إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين (21) بحث مفصل بقلم الشيخ علي هاني

يقدم لنا فضيلة الشيخ بحثاً في المنظور القرآني لعلاقة الإسلام والمسلمين باليهود والنصارى، وذلك من خلال دراسة الآيات الواردة بخصوصهم، وتركيز البحث في الدرجة الأولى على آية {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:62] وعلى ما يشبهها في المائدة والحج، ملخصاً وشارحاً ومستدلاً بأهم ما جاء في كتب التفسير في هذا الموضوع.

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

المسألة الثانية والعشرون: تفسير آية سورة الحج مع ذكر أقوال العلماء:
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17)}سورة الحج
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا:
القول الأول:اختاره: قتادة أبو السعود، وسيد طنطاوي، والطبري والطوسي والطبرسي القرطبي واطفيش التيسير والسمرقندي والثعلبي وابن عطية وأبو زهرة.
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} هذه الفرقة الأولى، وهي: فرقة الذين آمنوا بالله بكلِّ ما يجبُ أنْ يُؤمن فيدخلُ فيه دخولا أوليا الإيمان بوحدانيته ورسله لا سيما النبي – صلى الله عليه وسلم – وصدقوه واتبعوه وآمنوا بما ذُكر من الآياتِ البيِّناتِ في قوله تعالى{وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16)} وابتدأ القرآن بهم، للإشعار بأن دين الإسلام هو الدين الحق
القول الثاني:
قال البقاعي: {إن الذين ءامنوا} أي من أيّ فرقة كانوا، وعبر بالفعل ليشمل الإقرار باللسان، الذي هو أدنى وجوه الإيمان

