذا الأمر موجودا في آية البقرة فجرت سورة البقرة على تأخير الصابئين وجعلهم مكانهم بعد الملل، وأيضا في سورة البقرة لم يتوسع في ذم عقيدة النصارى فلذلك وضع النصارى بعد الذين هادوا وقبل الذين الصابئين، وأخر الصابئين في آخر المِلل لأنهم أبعد الناس عن الإسلام [4]
4) وأما سورة الحج فقد أخر النصارى؛ لأنهم مشركون، ولذلك قرن النصارى في الحج بالمجوس والمشركين، فأخرهم لإشراكهم بمن بعدهم في الشرك وقد فصل البقاعي الترتيب في سورة الحج فقال: قال البقاعي:” أجاب عن ذلك ببيان جميع فرق الضلال، لأن لهذه السورة أتم نظر إلى يوم الجمع الذي هو مقصود السورة التي قبلها، فقصد إلى استيعاب الفرق تصويراً لذلك اليوم بأليق صورة، وقرن بكل من فريقي أهل الكتاب موافقة في معناه فقال: {إن الذين ءامنوا} {والذين هادوا} ولما كان اليهود عبدوا الأصنام متقربين بها إلى النجوم كما مضى في المائدة، أتبعهم من شابهوه فقال: {والصابئين} ثم تلا بثاني فريقي أهل الكتاب فقال: {والنصارى} ثم أتبعهم من أشبهه بعض فرقهم في قولهم بإلهين اثنين فقال: {والمجوس} وهم عبدة النار؛ ثم ختم بأعم الكل في الضلال كما فتح بأعمهم في الهدى فقال: {والذين أشركوا} لشموله كل شرك حتى الأصغر من الربا وغيره” اهـ بتصرف[5].
وذكر سرها الإمام الرازي بطريقة مختلفة: فقال: “أما القسم الثاني وهو الاختلاف الحاصل بسبب الأنبياء عليهم السلام، فتقسيمه أن يقال القائلون بالفاعل المختار، إما أن يكونوا معترفين بوجود الأنبياء، أو لا يكونوا معترفين بذلك، فإما أن يكونوا أتباعا لمن كان نبيا في الحقيقة أو لمن كان متنبئا، أما أتباع الأنبياء عليهم السلام فهم المسلمون واليهود والنصارى، وفرقة أخرى بين اليهود والنصارى وهم الصابئون، وأما أتباع المتنبئ فهم المجوس، وأما المنكرون للأنبياء على الإطلاق فهم عبدة الأصنام والأوثان، وهم المسمون بالمشركين، ويدخل فيهم البراهمة على اختلاف طبقاتهم. فثبت أن الأديان الحاصلة بسبب الاختلافات في الأنبياء عليهم السلام هي هذه الستة التي ذكرها الله تعالى في هذه الآية، قال قتادة ومقاتل الأديان ستة واحدة لله تعالى وهو الإسلام وخمسة للشيطان” فقدم الذين بالدين الحق وهم المؤمنون”[6].

***********

سر الاقتصار على هذه الفرق في البقرة والمائدة والزيادة عليها في الحج:
القول الأول: وهو الأصح
1) أن آية سورة الحج إنما هي فيمن بقي على دينه الباطل ثم جاء يوم القيامة على دينه من يهودية أو نصرانية أو غير ذلك غير تائب من كفره وضلاله،ألا ترى أنه ذكر المجوس معهم والذين أشركوا؛ لأن ذلك مقام التفويض إلى الله في الحكم بين أهل المِلل وتثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين بأن الله سيحاسب الفرقة الضالة على ضلالها ”
بخلاف آية البقرة والمائدة فهي فيمن ترك ما هو عليه من نصرانية أو يهودية ونحوها وتاب إلى الله عز وجل بالدخول في الإسلام، فاقتصر على الأديان الثلاثة مع الإسلام دون غيرها من نحو المجوسية والدهريين والزنادقة؛لأنهم أرجى لقبول الإسلام من المجوس والدهريين؛ لأنهم يثبتون الإله المتفرد بخلق العالم ويتبعون الفضائل على تفاوت بينهم في ذلك، فلذلك اقتصر عليهم تقريباً لهم من الدخول في الإسلام.
2) لأن لسورة الحج أتم نظر إلى يوم الجمع الذي هو مقصود السورة التي قبلها، فقصد إلى استيعاب الفرق تصويراً لذلك اليوم بأليق صورة.
