إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين (20) بحث مفصل بقلم الشيخ علي هاني

يقدم لنا فضيلة الشيخ بحثاً في المنظور القرآني لعلاقة الإسلام والمسلمين باليهود والنصارى، وذلك من خلال دراسة الآيات الواردة بخصوصهم، وتركيز البحث في الدرجة الأولى على آية {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:62] وعلى ما يشبهها في المائدة والحج، ملخصاً وشارحاً ومستدلاً بأهم ما جاء في كتب التفسير في هذا الموضوع.

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

المسألة الحادية والعشرون: تلخيص أقوال العلماء في سورة المائدة:
القول الأول:
قالوا المراد بالذين آمنوا الذين آمنوا بالله الواحد والرسول محمد صلى الله عليه وسلم من هذه الأُمة هم أهل الإسلام وصدقوا بكل ما جاء نبينا محمد وثبتوا على إيمانهم، وآمنوا باليوم الآخر على ما حسب ما ذكره القرآن، وأما في حق اليهود والنصارى والصابئين، فالمراد من أحدث الإيمان ودخل في الإسلام ودخل فيه بأن شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وآمن بجميع أركان الإيمان كما، ثم نفى عنهم الخوف فلا خوف عليهم بما كان منهم في حال كفرهم كقوله تعالى: {إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف}، ولا حزن لهم بشرط انتقالهم إلى الإيمان بالله واليوم الآخر.
اختاره: الطبري[1] وابن عطية والثعالبي [2] وابن كثير[3] وابن عاشور[4] والسعدي وأبو زهرة [5] وسيد قطب والميرغني والهواري والماتريدي وابن أبي زمنين والأعقم وابن عجيبة[6].وأجازه الزمخشري [7]
القول الثاني:
قالوا المراد بالذين آمنوا المنافقون في أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فهم قوم آمنوا بألسنتهم ولم يؤمنوا بقلوبهم، فالمراد بالإيمان على طريق المجاز والتسّمية دون الحكم والحقيقة، فكأنه قال: إن المنافقين والذين هادوا والنصارى والصابئين، فقرنهم باليهود لنفاقهم، ثم بين حكم من آمن بالله واليوم الآخر من جميعهم، فقال سبحانه: {من آمن} أي من حقق وأخلص من المنافقين، ودخل في الإيمان من النصارى والذين هادوا والصابئين بأن شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وآمن باليوم الآخر كما ورد في القرآن الكريم وحقق شروط الإيمان قالوا ويدل على هذا الاختيار قوله ” لايحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ”
اختاره: سفيان الثوري والزجاج وأبو السعود والبقاعي[8] والسمعاني والنسفي والخازن[9] ، والطبرسي والنيسابوري والشوكاني واطفيش وحسنين مخلوف والشعراوي والطوسي وصديق حسن خان ومكي والنسفي والبغوي وأجازه الزمخشري ورده أبو زهرة [10]
القول الثالث: الجمع بين القولين السابقين
قال الآلوسي:” واختار القاضي[11] أن المراد بهم المتدينون بدين محمد صلى الله عليه وسلم مخلصين كانوا أو منافقين”، فالمراد بالذين آمنوا مطلقَ المتدينين بدين الإسلام المخلِصين منهم والمنافقين، فالمرادُ بمن آمن من اتصف منهم بالإيمان الخالص بالمبدأ والمَعادِ على الإطلاق سواء كان ذلك بطريق الثبات والدوام عليه كما هو شأن المخلصين أو بطريق إحداثه وإنشائه كما هو حالُ من عداهم من المنافقين وسائر الطوائف”
القول الرابع: أن المراد بالذين آمنوا المؤمنون بالنبي صلى الله عليه وسلم، وبالنصارى والذين هادوا والصابئين من كان منهم مؤمنا في فترة من الفترات قبل أن ينسخ شرع كل منهم
قاله مقاتل وشحاته [12] واطفيش ورده أبو السعود.
قال مقاتل: “قوله سبحانه: {إن الذين آمنوا}، يعني الذين صدقوا، {والذين هادوا}، يعني ـ ـ {من آمن} من هؤلاء {بالله واليوم الآخر وعمل صالحا}، وأدى الفرائض من قبل أن يبعث محمد صلى الله عليه وسلم، فله الجنة، ومن بقي منهم إلى أن يبعث محمد صلى الله عليه وسلم، فلا إيمان له، إلا أن يصدق بمحمد صلى الله عليه وسلم، فمن صدق بالله عز وجل أنه واحد لا شريك له، وبما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وبالبعث الذي فيه جزاء الأعمال، {فلا خوف عليهم} من العذاب، {ولا هم يحزنون} من الموت”[13].
رده أبو السعود قائلا:” وأما ما قيل: المعنى من كان منهم في دينه قبل أن يُنسَخَ مصدِّقاً بقلبه بالمبدأ أو المعاد عاملاً بمقتضى شرعه فمما لا سبيل إليه أصلاً كما مر تفصيله في سورة البقرة”.

