إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين (16) بحث مفصل بقلم الشيخ علي هاني

يقدم لنا فضيلة الشيخ بحثاً في المنظور القرآني لعلاقة الإسلام والمسلمين باليهود والنصارى، وذلك من خلال دراسة الآيات الواردة بخصوصهم، وتركيز البحث في الدرجة الأولى على آية {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:62] وعلى ما يشبهها في المائدة والحج، ملخصاً وشارحاً ومستدلاً بأهم ما جاء في كتب التفسير في هذا الموضوع.

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

المسألة السادسة عشرة: عبارة {آمن بالله واليوم الآخر} في مصطلح القرآن يراد بها الإيمان بجميع الأركان كما تقدم ويوضحه استعمالات القرآن لذلك:
{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}(سورة البقرة: 228)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}(2/264).
{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2)}سورة النور:2).
{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)} (سورة البقرة: 126).
{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232)} (سورة البقرة:232).
{ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (112)}
{وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا (39} (سورة النساء:39)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)} (سورة النساء: 59).
{مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17) إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)} (التوبة: 18)
{لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45)} (التوبة: 45)
{وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99)}(التوبة: 99)
{لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)} (المجادلة:22)
{فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2)}(الطلاق:2)
فهذا المصطلح ـ كما ترى ـ يطلقه الله ويخاطب به المؤمنين به، الذين يؤمنون بالله الواحد الذي لا شريك له ويؤمنون برسوله محمد وبشرعه ويسيرون على ما أتى به من الشرع، ويقيمون حدوده ويمتثلون بأحكامه، ويؤمنون بجميع ما يجب الإيمان به، ومنها الإيمان بجميع الرسل كما وضحنا ذلك قريبا، ونلاحظ في الآيات السابقة أنه ذكر الرسول فيها مع أنه لم يقل يؤمنون بالله ورسوله واليوم الآخر ففي قوله تعالى:{لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44)}التوبة، لاحظ الكلام في استئذان الرسول صلى الله عليه وسلم في التخلف عن الجهاد وهو يستلزم الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يقل القرآن لا يسـتأذنك الذين يؤمنون بالله ورسوله واليوم الآخر لأنه واضح معلوم، وكذلك التصريح يخالف الإيجاز الذي هو قوام بلاغة القرآن المعجز، وكذلك في قوله تعالى: {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99)}(التوبة: 99)لاحظ ذكر صلوات الرسول مع أنه لم يقل يؤمن بالله والرسول، وكذلك في {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)} (المجادلة:22)}فهؤلاء لا بد أن يؤمنوا بالرسول إيمانا تاما ولو وادوا فقط من حاد الله ورسوله هم ليسوا مؤمنين حقيقة، فذكر من حاد الله ورسوله مع أنه لم يقل في أول الآية قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر والرسول، فأي نص أصرح من هذا.
وأيضا يلاحظ أن الآيات التي فيها آمن بالله واليوم الآخر تتحدث عن أحكام لا يقوم بها إلا المسلمون المؤمنون إيمانا بجميع الأركان: كجلد الزاني مائة جلدة {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} ومثل ذلك يقال في الطلاق {الْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} وعمارة المساجد {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}.

**********

وبهذا البيان الواضح يرد على من يستدل بقوله تعالى وهو يتحدث عن أهل الكتاب بقوله تعالى: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115)}فهو يستدل على أن النصارى الذين يقولون بالتثليث في زماننا، واليهود المغيرون للعقائد والأديان ـ مؤمنون وفي الجنة، ولو لم يؤمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم وبجميع الرسل ولو لم يتبعوا شرعه صلى الله عليه وسلم والقرآن ويتركوا نصرانيتهم ويهوديتهم، وبعضهم يعدل هذا الادعاء الباطل ليقبله الناس فيقول: يشترط أن يؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم فيقول هذا نبي، ولا يشترط أن يتبع شرعه وأن يتدين بشرعه فإن لم يتبع الرسول ولم يكفر به فله أجر واحد، فإن أقر به واتبعه فله أجران:
فنقول يرد عليه بأمور كثيرة:
1) الأمر الأول: أنه قد تقدم الرد على هؤلاء جميعا بآية واضحة كالشمس وهي قوله تعالى {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)} فكيف يأمر القرآن الكريم بقتالهم وهم مؤمنون متبعون للحق كما يقول هؤلاء؟!، بل كيف يقول عنهم القرآن لا يدينون دين الحق؛ لأنهم لم يعملوا بكتابهم الذي يدعوهم أن يؤمنوا بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم ويبشر به، ثم يأتي هؤلاء ويقولون هم على الحق؟!، فهؤلاء لم يؤمنوا لا بالتوراة ولا الإنجيل كما يدعون لأنهما يبشران بالرسول صلى الله عليه وسلم ويأمران بالإيمان به، فلو كانوا يؤمنون بكتبهم حقيقة لآمنوا به صلى الله عليه وسلم، {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6)}الصف، ولم يؤمنوا بالقرآن الناسخ للشرائع السابقة كما نص القرآن على ذلك ونص على أن كل أمة من الأمم جعل الله لها شرعا يناسب زمانها، وأمر باتباع هذا المنهج والحذر من أهوائهم
{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)} المائدة، وهم أيضا لم يحرموا ما حرم الله ورسوله: ومعلوم أن الرسول هنا المراد به النبي صلى الله عليه وسلم كما هو متعارف القرآن ولو أريد غيره من الرسل لقال ورسله لأنّ الله ما حرّم على لسان رسوله إلاّ ما هو حقيق بالتحريم.
