إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين (12) بحث مفصل بقلم الشيخ علي هاني

يقدم لنا فضيلة الشيخ بحثاً في المنظور القرآني لعلاقة الإسلام والمسلمين باليهود والنصارى، وذلك من خلال دراسة الآيات الواردة بخصوصهم، وتركيز البحث في الدرجة الأولى على آية {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:62] وعلى ما يشبهها في المائدة والحج، ملخصاً وشارحاً ومستدلاً بأهم ما جاء في كتب التفسير في هذا الموضوع.

 

بسم الله الرحمن الرحيم

المسألة الثانية عشرة: أقوال المفسرين في الصابئة وهي تسعة أقوال:
القول الأول:
قالوا هم قوم يعبدون الكواكب، ثم لهم قولان. الأول: أن خالق العالم هو الله سبحانه، إلا أنه سبحانه أمر بتعظيم هذه الكواكب واتخاذها قبلة للصلاة والدعاء والتعظيم. والثاني: أن الله سبحانه خلق الأفلاك والكواكب، ثم إن الكواكب هي المدبرة لما في هذا العالم من الخير والشر والصحة والمرض، والخالقة لها فيجب على البشر تعظيمها لأنها هي الآلهة المدبرة لهذا العالم ثم إنها تعبد الله سبحانه، وهذا المذهب هو القول المنسوب إلى الكلدانيين الذين جاءهم إبراهيم عليه السلام رادا عليهم ومبطلا لقولهم
اختاره: الرازي وابن عاشور والشهرستاني والقمي[1] وكذا البقاعي في المائدة[2] وإبراهيم القطان[3] .

القول الثاني:
قالوا هم قوم من أهل الكتاب[4] ، يقرؤون الزبور، ويخالفونهم في بقية أفعالهم، لا بأس بذبائحهم ومناكحتهم ذبائحهم كذبائح أهل الكتاب
قاله سيدنا عمر وأبو العالية والربيع بن أنس، والسدي، وأبو الشعثاء جابر بن زيد، والضحاك وإسحاق بن راهويه وأبو حنيفة وزيد بن علي

القول الثالث:
قالوا: هُمْ قَوْمٌ بَيْنَ النَّصَارَى وَالْمَجُوسِ.
قَاله سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ واختاره البيضاوي أبو السعود وكذا ابن كثير في المائدة

القول الرابع:
قالوا هُمْ قَوْمٌ تَرَكَّبَ دِينُهُمْ بَيْنَ الْيَهُودِيَّةِ وَالْمَجُوسِيَّةِ لا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم.
مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وَابْنُ أَبِي نُجَيْحٍ والسدي وروي عن عطاء وسعيد بن جبير وهو مروي عن ابن عباس واختاره الطباطبائي[5]

القول الخامس:
قالوا: الصابئون هو أهل دين من الاديان كانوا بالجزيرة: جزيرة الموصل، يقولون لا إله إلا الله ولم يؤمنوا برسول الله ” صلى الله عليه وسلم “، فمن اجل ذلك كان المشركون يقولون للنبي ” صلى الله عليه وسلم ” واصحابه: هؤلاء الصابئون: يشبهونهم بهم.قال ابن جريج: قلت لعطاء: «الصابئون » زعموا أنها قبيلة من نحو السواد [6] ليسوا بمجوس ولا يهود ولا نصارى. قال: قد سمعنا ذلك قاله ابن زيد وابن جريج.

القول السادس:
قالوا: هم بين اليهود والنصارى [7] قاله قتادة: والكلبي ابن عباس وسعيد بن جبير

القول السابع:
هم قوم يقرأون الزبور ويعبدون الملائكة
قاله الهواري.

القول الثامن:
قوم يعبدون الملائكة
روي عن قتادة.

القول التاسع:
أنهم قوم ليسوا على دين اليهود ولا النصارى ولا المجوس ولا المشركين، وإنما هم قوم باقون على فطرتهم ولا دين مقرر لهم يتبعونه ويقتفونه؛ ولهذا كان المشركون ينبزون من أسلم بالصابئي، أي: أنه قد خرج عن سائر أديان أهل الأرض إذ ذاك.
اختاره سيد قطب[8] ودروزة[9] وابن كثير وقال وهو أظهر الأقوال، وهو قول مجاهد ومتابعيه، ووهب بن منبه.