***********

وَالْمَجُوسَ
المجوس [1] وكلمة مجوس من الكلمات المعربة، عربت عن لفظة “مغوس” الفارسية، التي تعني “عابد النار”، وهم عبدة النار وهم أهل فارس، وجوهر دينهم يقوم على ثنائية تجسد المبدأين المتضادين مبدأ الخير ومبدأ الشر، أو مبدأي النور والظلام وهم يثبتون إلهين إلهاً للخير، وإلهاً للشرّ الإله الأول: (يَزدَان) أو (أهُورَا مَزْدَا) أو رمازد” أو (هرمز)وهو إله الخير، والإله الثاني: (أهْرُمُن) (أهريمان)وهو إله الظلمة وهو مطبوع على الشرّ والضرّ، ويحدث بين (أهْرُمن) وبين (يزدان) خلاف ومحاربة إلى الأبد، والمبدآن الخير والشر مبدآن يتصفان بقوى مبدعة خالقة، ثمّ نشأت على هذا الدّين نحل خُصّت بألقاب وهي متقاربة التعاليم أشهرها نحلة (زَرَادِشْت) [2] الذي ظهر في القرن السادس قبل ميلاد المسيح، وبه اشتهرت المجوسية، ثم دعا الناس إلى عبادة النار على أنها مظهر إله الخير وهو النّور.
ووسّع شريعة المجوسية، ووضع لها كتاباً سمّاه « زَندافستا » أو “الأفستا”، وهو من أقدم الكتب الأدبية في بلاد فارس، وهو مجموعة أقوال قديمة تعزى إلى زرادشت، وتراتيل دينية ترتل عند تقديم الذبائح وصلوات وشرائع كهنوتية وطقوس عبادة، ومن أصول شريعته تجنّب عبادة التماثيل، والزرادشتية تتصور الحياة أنها صراع دائم بين قوة الخير وقوة الشر، قوة الخير وقوة الشروأما النصر النهائي فلمبدأ الخير، وواجب المؤمن الديني والخلقي أن يقوم بكل عمل من شأنه مساعدة قوة الخير؛ لكي تنتصر على قوة الشر، وجميع أفكار الإنسان وأعماله وأقواله مكتوبة في سجل الحياة؛ لتقابل يومًا بأعماله الشريرة وبخطاياه التي لا يمكن الإغضاء عنها أو منحه المغفرة عن واحدة منه.
ثم ظهرت في المجوس نِحلة « المَانوية »، وهي المنسوبة إلى (مَاني) الذي ظهر في زمن سابور بن أردشير ملك الفرس بين سنة 238 وسنة 271م. وظهرت في المجوس نحلة (المزدكية)، وهي منسوبة إلى (مَزدك) الذي ظهر في زمن قُباذ بين سنة 487 وسنة 523م. وهي نحلة قريبة من (المانوية)، وهي آخر نحلة ظهرت في تطور المجوسيّة قبل الفتح الإسلامي لبلاد الفرس، وللمجوسية شبه في الأصل بالإشراك إلا أنها تخالفه بمنع عبادة الأحجار، وبأن لها كتاباً، فأشبهوا بذلك أهل الكتاب، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم فيهم: ” سُنوا بهم سنة أهل الكتاب ” أي في جواز أخذ الجزية منهم، وهم ويقدسون الملائكة ويتقربون إليهم من غير أن يتخذوا لهم أصناما كالوثنية، ويقدسون البسائط العنصرية وخاصة النار وكانت لهم بيوت نيران بإيران والصين والهند وغيرها.
وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا
القول الأول:
المشهور أنهم عبدة الأوثان والأصنام من العرب ومن غيرهم
الآلوسي والطوسي وابن جزي وأبو السعود والسمرقندي وابن أبي زمنين والبغوي والشوكاني
القول الثاني:
ما يعم الذين عبدوا الأوثان والأصنام وسائر من عبد مع الله تعالى إلهاً آخر من ملك وكوكب وغيرهما ممن لم يشتهر باسم خاص كالصابئة والمجوس
أبو زهرة [3]والبقاعي[4] ودروزة
إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
يفصل بينهم: الفَصْلُ في أصل اللغة: إبانة أحد الشّيئين من الآخر حتى يكون بينهما فرجة، والمراد، يَفْصِلُ بينهم بالحكم والقضاء بالعدل فيما اختلف فيه أصحاب هذه الفرق فينفصل المحق منهم ويتميز من المبطل انفصالا وتميزا تاما
معنى الفصل بينهم:
1) القول الأول: قالوا: فصله بينهم إدخاله لجميع الأحزاب الكافرة كاليهود والنصارى النار وإدخال المؤمنين الجنة فذلك هو الفصل من الله بينهم.
الطبري، الطبرسي وابن الجوزي وأبو حيان وابن كثير
2) القول الثاني: بإظهار المحق من المبطل وتوفية كل منهما حقه من الجزاء بإثابة المؤمنين وعقاب الفرق الآخرين بحسب استحقاق أفراد كل منهما ويجازيهم بأعمالهم التي حفظها وكتبها وشهدها.
اختاره أبو السعود والبقاعي والآلوسي والطباطبائي والسعدي أبو زهرة وهو الحق
الإعراب:
قوله تعالى: {إِنَّ الله يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة} في محل رفع خبرٌ لإنَّ السَّابقةِ، وحسن إعادة (إنَّ) في {إن الله يفصل} لطول الفصل بين اسم (إن) وخبرها، مع إرادة تأكيد وتحقيق الوعيدِ وتقدم منه قوله تعالى: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملاً} في [سورة الكهف: 30] ونحوه قول جرير:
إنَّ الْخَلِيفَةَ إنَّ اللَّهَ سَرْبَلَه *** سِرْبَالَ مُلْكٍ بِهِ تُرْجَى الْخَوَاتِيمُ
إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ
تعليل لما قبله من الفصل أي عالمٌ بكلِّ شيءٍ من الأشياء ومراقبٌ لأحواله ومن قضيَّتِه الإحاطةُ بتفاصيل ما صدرَ عن كلِّ فردٍ من أفراد الفرق المذكورةِ، وإجراءُ جزائه اللاَّئقِ به فالمراد أنه يفصل بينهم، وهو عالم بما يستحقه كل منهم فلا يجري في ذلك الفصل ظلم ولا حيف، والتعدية بـ “على” إشارة إلى معنى الرقابة عليهم، والإحاطة بهم.
الكلام على هذه الفرق: قال الإمام الرازي رحمه الله:
“واعلم أن المسلم لا يخالفه في المسائل الأصولية إلا طبقات ثلاثة:
أحدها: الطبقة المشاركة له في نبوة نبيه كالخلاف بين الجبرية والقدرية في خلق الأفعال البشرية والخلاف بين مثبتي الصفات والرؤية ونفاتها.
وثانيها: الذين يخالفونه في النبوة ولكن يشاركونه في الاعتراف بالفاعل المختار كالخلاف بين المسلمين واليهود والنصارى في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وعيسى وموسى عليهما السلام.
وثالثها: الذين يخالفونه في الإله وهؤلاء هم السوفسطائية المتوقفون في الحقائق، والدهرية الذين لا يعترفون بوجود مؤثر في العالم، والفلاسفة الذين يثبتون مؤثرا موجبا لا مختارا. فإذا كانت الاختلافات الواقعة في أصول الأديان محصورة في هذه الأقسام الثلاثة، ثم لا يشك أن أعظم جهات الخلاف هو من جهة القسم الأخير منها. وهذا القسم الأخير بأقسامه الثلاثة لا يوجدون في العالم المتظاهرين بعقائدهم ومذاهبهم بل يكونون مستترين، أما القسم الثاني وهو الاختلاف الحاصل بسبب الأنبياء عليهم السلام، فتقسيمه أن يقال القائلون بالفاعل المختار، إما أن يكونوا معترفين بوجود الأنبياء، أو لا يكونوا معترفين بذلك، فإما أن يكونوا أتباعا لمن كان نبيا في الحقيقة أو لمن كان متنبئا، أما أتباع الأنبياء عليهم السلام فهم المسلمون واليهود والنصارى، وفرقة أخرى بين اليهود والنصارى وهم الصابئون، وأما أتباع المتنبئ فهم المجوس، وأما المنكرون للأنبياء على الإطلاق فهم عبدة الأصنام والأوثان، وهم المسمون بالمشركين، ويدخل فيهم البراهمة على اختلاف طبقاتهم. فثبت أن الأديان الحاصلة بسبب الاختلافات في الأنبياء عليهم السلام هي هذه الستة التي ذكرها الله تعالى في هذه الآية، قال قتادة ومقاتل الأديان ستة واحدة لله تعالى وهو الإسلام وخمسة للشيطان”[5].
قال ابن القيم هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى:
“وَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بَعْثَ سيدنا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَسُولًا إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ وَهُمْ خَمْسَةُ أَصْنَافٍ قَدْ طَبَقُوا الْأَرْضَ: يَهُودُ، وَنَصَارَى، وَمَجُوسٌ، وَصَابِئُونَ، وَمُشْرِكُونَ.
وَهَذِهِ الْأَصْنَافُ هِيَ الَّتِي كَانَتْ قَدِ اسْتَوْلَتْ عَلَى الدُّنْيَا مِنْ مَشَارِقِهَا إِلَى مَغَارِبِهَا.
فَأَمَّا الْيَهُودُ فَأَكْثَرُ مَا كَانُوا بِالْيَمَنِ وَخَيْبَرَ وَالْمَدِينَةِ وَمَا حَوْلَهَا، وَكَانُوا بِأَطْرَافِ الشَّامِ مُسْتَذَلِّينَ مَعَ النَّصَارَى، وَكَانَ مِنْهُمْ بِأَرْضِ فَارِسَ مُسْتَذَلَّةٌ مَعَ الْمَجُوسِ، وَكَانَ مِنْهُمْ بِأَرْضِ الْمَغْرِبِ فِرْقَةٌ، وَأَعَزُّ مَا كَانُوا بِالْمَدِينَةِ وَخَيْبَرَ وَمَا حَوْلَهَا، وَكَانَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَدْ قَطَّعَهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا وَسَلَبَهُمُ الْمُلْكَ وَالْعِزَّ..
وَأَمَّا النَّصَارَى فَكَانُوا طَبَقَ الْأَرْضِ: فَكَانَتِ الشَّامُ كُلُّهَا نَصَارَى، وَأَرْضُ الْمَغْرِبِ كَانَ الْغَالِبُ عَلَيْهِمُ النَّصَارَى، وَكَذَلِكَ أَرْضُ مِصْرَ وَالْحَبَشَةِ وَالنُّوبَةِ[6] وَالْجَزِيرَةِ وَالْمَوْصِلِ وَأَرْضُ نَجْرَانَ وَغَيْرُهَا مِنَ الْبِلَاد.ِ.
وَأَمَّا الْمَجُوسُ فَهُمْ أَهْلُ مَمْلَكَةِ فَارِسَ وَمَا اتَّصَلَ بِهَ..
وَأَمَّا الصَّابِئَةُ فَأَهْلُ حَرَّانَ وَكَثِيرٌ مِنْ بِلَادِ الرُّومِ.
وَأَمَّا الْمُشْرِكُونَ فَجَزِيرَةُ الْعَرَبِ جَمِيعُهَا وَبِلَادُ الْهِنْدِ وَبِلَادُ التُّرْكِ وَمَا جَاوَرَهَا
وَأَدْيَانُ أَهْلِ الْأَرْضِ لَا تَخْرُجُ عَنْ هَذِهِ الْأَدْيَانِ الْخَمْسَةِ، وَدِينُ الْحُنَفَاءِ لَا يُعْرَفُ فِيهِمْ الْبَتَّةَ. وَهَذِهِ الْأَدْيَانُ الْخَمْسَةُ كُلُّهَا لِلشَّيْطَانِ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَغَيْرُهُ: الْأَدْيَانُ سِتَّةٌ: وَاحِدٌ لِلرَّحْمَنِ وَخَمْسَةٌ لِلشَّيْطَانِ”[7].