قال ابن عاشور:”فإنّ كثيراً من اليهود خلطوا أمور الشرك بأديانهم وعبدوا الآلهة كما تقول التّوراة. ومنهم من جعل عُزيراً ابناً لله، وإنّ النّصارى ألَّهوا عيسى وعبدوه، والصابئة عبدوا الكواكب بعد أن كانوا على دين له كتاب، ثمّ إنّ اليهود والنّصارى قد أحْدثوا في عقيدتهم من الغرور في نجاتهم من عذاب الآخرة بقولهم: {نحن أبناء الله وأحِبَّاؤه} [المائدة: 18] وقولِهم {لن تمسّنا النّار إلاّ أيَّاماً معدودة} [البقرة: 80]، وقول النّصارى: إنّ عيسى قد كفَّر خطايا البشر بما تحمّله من عذاب الطّعن والإهانة والصّلب والقتل، فصاروا بمنزلة من لا يؤمن باليوم الآخر، لأنّهم عطّلوا الجزاء وهو الحكمة الّتي قُدّر البعث لتحقيقها”[1] .
2) الأمر الثاني: في نص الآية والسياق وكلام العلماء ما يرد عليه {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ}

أ‌) فأولا: مصطلح الإيمان بالله واليوم الآخر: كما كررت مرارا مراد به الإيمان بجميع أركان الإيمان.
ب‌) ثانيا: هذه الآية وردت في سورة آل عمران، التي هي أكثر سورة ردت على النصارى فهي متخصصة في الرد عليهم، فمقصود سورة آل عمران ومحورها الذي تدور عليه: “إثبات وحدانية الله تعالى وأنه ليس له ولد، وصدق رسالة محمد صلى الله عليه وسلم المصدقة للتوراة والإنجيل وإثبات ذلك بالأدلة الكثيرة فمن كذب به من أهل الكتاب نال عذاب الدنيا والآخرة وإن وتقلب في البلاد فلا بد من خسارته وغلبته دنيا وأخرى، ومن آمن به واتقى الله وصبر وصابر ورابط، وأوذي في سبيل الله نال سعادة الدنيا والنصر والعزة والرضوان والجنة وإن ابتلي وأوذي”، واسم السورة يشير لموضوعها: فما ذكر من أخبار آل عمران دال على القدرة التامة الموجبة للتوحيد، فمن المضحكات التي تضحك منها الثكلى أن يدعي هؤلاء أن هذه الآية تحكم على أن النصارى مؤمنون مقبولة أعمالهم عند الله مع أنها وردت في أطول سورة ترد على النصارى وتحكم بكفرهم وتدعوهم للإيمان بالرسول وتذكر معايبهم، وتبين أن حب الله مربوط باتباع نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، فهذا قول عجيب لا يصدر من عاقل منصف،ولو أردت أن أورد الآيات التي وردت في آل عمران تبطل دين النصارى المثلث لاحتجت أن أورد جميع آيات السورة، لكن لأننا في زمان احتاج النهار فيه إلى دليل، أورد بعضا من هذه الآيات التي هي في نفس السورة التي وردت فيها آية {ليسوا سواء} وهي سورة آل عمران:
{الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (4)} {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10)} {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20) إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (22) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24)} {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32) إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33)} {وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (51)} {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61)}
{يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71) وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74)} {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80) وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82) أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83)ؤ {قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)ؤ {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100)}.
ثالثا: وصف الصلاح والتقوى والخير، {وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ} لا تجتمع مع أوصاف النصارى المشركين المثلثين، ولا مع اليهود الواصفين لله بالأوصاف التي لا تليق الذين يكفرون بالأنبياء، ويصفونهم بما لا يليق، فهل هذه الأفعال تسمى أعمالا صالحا وخيرا، وهل هؤلاء يوصفون بالتقوى؟!وسيأتي تفصيل هذا قريبا.