ولأجل اختلاف المقصد بين سورة البقرة والمائدة من جهة وسورة الحج من جهة أخرى اختلف الفاصلة فيهما، ختمت سورة البقرة {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62} وقريب منها المائدة، وختمت الحج {إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}.
القول الثاني:وهو مرجوح
من جعل الآية فيمن كان على التوحيد في زمن من الأزمان والآية تتكلم على هذه الفترة قال: لم يذكر المجوس والذين أشركوا لأنهم لم يكونوا على الحق في زمن من الأزمان، ذكر ذلك ابن تيمية.
قال ابن تيمية: “فإن الصابئة نوعان: صابئة حنفاء موحدون، وصابئة مشركون، فالأول هم الذين أثنى الله عليهم بهذه الآية فأثنى على من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً من هذه الملل الأربع: المؤمنين واليهود والنصارى والصابئين، فهؤلاء كانوا يدينون بالتوراة قبل النسخ والتبديل، وكذلك الذين دانوا بالإنجيل قبل النسخ والتبديل، والصابئون الذين كانوا قبل هؤلاء كالمتبعين لملة إبراهيم إمام الحنفاء قبل نزول التوراة والإنجيل، وهذا بخلاف المجوس والمشركين فإنه ليس فيهم مؤمن، فلهذا قال تعالى (إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد) فذكر الملل الست هؤلاء، وأخبر أنه يفصل بينهم يوم القيامة لم يذكر في الست من كان مؤمناً، وإنما ذكر ذلك في الأربعة فقط، ثم إن الصابئين ابتدعوا الشرك فصاروا مشركين، والفلاسفة المشركون من هؤلاء المشركين، وأما قدماء الفلاسفة الذين كانوا يعبدون الله وحده لا يشركون به شيئاً ويؤمنون بأن الله محدث لهذا العالم ويقرون بمعاد الأبدان، فأولئك من الصابئة الحنفاء الذين أثنى الله عليهم”[7[.
رد هذا الآلوسي:قائلا:” والمناسب لعموم اللفظ وعدم صرفه إلى تخصيص {الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى} بالكفرة منهم وتخصيص {مَنْ ءامَنَ} الخ بالدخول في ملة الإسلام، إلا أنه يرد عليه أنه مستلزم أن يكون للصائبين دين، وقد ذكر غير واحد أنه ليس لهم دين تجوز رعايته في وقت من الأوقات ففي «الملل والنحل » أن الصبوة في مقابلة الحنيفية، ولميل هؤلاء عن سنن الحق وزيغهم عن نهج الأنبياء قيل لهم: الصابئة، ولو سلم أنه كان لهم دين سماوي ثم خرجوا عنه، فمن مضى من أهل ذلك الدين قبل خروجهم منه ليسوا من الصابئين فكيف يمكن إرجاع الضمير الرابط بين اسم (إن) وخبرها إليهم على القول المشهور وارتكاب إرجاعه إلى المجموع من حيث هو مجموع قصداً إلى إدراج الفريق المذكور فيهم ضرورة أن من كان من أهل الكتاب عاملاً بمقتضى شرعه قبل نسخه من مجموع أولئك الطوائف بحكم اشتماله على اليهود والنصارى وإن لم يكن من الصابئين مما يجب تنزيه ساحة التنزيل عنه؟ على أن فيه بعد ما لا يخفى فتدبر “.
سر ذكر {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} في البقرة دون المائدة:
فهناك فرق بين الآيتين (فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) في آية سورة البقرة أما في سورة المائدة (فلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) المذكورين في الآيتين هم نفسهم (الذين آمنوا، الذين هادوا، النصارى، الصابئين) فلماذا جاء في سورة البقرة (فلهم أجرهم عند ربهم) ولم تأتي في سورة المائدة؟
1) إن قوله تعالى: ” فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ ” ذكر في سورة البقرة ولم يذكر في المائدة، لأنه ذكر في سورة المائدة ما هو بمعناه فأغنى عنه واكتفى به ألا ترى أن قوله تعالى: “ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم ” تفسير بين للأجر الأخروي المجمل في قوله تعالى في سورة البقرة: “فلهم أجرهم عند ربهم ” إلى آخر الآية فقد حصل ما في سورة المائدة مفصلا مبينا ما ورد في البقرة مجملا فلو قيل في آية المائدة فلهم أجرهم لكان تكرارا ورجوعا إلى الإجمال بعد التفصيل وذلك عكس ما ينبغي[8].