 

[1] قال الطبري:”يقول تعالى ذكره: إن الذين صدّقوا الله ورسوله، وهم أهل الإسلام، والّذين هَادُوا وهم اليهود والصابئون. وقد بينا أمرهم. والنّصَارى مَنْ آمَنَ باللّه واليَوْمِ الاَخِرِ فصدّق بالبعث بعد الممات، وعمل من العمل صالحا لمعاده، فلا خَوْفٌ عليهم فيما قدّموا عليه من أهوال القيامة، ولا هُمْ يَحْزَنُونَ على ما خلفوا وراءهم من الدنيا وعيشها بعد معاينتهم ما أمرمهم الله به من جزيل ثوابه” جامع البيان (10/ 476).
[2] إلا أن ابن عطية وتبعه الثعالبي عمما الذين آمنوا في جميع العصور فقال: ابن عطية: {الذين} لفظ عام لكل مؤمن من ملة محمد ومن غيرها من الملل، فكأن ألفاظ الآية حصر بها الناس كلهم، وبينت الطوائف على اختلافها، وهذا تأويل جمهور المفسرين ” المحرر الوجيز (2/219)
[3] قال ابن كثير: “ثم قال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} وهم: المسلمون {وَالَّذِينَ هَادُوا} وهم: حملة التوراة {وَالصَّابِئُونَ والصابئون: طائفة بين النصارى والمجوس، ليس لهم دين. قاله مجاهد، ـ ـوالمقصود: أن كل فرقة آمنت بالله وباليوم الآخر، وهو المعاد والجزاء يوم الدين، وعملت عملا صالحًا، ولا يكون ذلك كذلك حتى يكون موافقًا للشريعة المحمدية بعد إرسال صاحبها المبعوث إلى جميع الثقلين فمن اتصف بذلك {فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} فيما يستقبلونه 4 ولا على ما تركوا وراء ظهورهم {وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} وقد تقدم الكلام على نظيراتها في سورة البقرة، بما أغنى عن إعادته” تفسير ابن كثير:” (/156).
[4] قال ابن عاشور: “والوجه عندي أنّ المراد بالَّذين آمنوا أصحاب الوصف المعروف بالإيمان واشتهر به المسلمون، ولا يكون إلاّ بالقلب واللّسان لأنّ هذا الكلام وعد بجزاء الله تعالى، فهو راجع إلى علم الله، والله يعلم المؤمن الحقّ والمتظاهر بالإيمان نِفاقاً” التحرير والتنوير (6 / 269)
[5] قال أبو زهرة بعد أن رد الجواب الأول واعترض عليه: “الجواب الثاني- أن معنى آمن بالنسبة لهم استمرار الإيمان وبالنسبة لغيرهم إنشاؤه ونرى في هذا الجواب نوعا من دلالة اللفظ على معنيين متقاربين في موضع واحد، إذ يراد الإذعان، والاستمرار عليه، وإني أرى أن الخبر ليس للحكم بقبول الإيمان فقط، بل إنه خبر في معنى الشرط والجزاء فيه إثبات أن الايمان مناط النجاة والثواب، وذلك ينطبق على المؤمنين ومن يدخلون في الإيمان ” زهرة التفاسير (5/ 2298).
[6] قال ابن عجيبة::” {من آمن} منه {بالله} إيمانًا حقيقيًا؛ بلا شرك ولا تفريق، وآمن باليوم الآخر”
[7] قال الزمخشري:”فإن قلت: كيف قال: {الذين آمنوا} ثم قال: {مَنْ ءامَنَ}؟ قلت: فيه وجهان، أحدهما: أن يراد بالذين آمنوا: الذين آمنوا بألسنتهم وهم المنافقون وأن يراد بمن آمن. من ثبت على الإيمان واستقام ولم يخالجه ريبة فيه” الكشاف (1/661).