رابعا: هذا القول لم يقل به أحد من المفسرين قط قبل هذا القرن الذي نحن فيه، فالمفسرون على اختلاف فرقهم مُجْمِعون على بطلان هذا التفسير،وسأبين تفسير الآية وأقوال العلماء فيها ليتضح سر اختيار كل لفظة في الآية، ففي كل كلمة رد على هذا القول:
التفسير التحليلي للآية:
لأنه يكثر الاستدلال من قبل أهل الباطل بهذه الآية سأطيل في شرحها لأدحض أي شبهة يذكرونها من خلالها:
في الآية أحد عشر مبحثا:
1) المبحث الأول: القول الراجح في معنى المراد منهم:
في الآية قولان: أورد القول الأول: مع تفسير الآية كاملة لأنه هو الراجح ثم أورد القول الثاني:
القول الأول:قول الجمهور، ومنهم الطبري والكشاف والآلوسي والبيضاوي وأبو السعود وابن كثير والواحدي والسمعاني والسعدي والنسفي والصابوني وسيد طنطاوي والمراغي وغيرهم.
قالوا المراد بهذه الآية: الذين آمنوا من أهل الكتاب بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ]:
• فمعنى {أُمَّةٌ قَائِمَةٌ} أي: قائمة بأمر الله، مطيعة لشَرْعه مُتَّبِعة نبيَّ الله، وهم الذين أسلموا منهم واستقاموا على أمر الله وأطاعوه في السر والعلن، كعبد الله بن سلام، وأصحابه، والنجاشي ومن آمن معه من النصارى، فهؤلاء قد آمنوا بكل ما يجب الإيمان به، ولم يفرقوا بين أنبياء الله ورسله، فمدحهم الله على ذلك وأثنى عليهم،
{يتلون آيات الله آناء الليل}فعبر عن تهجدهم بتلاوة القرآن في ساعات الليل مع السجود، لأنه أبين لما يفعلون وأظهر لخضوعهم؛ وأدل على حسن صورة أمرهم فبدل أن يقول آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم أتى بوصف يتضمنه وزيادة.
2) المبحث الثاني: معنى {يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}
معنى {يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} كما أخبر به القرآن والنبي ويؤمنون بجميع أركان الإيمان بما فيها الإيمان بجميع الرسل كما بين في سورة آل عمران نفسها {قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم ـ ـ لا نفرق بين أحد من رسله} ولا يكتفون بهذا بل يعملون بمقتضاه[2]
3) المبحث الثالث: علاقة الآية بما قبلها:
ثم مناسبة الآية توضح لنا صحة هذا التأويل الذي ذكره الجمهور:
ولما كان السياق في بيان قبائح أهل الكتاب وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء ولا سيما اليهود {بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (112)} {وأكثرهم الفاسقون} {وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110)} ربما أفهم أنهم كلهم متصفون بالصفات الذميمة وأنهم لا يؤمنون قال مستأنفاً نافياً لذلك: {ليسوا سواء} أي في هذه الأفعال، فهم ليسوا بدرجة واحدة، ففيهم المؤمن بالنبي صلى الله والقرآن العامل به، ومنهم الكافر،فأثنى الله سبحانه وتعالى على من أقبل على الحق منهم، وخلع الباطل ولم يراع سلفاً ولا خلفاً بعيدا ولا قريباً، فالقرآن يمدح كلّ من انفصل عن أكثريتهم الفاسدة، وخضع للحقّ والإيمان بالنبي والقرآن[3] .
4) المبحث الرابع: موقع {ليسوا سواء) ومعناها:
الجملة تمهيد لتعداد محاسن مؤمني أهل الكتاب، وضمير الجمع لأهل الكتاب جميعاً لا للفاسقين (منهم)، اسْتِئْنَافٌ قُصِدَ بِهِ إِنْصَافُ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، بَعْدَ الْحُكْمِ عَلَى مُعْظَمِهِمْ بِصِيغَةٍ تَعُمُّهُمْ، تَأْكِيدًا لِمَا أَفَادَهُ قَوْلُهُ {مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ} فَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ لَيْسُوا لِأَهْلِ الْكِتَابِ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُمْ آنِفًا وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ تَتَنَزَّلُ مِنَ الَّتِي بَعْدَهَا منزلَة التَّمْهِيد.