يقول علي هاني في القول التاسع قولِ ابن كثير نظر بينه الدكتور محمد الفيومي حيث قال:
“الأصح أن الصابئة فرقة مستقلة لها عقائدها وأفكارها وأما إطلاق العرب على الحنفاء الذين خرجوا عن دين الشرك أنهم صابئة فلأن الصابئ أطلقته العرب على من خرج عن دين الجاهلية، وعلى كل من استحدث دينا غير دينه، وهم الذين أطلق عليهم صابئة الحنفاء،فهؤلاء ليسوا صابئة لكن العرب سمتهم بذلك فلم يستعمله العربي بمعنى: مذهب معين أو نحلة معينة لجماعة معينة أو يكون قد استعمله لكننا لم نر لذلك نصًّا لكن إطلاقه كان على الخارج مطلقًا، أما الإسلام: فأطلقها على صنف ذي عقيدة، أخطأت تنزيه الله، فوسطت الكواكب بينها وبينه، إذ الكواكب في عرفهم تحتوي على النور الإلهي، ففي الاستعمال الإسلامي تطلق كلمة الصابئة على جماعة بعينها معتنقة مذهبا معينا غير الحنيفية؛ لأن القرآن عندما يذكر الصابئة يذكرها مقترنة بدعوة معتنقيها إلى الإسلام، أما الحنيفية فإن الإسلام يصف بها نفسه.” اهـ بتصرف[10] .

 