2) سورة المائدة السياق كما قلنا في ذمّ عقائد اليهود والنصارى ذمّاً كثيراً مسهباً، أما في سورة البقرة فالكلام عن اليهود غالب والقليل على النصارى، وفي سورة المائدة الكلام على اليهود أشدّ مما جاء في البقرة ومن ذلك أنه ذكر في المائدة العقوبات أكثر من ذكرها في سورة البقرة (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللهِ مَن لَّعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَاء السَّبِيلِ {60}) وفي سورة البقرة (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ {65}) وسياق الغضب في المائدة على معتقدات النصارى واليهود أشدّ، ولم تُجمع القردة والخنازير إلا في سورة المائدة فاقتضى السياق أن يكون زيادة الخير والرحمة في المكان الذي يكون الغضب فيه أقل وهو (سورة البقرة)، ثم جو الرحمة ومفردات الرحمة وتوزيعها في سورة البقرة أكثر مما جاء في سورة المائدة، ففي سورة البقرة وردت تسع عشرة مرة بينما وردت في المائدة خمس مرات لذا اقتضى التفضيل بزيادة الرحمة في البقرة والأجر يكون على قدر العمل فالنسبة للذين آمنوا من أهل الكتاب قبل تحريفه وهم مؤمنون بالله تعالى عليهم أن يؤمنوا إيماناً آخر باليوم الآخر المقصود الذين آمنوا إيماناً حقيقياً.
• في سورة المائدة ورد ذكر أنواع من العمل الصالح عشر مرات (الوفاء بالعقود، الوضوء، الزكاة، الأمر بإطاعة الله ورسوله، والإحسان، التعاون على البر والتقوى، إقام الصلاة، الجهاد في سبيل الله والأمر باستباق الخيرات) وفي سورة البقرة ورد ذكر ثلاثين نوعا من أعمال الخير وتشمل كل ما جاء في سورة المائدة ما عدا الوضوء وفيها بالإضافة إلى ذلك الحج والعمرة والصيام والإنفاق والعكوف في المساجد وبر الوالدين والهجرة في سبيل الله وإيفاء الدين والقتال في سبيل الله والإصلاح بين الناس وغيرها كثير، لذا اقتضى كل هذا العمل الصالح في البقرة أن يكون الأجر أكبر (فلهم أجرهم عند ربهم).
وهذه العبارة (فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) لم ترد إلا في سورة البقرة بهذا الشكل وقد وردت في البقرة خمس مرات.
وتردد الكلمات في القرآن تأتي حسب سياق الآيات وفي الآيات المتشابهة يجب أن نرى الكلمات المختلفة فيها[9]
3) “وأيضا قَوْلَهُ: فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ مُقَابل لقَوْله: وَباؤُا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ [الْبَقَرَة: 61] وَلِذَلِكَ قُرِنَ بِعِنْدَ الدَّالَّةِ عَلَى الْعِنَايَةِ وَالرِّضَى”[10] فجاءت هذه مقابلة لتلك، بخلاف سورة المائدة لم يرد ما يقتضي هذه المقابلة فحذف منها {فلهم أجرهم} [11]
4) [63، 64]

 

[1] انظر المنار / محمد رشيد رضا وزهرة التفاسير لأبي زهرة.
[2] ولم يدع: أي لم يترك، والمسحت -بضم أوله على زنة اسم المفعول- هو المستأصل الذي فني كله ولم يبقَ منه شيء، والمجلف -بالجيم على زنة المعظم- الذي قد ذهب أكثره وبقي منه شيء يسير
[3] ينظر ملاك التأويل القاطع بذوي الإلحاد والتعطيل في توجيه المتشابه اللفظ من آي التنزيل (1/43) مع زيادات,
[4] ينظر السامرائي لمسات، وملاك التأويل، والبقاعي، وابن عاشور.
[5] نظم الدرر (13/ 24).
[6] التفسير الكبير(23/ 212).
[7] كتابه في الرد على المنطقيين 288.
[8] ملاك التأويل القاطع بذوي الإلحاد والتعطيل في توجيه المتشابه اللفظ من آي التنزيل (1/43)
[9] لمسات بيانية المؤلف: فاضل بن صالح بن مهدي بن خليل البدري السامرائي (1/516)
[10] التحرير والتنوير (1/541)
[11] الحذف والذكر في المتشابه اللفظي في القرآن رسالة ماجستير / د منصور أبو زينة (33)