والمعنى: {ليسوا}: ليس أهل الكتاب مستوين في القبائح والمساوئ، بل منهم من آمن بكتابه كالتوراة والإنجيل وبالقرآن ممن أدرك شريعة الإسلام، فلما جرى ذكر أهل الكتاب في قوله تعالى: {كانوا يكفرون بآيات الله، ويقتلون الأنبياء بغير حق} أعلم الله أن منهم أمة قائمة مؤمنة بالله سبحانه وبالقرآن والرسول، وإنما بدأ بذكر فعل الأكثر منهم، وهو الكفر والمشاقة، فذكر من كان منهم مبايناً لهؤلاء.

5) المبحث الخامس: المراد بكونهم أهل كتاب وسر الإظهار في موضع الإضمار:
• “إِطْلَاقُ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَيْهِمْ مَجَازٌ مرسل بِاعْتِبَارِ مَا كَانَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ [النِّسَاء: 2]} لِأَنَّهُمْ صَارُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ”[4] .
• سر الإظهار في موضع الإضمار أن الأصل أن يقال ـ بحسب الظاهر ـ (منهم أمة) لأنه قد تقدم ذكرهم لكنه قال {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ}:
أولا: إن ذكرهم بعنوان أهليةِ الكتابِ ليذكر أن أهلية الكتاب موجبةِ للإيمان بكتابهم (التوراة، الإنجيل) الناطقِ بوجوب الإيمان بمحمد صلى الله عليه وبما يصدّقه من القرآن العظيمِ كما ورد في هذه السورة {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82) أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83)} فهذا العنوانَ ـ أعني أهلية الكتاب ـ يستدعي الإيمانَ بما هو مصدِّقٌ لما معهم وهو القرآن.
ثانيا: أنه يتضمن أيضا المدح بأنهم أهل الكتاب المتمسكون به العاملون بما نطق به بخلاف غيرهم، كما قال تعالى قوله تعالى {الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به}، فـ(الذين) مبتدأ، و{يتلونه} حال، {أولئك يؤمنون} خبر، فهؤلاء هم أهل الكتاب الحقيقيون الذين يؤمنون حقيقة بالتوراة والإنجيل ويعملون به، فاستجابوا للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن التوراة والإنجيل يأمرانهم بذلك، أما الذي يقرأ في التوراة والإنجيل أنه يجب الإيمان بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم ثم يكفر بالنبي صلى الله عليه وسلم فهو لم يؤمن لا بتوراة ولا بإنجيل وليس من أهل الكتاب حقيقة، فوضع {أَهْلِ الكتاب} موضع الضمير زيادة في تشريفهم والاعتناء بهم.
ثالثا: ليَكُون الثَّنَاءُ شَامِلًا لِصَالِحِي الْيَهُودِ، وَصَالِحِي النَّصَارَى، فَلَا يُخْتَصُّ بِصَالِحِي الْيَهُودِ، لأن الآيات السابقة كانت تتحدث عن اليهود فلو قال:” منهم” لظن أن الكلام في اليهود خاصة.
رابعا: لما ذكر قبلها {كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ} فلو قال بعده (منهم أمة) لظن أن هذه الأمة من هؤلاء القتلة الكفرة.
وبهذا يظهر بطلان من يستدل بها على أن الآية تمدح الذين بستمرون على العمل بالتوراة والإنجيل بعد نزول القرآن، قال ولا يشترط أن يتبع شرع النبي صلى الله عليه وسلم، بدليل أنه قال: سماهم أهل الكتاب، والرد عليه أن التعبير عنهم بأهل الكتاب مع أنهم دخلوا في دين النبي صلى الله عليه وسلم من باب المَجَازٌ المرسل بِاعْتِبَارِ مَا كَانَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ [النِّسَاء: 2]} لِأَنَّهُمْ صَارُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وسر هذا التعبير لأجل تحصيل الأسرار البلاغية السابقة.
المبحث السادس: موقع ومعنى {مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ}
وَجُمْلَةُ {مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ}استئناف مبين لكيفية عدم التساوي ومزيل لما فيه من الإبهام فهي مُبَيِّنَةٌ لِإِبْهَامِ لَيْسُوا سَواءً.
• قائمة: “من قام اللازم بمعنى استقام أي: أمة مستقيمة على طاعة الله تعالى ثابتة على أمره لم تنزع عنه وتتركه كما تركه الآخرون وضيعوه “[5] .
• المراد بآيات الله في{يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّه}: هي آيات القرآن الكريم كما أريد بـ{آيات الله}القرآن في قوله تعالى: {رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا (11)}، وكيف يمدح الله من تلى آيات منسوخة يتعبد بها، وهو الذي قال سبحانه {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9)} الصف (6ـ 9).
