إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين (18) بحث مفصل بقلم الشيخ علي هاني

يقدم لنا فضيلة الشيخ بحثاً في المنظور القرآني لعلاقة الإسلام والمسلمين باليهود والنصارى، وذلك من خلال دراسة الآيات الواردة بخصوصهم، وتركيز البحث في الدرجة الأولى على آية {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:62] وعلى ما يشبهها في المائدة والحج، ملخصاً وشارحاً ومستدلاً بأهم ما جاء في كتب التفسير في هذا الموضوع.

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

المسألة الثامنة عشرة: معنى {فلهم أجرهم عند ربهم}:
• سر إفراد الضمير في {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا}:
لما كان الإفراد أدل على تخصيص كل واحد بما له، وأيضا لأن كل عامل يعمل لنفسه، فكل منهم منظور لعمله الانفرادي، ومسؤول عن نفسه ـ أفرد الضمائر في {من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا} مراعاة للفظ (من)، ولما كان الجمع أدل على إرادة العموم، بحيث يحكم على جميعهم وأقطع للتعنت جمع الضمائر في {فلهم أجرهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون}مراعاة لمعنى (من).
• قدم (لهم) تعجيلا للبشارة اهتماما بها وتشويقا للمؤخر.
• (أجرهم): ثوابهم الذي وعدوه على الإيمان والعمل الصالح والمراد به نعيم الآخرة سمى ما وعدهم أجرا مع أن الأجر أصالة ما كان عن اتفاق ومقابل عمل مع أن الأجر منه سبحانه كرم منه لما أنه الخلود في مقابل عمل سنوات قلائل ـ تأكيدا لحصوله وتطيبا واعتناء بعملهم الذي وعدوه على تلك الأعمال المشروطة بالإيمان.
• (عند ربهم): كائناً عند ربهم [1] ” ” لا يضيع لأنه عند لطيف حفيظ فهو محفوظ لا يخشى عليه نسيان ولا يتوجه إليه تلف وفي التعبير بذلك مزيد لطف وتشريف فـ(عند): مستعملة في تحقيق الوعد وللتشريف كما تستعمل في تحقيق الإقرار في قولهم لك عندي كذا.
(ربهم): في إضافة ضميرهم إلى الرب مزيدُ لُطفٍ بهم، وإيذانٌ بأن أجرَهم مُتَيقَّنُ الثبوت مأمونُ الفَوات.
• فـ(عند): دلت على أن الأجر لا يضيع والإضافة لاسم الرب تعالى مما يزيد الأجر تحققاً؛لأن المضاف إليه أكرم الكرماء فلا يفوت الأجر الكائن عنده.
المسألة التاسعة عشرة: معنى{ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون}:
• الخوف: الفزع من المستقبل، واضطراب النفس من توقع شيء ضارّ.
• الحزن: ضد السرور وهو مأخوذٌ من الحَزْن وهو: ما غَلُظَ من الأرض، فكأنه ما غَلُظ من الهمِّ، ولا يكون إلا على أمر ماض.
• {فلا خوف عليهم}: المعنى لا خوف عليهم فضلاً عن أن يحل بهم مكروه أي لا يُخاف عليهم من خائف ما، جعل نفي الخوف كناية عن نفي العقاب ونفي حصولِِ هول من اهوال القيامة، فالمنفي خوف حلول المكروه في الآخرة.
• العدول عن (لا خوف لهم أو عندهم) إلى (لا خوف عليهم) للإشارة إلى أنهم قد بلغت حالهم إلى حيث لا ينبغي أن يخاف أحد عليهم[2].
• {ولا هم يحزنون}: على ما خلفوا وراءهم من الدنيا وعيشها أو على شيء فات بل هم في أعظم السرور بما لهم من العز والكرامة مما أعدّ الله لهم من الثواب والنعيم المقيم عنده، لأنهم وجدوا أمورا أعظم وأشرف وأطيب مما كانت حاصلة لهم في الدنيا، ومن كان كذلك فإنه لا يحزن، فنفي الحزن كناية عن تحصيل أعظم الثواب، أي ينالهم من الثواب والكرامة ما ينسون معه مافقدوه في الدنيا، وهي أبلغ من الصريح وآكد لأنها كدعوى الشيء ببينة، والمراد بيان دوام الانتفاء.
• والتعبير في نفي الخوف بالخبر الاسمي وهو {لا خوف عليهم} لإفادة نفي جنس الخوف نفياً قاراً، لدلالة الجملة الاسمية على الدوام والثبات، وبرزت جملته مصدرة بالنكرة التي هي أوغل في باب النفي لبيان انتفاء جنس الخوف قليله وكثيره.
• ورُفع خوفٌ في نفي الجنس دون أن يأتي به مبنيا كما هو شأن اسم (لا) النافية للجنس [3]، إذ لا يتوهم نفي الفرد لأنّ الخوف من المعاني التي هي أجناس محضة لا أفراد لها كما تقدّم في قوله تعالى: {لا بيع فيه ولا خلة} [البقرة: 254]، ومنه ما في حديث أم زرع: « لا حَرٌ ولا قرٌ ولا مَخَافَةٌ ولا سَآمَةٌ ».
• والتعبير في نفي خوف بالخبر الفعلي وهو {يحزنون}لأن شأن الحزن أن يتجدد فعبر بالاسمية التي خبرها فعل، أي ثابت لهم عدم تجدد حزنهم في وقت من الأوقات، ولإفادة تخصيصهم بنفي الحزن في الآخرة أي بخلاف غير المؤمنين فإنهم يحزنون.
• وقدم عدم الخوف على عدم الحزن، لأن انتفاء الخوف فيما هو آت آكد من انتفاء الحزن على ما فات، ولذلك أبرزت جملته مصدرة بالنكرة التي هي أوغل في باب النفي[4].
• قوله تعالى {فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38)} ضد ما للمعتدين من الذل والمسكنة.