[8] قال البقاعي:” {إن الذين آمنوا} أي قالوا: آمنا {والذين هادوا} أي اليهود {والصابئون} أي القائلون بالأوثان السماوية والأصنام الأرضية {والنصارى} أي الذين يدعون اتباع المسيح عليه السلام، {من آمن} أي منهم مخلصاً من قلبه، ولعله ترك الجار إعراقاً في التعميم {بالله} أي الذي له جميع الجلال والإكرام {واليوم الآخر} أي الذي يبعث فيه العباد بأرواحهم وأشباحهم، ويبعث من ذكره على الزهادة وألحد في العبادة، وبالإيمان به يحصل كمال المعرفة بالله تعالى باعتقاد كمال قدرته {وعمل صالحاً} أي صدق إيمانه القلبي بالعمل بما أمر به، ليجمع بين فضيلتي العلم والعمل، ويتطابق الجنان مع الأركان {فلا خوف عليهم} يعتد به في دنيا ولا في آخرة {ولا هم} أي خاصة {يحزنون *} أي على شيء فات، لأنه لا يفوتهم شيء يؤسف عليه أصلاً، وأما غيرهم فهم في الحزن أبداً ” نظم الدرر(6/ 241).
[9] قال الخازن: “فإن قلت: قد قال الله تعالى في أول الآية إن الذين آمنوا ثم قال في آخر الآية فمن آمن فما فائدة هذا التكرار. قلت: فائدته أن المنافقين كانوا يظهرون الإسلام ويزعمون أنهم مؤمنون، ففي هذا التكرار إخراجهم من قبيل المؤمنين فيكون معنى إن الذين آمنوا أي بألسنتهم لا بقلوبهم. ثم قال: من آمن يعني من ثبت على إيمانه ورجع عن نفاقه منهم “.
[10] قال أبو زهرة:”وقد تكلم العلماء في أمرين لا بد أن نتكلم فيهما:أولهما: أن الله تعالى ابتدأ طوائف الذين يغفر لهم أن آمنوا بالمؤمنين فقال سبحانه: (إن الذين آمنوا) وجاء الخبر من بعد: (من آمن بالله واليوم الآخر)، فكيف ينطبق هذا الخبر على الذين آمنوا وهم قد سبق إيمانهم فلا يحتاج إلى تجديد، ولو كان الخبر مقصورا على الذين هادوا والصابئين والنصارى لكان له موضعه ظاهرا لأنهم غير مؤمنين.وقد أجاب العلماء عن ذلك بجوابين: أحدهما – أن الذين آمنوا قد يراد بهم الذين أعلنوا الدخول في الإسلام وإن لم تذعن قلوبهم، ولكن هذا الجواب لا نرتضيه لأن المنافقين ومن لم يذعنوا للحقائق الإسلامية لا يسمون مؤمنين، اقرأ قوله تعالى: (قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم..14) (الحجرات) ” لباب النقول (2/64).
[11] يعني القاضي البيضاوي بيض الله غرته.
[12] قال شحاته:”إن أتباع الديانات السابقة من المؤمنين برسالة محمد صلى الله عليه وسلم ومن اليهود المتمسكين برسالة موسى عليه السلام قبل المسيحية ممن لم يحرفوا كتب أنبيائهم، ومن الصابئين الذين تمسكوا بملة إبراهيم عليه السلام قبل نسخها، (والصابئة: فرقة تعيش في العراق ولهم طقوس دينية خاصة بهم، ومن العسير الجزم بحقيقة معتقدهم لأنهم أكتم الناس لعقائدهم. ويقال: إنهم يعبدون الملائكة أو الكواكب)، ومن المسيحين الذي تمسكوا بالمسيحية، ولم يحرفوها قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، هؤلاء جميعا إذا آمنوا بالله تعالى إيمانا صحيحا غير ملتبس بالشرك، واستمسكوا بهذا الإيمان، واتبعوا أنبياءهم وما جاء على ألسنتهم من التبشير بمحمد صلى الله عليه وسلم وآمنوا به عند مبعثه، وآمنوا بالبعث والنشور والجزاء، وعملوا الصالحة؛ إن هؤلاء جميعا يظفرون بالثواب الجزيل على ما قدموه من إيمان وعمل صالح “.
[13] تفسير مقاتل بن سليمان (1/ 493)