• {وَهُمْ يَسْجُدُونَ} سر التعبير عن الصلاة بالسجود:
• التعبير عن الصلاة بالسجود لأنه أدل على كمال وغاية الخضوع، وهذا الوصف لا ينطبق على الذين لم يرضوا بدين الإسلام دينا، ولا بالنبي محمد صلى عليه وسلم رسولا، واستمروا على نصرانيتهم ويهوديتهم.
المبحث السابع: سر الاكتفاء من أركان الإيمان {بالله واليوم الآخر}في هذا الموضع لفائدتين:
أولا: لأنهما قطرا الإيمان، ومن أحاط بهما فقد حاز الإيمان بحذافيره؛لأن الإيمان الحقيقي باليوم الآخر يحث المؤمن به على أن يقر بكل ما يجب الإيمان به ويثاب عليه في ذلك اليوم، وترك كل ما يعاقب عليه في ذلك اليوم ويدخل دخولا اوليا الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن.
قال القونوي: “{والاكتفاء في قوله تعالى {يؤمنون بالله واليوم الآخر} بهما دون بقية أركان الإيمان لأنهما قطرا الإيمان انتهى أي طرفا الإيمان الذين من حواهما حوى جميع الأركان فالإيمان بهما يستلزم جميع أركان الإيمان”.
قال أبو حيان:” الإيمان بالله واليوم الآخر، وهو الحامل على عبادة الله وذكر اليوم الآخر لأنّ فيه ظهور آثار عبادة الله من الجزاء الجزيل، وتضمن الإيمان باليوم الآخر الإيمان بالأنبياء، إذ هم الذين أخبروا بكينونة هذا الجائز في العقل ووقوعه، فصار الإيمان به واجباً. “[6] .
ثانيا: إظهاراً لمخالفتهم لسائر اليهود لأن إيمان أهل الكتاب باليوم الآخر كلا إيمان لما فيه من تحريف فما عليه المؤمنون ومن يؤمن هو الإيمان الحقيقي باليوم الآخر
قال الآلوسي:” {يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الاخر} صفة أخرى لأمة، والمراد بهذا الإيمان الإيمان بجميع ما يجب الإيمان به على الوجه المقبول، وخص الله تعالى اليوم الآخر بالذكر إظهاراً لمخالفتهم لسائر اليهود فيما عسى أن يتوهم متوهم مشاركتهم لهم فيه لأنهم يدّعون أيضاً الإيمان بالله تعالى واليوم الآخر لكن لما كان ذلك مع قولهم: {عُزَيْرٌ ابن الله} [التوبة: 30] وكفرهم ببعض الكتب والرسل ووصفهم اليوم الآخر بخلاف ما نطقت به الشريعة المصطفوية جعل هو والعدم سواء”[7] .
قال الخازن:” {يؤمنون بالله واليوم الآخر} وذلك لأن إيمان أهل الكتاب فيه شرك ويصفون اليوم الآخر بغير ما يصفه المؤمنون”[8] ..
المبحث الثامن: سر تخصيصهم بهذه الصفات:
سر تخصيصهم بهذه الصفات وصفهم بصفات لم تكن في اليهود:
من تلاوة آيات الله بالليل ساجدين ومن الإيمان بالله؛ لأن إيمانهم به كلا إيمان لإشراكهم به عُزيراً وكفرهم ببعض الكتب والرسل دون بعض، ومن الإيمان باليوم الآخر؛ لأنهم يصفونه بخلاف صفته، ومن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأنهم كانوا مداهنين، ومن المسارعة في الخيرات وفرط الرغبة؛ لأنهم كانوا متباطئين عنها غير راغبين فيها.
قال أبو حيان: ولمّا ذكر تعالى هذه الأمة وصفها بصفات ست:
إحداها: أنها قائمة، أي مستقيمة على النهج القويم.
ولمّا كانت الاستقامة وصفاً ثابتاً لها لا يتغير جاء باسم الفاعل.
الثانية: الصلاة بالليل المعبر عنها بالتلاوة والسجود، وهي العبادة التي يظهر بها الخلو لمناجاة الله بالليل.
الثالثة: الإيمان بالله واليوم الآخر، وهو الحامل على عبادة الله وذكر اليوم الآخر لأنّ فيه ظهور آثار عبادة الله من الجزاء الجزيل، وتضمن الإيمان باليوم الآخر الإيمان بالأنبياء، إذ هم الذين أخبروا بكينونة هذا الجائز في العقل ووقوعه، فصار الإيمان به واجباً.
الرابعة: الأمر بالمعروف.
الخامسة: النهي عن المنكر، لما كملوا في أنفسهم سعوا في تكميل غيرهم بهذين الوصفين.
السادسة: المسارعة في الخيرات.