[1] قال القمي:”الصابئون قوم لا مجوس ولا يهود ولا نصارى ولا مسلمون وهم يعبدون النجوم والكواكب
[2] قال البقاعي:{والصابئون} أي القائلون بالأوثان السماوية والأصنام الأرضية” نظم الدرر(6/206).
[3] إبراهيم القطان:”والصابئة فرقتان: جماعة المندائيّين أتباعِ يوحنّا المعمدان، وصابئةُ حرّان الّذين عاشوا زمناً في كنف الإسلام، ولهم عقائدهم وعلماؤهم، ومن أشهرهم إبراهيم من هلال الصابي الأديبُ الكبير، والعالِم بالفلك والفلسفة الرياضية “. (تيسير التفسير/ إبراهيم القطان/(1/ 422).
[4] قال الشوكاني: “{والصابئين}” قوم يعبدون النجوم. وقيل: هم من جنس النصارى وليس ذلك بصحيح بل هم فرقة معروفة لا ترجع إلى ملة من الملل المنتسبة إلى الأنبياء”. وهذا رده المحققون: بأن القرآن ذكر الصابئة والنصارى والذين هادوا، وهذا يدل على أنهم غير اليهود والنصارى ” فتح القدير (3/ 523).
[5] قال الطباطبائي:”أقول: وما نسبه إلى البعض من تفسير الصائبة بالمذهب الممتزج من المجوسية واليهودية مع أشياء من الحرانية هو الأوفق بما في الآية فإن ظاهر السياق أن التعداد لأهل الملة “.
[6] يعني سواد العراق:وهو ما بين البصرة والكوفة وحولهما من قراهما سمي سوادا لشدة خضرته، وَالْعَرَبُ تَقولُ لِكِلِّ أَخْضَرَ أَسْوَدُ. قال ابن فارس مدهامتان: أَيْ سَوْدَاوَانِ. وَهَذَا مِنَ الْخُضْرَةِ ; وَذَلِكَ أَنَّ النَّبَاتَ النَّاعِمَ الرَّيَّانَ يُرَى لِشِدَّةِ خُضْرَتِهِ مِنْ بُعْدٍ أَسْوَدَ. وَلِذَلِكَ سُمِّيَ سَوَادُ الْعِرَاقِ لِكَثْرَةِ شَجَرِهِ.
[7]قال ابن عباس: هم قوم من اليهود والنصارى، لا تحل مناكحتهم ولا تؤكل ذبائحهم. قال الطباطبائي:” والصابئون ليس المراد بهم عبدة الكواكب من الوثنية بدليل ما في الآية من المقابلة بينهم وبين الذين أشركوا بل هم – على ما قيل – قوم متوسطون بين اليهودية والمجوسية ولهم كتاب ينسبونه إلى يحيى بن زكريا النبي اهـ يمكن أن يقال لما تميزوا بعقائد معينة واسم معين وضعوا مقابلين للذين أشركوا لذلك. وقريب من ذلك ما قاله دروزة: ولقد غاب عن الذين قالوا إنهم مجوس ورود اسم المجوس في آية الحجّ التي نحن في صددها مع اسم الصابئين. كما غاب عن الذين قالوا إنهم عبدة الملائكة أن هذا يعني أنهم مشركون مع أن اسم المشركين قد ورد أيضا مع اسمهم. وورود اسمهم في آيتي البقرة والمائدة مع المؤمنين واليهود والنصارى، أي مع الموحّدين توحيدا صريحا أو مؤوّلا، يسوّغ القول إنهم هم الآخرون موحّدون بشكل من الأشكال.
[8] قال سيد قطب: “والصابئون: الأرجح أنهم تلك الطائفة من مشركي العرب قبل البعثة، الذي ساورهم الشك فيما كان عليه قومهم من عبادة الأصنام، فبحثوا لأنفسهم عن عقيدة يرتضونها، فاهتدوا إلى التوحيد، وقالوا: إنهم يتعبدون على الحنيفية الأولى، ملة إبراهيم، واعتزلوا عبادة قومهم دون أن تكون لهم دعوة فيهم. فقال عنهم المشركون: إنهم صبأوا – أي مالوا عن دين آبائهم – كما كانوا يقولون عن المسلمين بعد ذلك. ومن ثم سموا الصابئة. وهذا القول أرجح من القول بأنهم عبدة النجوم كما جاء في بعض التفاسير.الظلال (1/75).
و قال سيد قطب أيضا:” والصابئون هم في الغالب تلك الفئة التي تركت عبادة الأوثان قبل بعثة الرسول [ص] وعبدت الله وحده على غير نحلة معينة، ومنهم من العرب أفراد معدودون”.الظلال (2/942)
[9] قال دروزة: “فإطلاق التسمية على النبي والذين آمنوا به في أول عهد الإسلام، ثم سلك الصابئين في آيتي البقرة والمائدة في سلك الموحدين يزيد في قوة الاستدلال على أن الكلمة القرآنية عنت الموحدين بشكل ما والمنحرفين عن دين الآباء وتقاليدهم الشركية. وورودها في القرآن دليل على أنها من تعابير ما قبل البعثة وأنها كانت تطلق على جماعة ما في بيئة النبي متصفين بهذه الصفة، وأن منهم من ظلّ على ما كان عليه ولم يتّبع النبي صلّى الله عليه وسلّم. ولقد ورد في كتب السيرة والتفسير ذكر أفراد من عرب الحجاز كانوا ألمّوا بالكتب السماوية، واستنارت عقولهم فأنفوا أن يظلوا يعبدون ما يعبد آباؤهم ويشركون مع الله آلهة أخرى ففارقوا ذلك واستقروا على عقيدة التوحيد ومنهم من اعتزم التطويف في الأرض للبحث عن ملّة إبراهيم ومنهم من أخذ يتعبّد على ملّة إبراهيم أو ما ظنّه كذلك ومنهم من تنصّر ومنهم من كان في مكة ومنهم من كان في يثرب. وممن ذكرتهم الروايات زيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل وعثمان بن الحويرث وعبد الله بن جحش وأمية بن الصلت وأبو قيس البخاري اليثربي وأبو الهيثم بن التيهان اليثربي وأبو عامر الأوسي وسلمان الفارسي وأبو ذرّ الغفاري ومنهم من آمن بالنبي صلّى الله عليه وسلّم مثل سلمان وأبو ذرّ وعبد الله بن جحش، ومنهم من مات قبل بعثته مثل زيد بن عمرو وعثمان بن الحويرث ومنهم من مات في أوائل بعثته مثل ورقة بن نوفل، الذي أدرك أوائل البعثة وقال للنبي صلّى الله عليه وسلّم لأن أدركني أمرك لأنصرنك نصرا مؤزرا ومنهم من كفر بنبوة النبي وناوأه مناوأة شديدة حسدا وعنادا مثل أمية بن الصلت وأبي عامر الأوسي المعروف بالراهب. (التفسير الحديث (6/27).

[10] تاريخ الفكر الديني (273).