وبما سبق بحمد الله تعالى نكون قد فسرنا آية سورة البقرة، ومن المعلوم أن هذه الآية تكررت ثلاث مرات، في سورة البقرة، والمرة الثانية في المائدة:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69)}، والمرة الثالثة وردت في سورة الحج:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17) وآية المائدة موضوعها ومناسبتها توافق سورة البقرة، بخلاف سورة الحج فهي مفاصلة ووعيد للفرق الضالة، وما يقال في سورة البقرة يقال في آيتي المائدة والحج، ولكن يبقى أمور لم تذكر في تفسير آية سورة البقرة، وهي المسألة التاسعة عشرة.

 

[1] (لهم): هو متعلق بما تعلق به {لَهُمْ}، ويحتمل أن يكون حالاً من {أَجْرَهُمْ}.
[2] قال أبو حيان: وظاهر الآية عموم نفي الخوف والحزن عنهم، لكن يخص بما بعد الدنيا، لأنه في دار الدنيا قد يلحق المؤمن الخوف والحزن، فلا يمكن حمل الآية على ظاهرها من العموم لذلك.
[3] و{خوف} مرفوع في قراءة الجمهور وقرأه يعقوب مبنياً على الفتح وهما وجهان في اسم (لا) النافية للجنس.
[4] وللدكتور فاضل السامرائي في لمسات بيانية التي هي دروس فرغت في دروس على الشاملة (1/ 783) لطائف جميلة قال: ” (لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) تعبير في غاية العجب والدقة من الناحية التعبيرية والدقة ولا تعبير آخر يؤدي مؤدّاه. نفى الخوف بالصورة الإسمية ونفى الحزن بالصورة الفعلية كما خصص الحزن (ولا هم) ولم يقل (لا عليهم خوف): 1. (لا خوف عليهم) ولم يقل لا يخافون كما قال ” ولا هم يحزنون ” لأنهم يخافون ولا يصح أن يقال لا يخافون لأنهم يخافون قبل ذلك اليوم (يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار) (إنا نخاف من ربنا يوماً عبوساً قمطريرا) وهذا مدح لهم قبل يوم القيامة؛ أما يوم القيامة يخافون إلا مَن أمّنه الله تعالى. كل الخلق خائفون (يوم ترونها تذهل كل مرضعة عمّا أرضعت) لذا لا يصح أن يقال لا يخافون فالخوف شيء طبيعي موجود في الإنسان.
2. (لا خوف عليهم) معناها: لا يُخشى عليهم خطر؛ ليس عليهم خطر فقد يكونوا خائفين أو غير خائفين كما يخاف الأهل على الطفل مع أنه هو لا يشعر بالخوف ولا يُقدّر الخوف فالطفل لا يخاف من الحيّة ولكنا نخاف عليه منها لأنه لا يُقدّر الخوف. الخوف موجود ولكن الأمان من الله تعالى أمّنهم بأنه لا خوف عليهم، ليس المهم أن يكون الإنسان خائفاً أو غير خائف المهم هل يكون عليه خطر أم لا (لا خوف عليهم) وقد يخاف الإنسان من شيء ولكن ليس خوف كالطفل يخاف من لعبة لا تشكل عليه خطراً.