وهي صفة تشمل أفعالهم المختصة بهم، والأفعال المتعدية منهم إلى غيرهم.
وهذه الصفات الثلاثة ناشئة أيضاً عن الإيمان، فانظر إلى حسن سياق هذه الصفات حيث توسط الإيمان، وتقدمت عليه الصفة المختصة بالإنسان في ذاته وهي الصلاة بالليل، وتأخرت عنه الصفتان المتعدّيتان والصفة المشتركة، وكلها نتائج عن الإيمان”[9] .اهـ
المبحث التاسع:
معنى {وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115)}
اسم الإشارة{وَأُولَئِكَ}:
يعطينا فائدتين:
الأولى: علو منزلتهم في الشرف
الثانية: أن المتصفين بما قبلها يستحقون ما بعدها كما تقول: زيد يساعدك وينصرك ويخلص لك ذلك الصديق الحق، فَالْإِشَارَةُ بِأُولَئِكَ إِلَى الْأُمَّةِ الْقَائِمَةِ الْمَوْصُوفَةِ بِتِلْكَ الْأَوْصَافِ. تنبه عَلَى أَنَّهُمُ اسْتَحَقُّوا الْوَصْفَ الْمَذْكُورَ بَعْدُ من الصلاح وأنهم لا يُكْفَرون أجرهم.
معنى {من الصالحين}وسر التعبير به:
رمن الصالحين} من عداد الذين صلحت عند الله تعالى حالهم، وفي التعبير بقوله: {مِنَ الصالحين} إشارة إلى أنهم بهذه المزايا وتلك الصفات، قد انسلخوا من عداد أهل الكتاب الذين ذمهم الله – تعالى – ووصفهم بأن أكثرهم من الفاسقين فهم بسبب إيمانهم وأفعالهم الحميدة قد خرجوا من صفوف المذمومين إلى صفوف الممدوحين، وهذا رد لقول اليهود: ما آمن به إلا شرارنا.
وفي الوصف بالصلاح زيادة على الوصف بالإسلام، ولذلك سأل هذه الرتبةَ بعضُ الأنبياء عليهم السلام، فقال تعالى حكاية عن سليمان ـ على نبينا وعليه أفضل الصلاة وأتم التسليم ـ: {وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19)}النمل، وقال تعالى في حق إبراهيم عليه السلام: {وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130)}البقرة، وقال تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72)}الأنبياء، وقال تعالى: {وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85)}الأنعام، فهل الذين يشركون بالله ويقولون بالتثليث ينطبق عليهم هذا الوصف.
(وما يفعلوا من خير فلن يكفروه):
ثمّ إنّه سبحانه قال: (وما يفعلوا من خير فلن يكفروه) معقباً بذلك على العبارات السابقة ومكملاً للآية، ويعني بقوله أن هؤلاء الذين أسلموا واتخذوا مواقعهم في صفوف المتقين لن يضيع الله لهم عملاً، وإن كانوا قد ارتكبوا في سابق حالهم ما ارتكبوه من الآثام، وما اقترفوه من المعاصي، ذلك لأنهم قد أعادوا النظر في سلوكهم وأصلحوا مسارهم، وغيروا موقفهم.
معنى {والله عَلِيمٌ بالمتقين} وسر التعبير به:
عليم بأحوالهم فيجازيهم، وهذا تذييل مقرر لمضمون ما قبله، والمراد بالمتقين عام ويدخل المخاطبون دخولاً أولياً، وفي وضع الظاهر موضع المضمر إيذان بالعلة وأنه لا يفوز عنده إلا أهل التقوى، هذا وصف كما ترى لا ينطبق إلا المؤمن إيمانا كاملا ولا ينطبق على النصارى واليهود الذين في زماننا، وهل الذي يبقى على الشرك والتثليث كما هو عليه النصارى، والذي يصف الله سبحانه بأوصاف لا تليق، ويكفر بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم من المتقين، هذا لعمري في القياس عجيب.