***********

 

[1] انظر ابن عاشور والطباطبائي وتاريخ الفكر الديني الجاهلي.
[2] ضبطه تاج العروس بضم الدال (زرادُشت)، وضبطه بعض العلماء بفتحها (زرادَشت)، وبعضهم بكسرها زَرَادِشْتُ
[3] قال أبو زهرة:” أي الذين أشركوا مع الله تعالى غيره في العبادة، وبهذا يدخل فيهم الذين قالوا: إن الملائكة بنات الله، ويدخل البراهمة، لأنهم قالوا: إن كرشنة ابن الله، وهم يصورون آلهتهم بتماثيل، كما يدخل البوذية، لأنهم قالوا إن بوذا ابن الله، ويدخل الكونفوشيوسية الآخذون بتعاليم كونغ فوتس الذي حرف بكونفشيوس، وهكذا فهم يدخلون في المشركون، لأن الإشراك غير مقصور على العرب الأقدمين، بل هو فيهم وفي غيرهم مع ملاحظة أن كونغ فوتس بوذي الديانة ولكن له مذهبا خلقيا أخذ به أهل الصين”. (زهرة التفاسير (8 / 4958).
[4] قال البقاعي: ” {والذين أشركوا} لشموله كل شرك حتى الأصغر من الربا وغيره” نظم الدرر (13/ 24).
[5] التفسير الكبير ” 23/ 212).
[6] (بِلَاد النّوبَة) وَطن ذَلِك الجيل وَيَقَع فِي الْجُزْء الجنوبي من بِلَاد مصر
[7] ص 235