3. (ولا هم يحزنون): جعل الحزن بالفعل فأسنده إليهم لماذا لم يقل (ولا حزن)؟ لأنه لا يصح المعنى لأنه لو قالها تعني ولا حزن عليهم أي لا يحزن عليهم أحد المهم أن لا يكون الإنسان حزيناً لكن لا أن يُحزن عليه أحد (إما لأنه لا يستحق الحزن عليه أو لا يشعر). 4. ولا هم يحزنون: بتقديم (هم) الذين يحزن غيرهم وليس هم. نفي الفعل عن النفس ولكنه إثبات الفعل لشخص آخر كأن نقول (ما أنا ضربته) نفيته عن نفسي وأثبتّ وجود شخص آخر ضربه (يُسمّى التقديم للقصر) أما عندما نقول (ما ضربته) يعني لا أنا ولا غيري. نفى الحزن عنهم وأثبت أن غيرهم يحزن (أهل الضلال في حزن دائم). ولم يقل ” لا خوف عليهم ولا حزن لهم ” لأنها لا تفيد التخصيص (نفى عنهم الحزن ولم يثبته لغيرهم) ولو قال ولا لهم حزن لانتفى التخصيص على الجنس أصلاً ولا ينفي التجدد وقوله تعالى (لا خوف ٌ عليهم ولا هم يحزنون) لا يمكن أن يؤدي إلى حزن فنفى الخوف المتجدد والثابت ونفى الحزن المتجدد (ولا هم يحزنون) بمعنى لا يخافون؛ والثابت (لا خوف) ولا يمكن لعبارة أخرى أن تؤدي هذا المعنى المطلوب.
5. لماذا إذن لم يقل (لا عليهم خوف) ولماذا لم يقدم هنا؟ لأنه لا يصح المعنى ولو قالها لكان معناها أنه نفى الخوف عنهم وأثبت أن الخوف على غيرهم؛ يعني يخاف على الكفار لكن من الذي يخاف على الكفار. لذا لا يصح أن يقال “لا عليهم خوف “كما قال (ولا هم يحزنون).
6. لماذا قال (لا خوفٌ) ولم يقل ” لا خوفَ عليهم ” (مبنية على الفتح)؟ لا خوفَ: لا النافية للجنس تفيد التنصيص في نفي الجنس (لا رجلَ هنا معناها نفينا الجنس كله) أما (لا خوفٌ) عندما تأتي بالرفع يحتمل نفي الجنس ونفي الواحد. والسياق عيّن أنه لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون من باب المدح على سبيل الإستغراق وفي مقام المدح. وفي قراءة أخرى (خوفَ) – قراءة يعقوب -. الرفع أفاد معنيين لا يمكن أن يفيدها البناء على الفتح، (لا خوفٌ عليهم) يفيد دلالتين: أولاً: إما أن يكون حرف الجر متعلق بالخوف “خوفٌ عليهم”والخبر محذوف بمعنى: لا خوف عليهم من أي خطر (لا خوف) من باب الحذف الشائع ويحتمل أن يكون الجار والمجرور هو الخبر (عليهم) قد يكون هو الخبر. مثال قولنا: الجلوس في الصف: قد تحتاج إلى خبر فنقول الجلوس في الصف نافع وجيّد، وقد تحتمل معنى أن الجلوس (مبتدأ) “في الصف” خبر بمعنى الجلوس كائن في الصفّ.
في الرفع (لا خوفٌ عليهم) تدل على معنيين:
لا خوف عليهم من أي شيء، وتحتمل لا خوف عليهم وهذا متعلق بالخوف ومتعلق بالخبر المحذوف (من أي خطر). أما في النصب (لا خوفَ عليهم) لا يمكن أن يكون هذا الأمر ولابد أن يكون الجار والمجرور هو الخبر (لا خوف عليهم) عليهم لا يحتمل أن يكون متعلقاً وهذا يؤدي إلى معنى واحد وليس معنيين أي يأخذ شق من المعنيين ويكون متعلقاً بالخبر المحذوف وليس بالخبر. فلماذا لا يصح؟ لأنه إذا تعلق بالمضاف يجب القول لا خوفاً عليهم (لأنه يصبح شبيه بالمضاف) ولا يعد مبنياً على الفتح إنما منصوباً.