المبحث العاشر:
سر إتباع الآية السابقة بقول تعالى: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ لَن تُغْنِىَ عَنْهُمْ أموالهم وَلاَ * أولادهم مّنَ الله شَيْئاً}:
لما وصف تعالى اهل الكتاب بالصفات الذميمة، ذكر انهم ليسوا بدرجة واحدة، ففيهم المؤمن والكافر، والبر والفاجر،ثم ذكر تعالى أن عمل المتقين لن يضيع، وأنهم يجازون به، ذكر هنا عقاب الكافرين وأن أموالهم وأولادهم لن تنفعهم يوم القيامة شيئا، وأعقب ذلك بالنهي عن اتخاذ أعداء الدين أولياء، ونبه إلى ما في ذلك من الضرر الجسيم في الدنيا والدين، وأستأنف حكم الكافرين، ففي مقابل الذين يبحثون عن الحقّ، ويؤمنون به من الذين وصفتهم الآية السابقة، هناك عناصر كافرة ظالمة وصفهم الله سبحانه في هاتين الآيتين بقوله: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (116)) فلا ينفع في الآخرة سوى العمل الصالح والإيمان الخالص لا الامتيازات المادية، في هذه الحياة: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88)}الشعراء، والمراد بالذين كفروا في قوله: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ} جميع الكفار، لأن اللفظ عام، ولا دليل يقتضى تخصيصه بفريق من الكافرين دون فريق، فيدخل دخولا أوليا النصارى واليهود الذين تتحدث عنهم السورة من أولها، قال محمد سيد طنطاوي:” المراد بالذين كفروا في قوله: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ} جميع الكفار، لأن اللفظ عام، ولا دليل يقتضى تخصيصه بفريق من الكافرين دون فريق “[10] .
المبحث الحادي عشر: القول الثاني في الآية[11] :
هذا الذي تقدم هو القول الأول وهو قول الجمهور الذي يناسب السياق والسباق وتؤيده الأدلة، وهناك قول آخر لا ينافي العقيدة الإسلامية وهو مقبول وإن كان مرجوحا من حيث التفسير، لأن السياق لا يناسبه.
قالوا: إن المراد بهؤلاء المذكورين في الآية هم الذين آمنوا بشريعة موسى وعيسى عليهما السلام غير المحرفة وعملوا بها وداموا عليها إلى أن جاء الإسلام فآمنوا بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وتبعوه كما قال تعالى {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (54) وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ}القصص، وكما قال تعالى {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85)} المائدة
اختاره التحرير والبقاعي والسامرائي ومحمد رشيد رضا، وكذا أبو زهرة[12]
وهذا القول ـ وإن كنا لا نختاره ولم يختره جمهور العلماء ـ إلا أنه مقبول، لكن القول غير المقبول هو القول الذي لم يقل به أحد قبل هذا القرن الذي نحن فيه، وهو أن الآية في المشركين المثلثين من النصارى والكفار من اليهود ولو لم يؤمنوا بأركان الإيمان، ولو لم يؤمنوا بيوم القيامة كما جاء تفصيله في القرآن، ولو لم يؤمنوا بجميع الأنبياء،وبعضهم يقول يكفي أن يؤمن بالنبي صلى الله عليه ولو لم يتبع شرعه.
وهذه أقوال لم يقل بها أحد من علماء المسلمين؛لأن هذا مخالف للقواطع القرآنية وأقربها ما ذكر في سورة آل عمران: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82)} كما سيأتي تفصيل شرحها، ونحن إذا لم نفهم القرآن كاملا بجميع نصوصه نكون ممن في قلوبهم زيغ الذين يتبعون ما تشابه ـ على فرض التسليم أن هذا مما يتشابه ـ ممن ذكرتهم سورة آل عمران في أولها في قوله تعالى {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7)}.
وهناك كلام للإمام الرازي يكتب بماء الذهب قال فيه عند تفسير قوله تعالى {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ} الآية (سورة البقرة: 177):
” فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّ صِفَةَ الْبِرِّ لَا تَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ اسْتِقْبَالِ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، بَلِ الْبِرُّ لَا يَحْصُلُ إِلَّا عِنْدَ مَجْمُوعِ أُمُورٍ أَحَدُهَا: الْإِيمَانُ بِاللَّهِ، وَأَهْلُ الْكِتَابِ أخلوا بذلك، أما اليهود فقولهم:
بِالتَّجْسِيمِ وَلِقَوْلِهِمْ: بِأَنَّ عُزَيْرًا ابْنُ اللَّهِ، وَأَمَّا النَّصَارَى، فَقَوْلُهُمْ: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ، وَلِأَنَّ الْيَهُودَ وَصَفُوا اللَّهَ تَعَالَى بِالْبُخْلِ، عَلَى مَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ [آلِ عِمْرَانَ: 181] وَثَانِيهَا: الْإِيمَانُ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْيَهُودُ أَخَلُّوا بِهَذَا الْإِيمَانِ حيث قالوا: وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى [الْبَقَرَةِ: 111] وَقَالُوا: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً [الْبَقَرَةِ: 80] وَالنَّصَارَى أَنْكَرُوا الْمَعَادَ الْجُسْمَانِيَّ، وَكُلُّ ذَلِكَ تَكْذِيبٌ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَثَالِثُهَا: الْإِيمَانُ بِالْمَلَائِكَةِ، وَالْيَهُودُ أَخَلُّوا ذَلِكَ حَيْثُ أَظْهَرُوا عَدَاوَةَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَرَابِعُهَا: الْإِيمَانُ بِكُتُبِ اللَّهِ، وَالْيَهُودُ وَالنَّصَارَى قَدْ أَخَلُّوا بِذَلِكَ، لِأَنَّ مَعَ قِيَامِ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ كِتَابُ اللَّهِ رَدُّوهُ وَلَمْ يَقْبَلُوهُ قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ [الْبَقَرَةِ: 85] وَخَامِسُهَا: الْإِيمَانُ بِالنَّبِيِّينَ وَالْيَهُودُ أَخَلُّوا بِذَلِكَ حَيْثُ قَتَلُوا الْأَنْبِيَاءَ، عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ [الْبَقَرَةِ: 61] وَحَيْثُ طَعَنُوا فِي نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَادِسُهَا: بَذْلُ الْأَمْوَالِ عَلَى وَفْقِ أَمْرِ الله سبحانه واليهود وأخلوا بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ يُلْقُونَ الشُّبُهَاتِ لِطَلَبِ الْمَالِ الْقَلِيلِ كما قال وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا [البقرة: 187] وَسَابِعُهَا: إِقَامَةُ الصَّلَوَاتِ وَالزَّكَوَاتُ وَالْيَهُودُ كَانُوا يَمْنَعُونَ النَّاسَ مِنْهَا وَثَامِنُهَا: الْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ، وَالْيَهُودُ نَقَضُوا العهد حيث قال: أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ [13]
وأرجو العذر من القارئ في الإطالة في هذه الآية، لأني اضطررت إليه لكثرة ما يستدل بها من حرف القرآن عامدا أو غير عامد، ولنعد إلى تفسير الآية التي بحثنا فيه أصالة.

**********

 

[1]التحرير والتنوير(6 /270)
[2] قال الطبري: “قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب في تأويل ذلك، ما قاله ابن عباس وقتادة ومن قال بقولهما على ما روينا عنهم، وإن كان سائر الأقوال الأخَر متقاربة المعنى من معنى ما قاله ابن عباس وقتادة في ذلك. وذلك أن معنى قوله:”قائمة”، مستقيمة على الهدى وكتاب الله وفرائضه وشرائع دينه، والعدلُ والطاعةُ وغير ذلك من أسباب الخير، (من صفة أهل الاستقامة على كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ونظير ذلك، الخبرُ الذي رواه النعمان بن بشير، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:-“مثل القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم ركبوا سفينة”، ثم ضرب لهم مثلا.(جامع البيان(7/123).
وقال الطبري: “فتأويل الكلام: من أهل الكتاب جماعة معتصمة بكتاب الله، متمسكة به، ثابتة على العمل بما فيه وما سن لهم رسوله صلى الله عليه وسلم.قال ابن كثير: قال تعالى: {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ] أُمَّةٌ قَائِمَةٌ} أي: قائمة بأمر الله، مطيعة لشَرْعه مُتَّبِعة نبيَّ الله، [فهي] {قَائِمَةٌ} يعني مستقيمة، قال الكشاف: الضمير في {لَّيْسُواْ} لأهل الكتاب، أي ليس أهل الكتاب مستوين. وقوله: {مّنْ أَهْلِ الكتاب أُمَّةٌ قَائِمَةٌ} كلام مستأنف لبيان قوله: {لَيْسُواْ سَوَاءً} كما وقع قوله: {تَأْمُرُونَ بالمعروف} [آل عمران: 110] بياناً لقوله {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} {أُمَّةٌ قَائِمَةٌ} مستقيمة عادلة، من قولك: أقمت العود فقام، بمعنى استقام، وهم الذين أسلموا منهم. وعبر عن تهجدهم بتلاوة القرآن في ساعات الليل مع السجود، لأنه أبين لما يفعلون؛ وأدل على حسن صورة أمرهم” جامع البيان (7/ 124).
[3] انظر البقاعي والصابوني والأمثل.
[4] التحرير والتنوير، ابن عاشور(4/ 57).
[5] روح المعاني (2/ 249).
[6] البحر المحيط (3 / 312).
[7] روح المعاني (2/ 250).
[8] لباب التأويل في معاني التنزيل (1/ 287).
[9] البحر المحيط(3/ 312).
[10] التفسير الوسيط (2/230)
[11] القول الأول هو الوارد في المسألة الأولى.
[12] لكن أبا زهرة جعل الآية فيمن مات قبل مجيء النبي صلى الله عليه وسلم.
[13] التفسير الكبير (5/213).