إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين (9) بحث مفصل بقلم الشيخ علي هاني

يقدم لنا فضيلة الشيخ بحثاً في المنظور القرآني لعلاقة الإسلام والمسلمين باليهود والنصارى، وذلك من خلال دراسة الآيات الواردة بخصوصهم، وتركيز البحث في الدرجة الأولى على آية {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:62] وعلى ما يشبهها في المائدة والحج، ملخصاً وشارحاً ومستدلاً بأهم ما جاء في كتب التفسير في هذا الموضوع.

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

المسألة التاسعة: اختلف العلماء كذلك لم سموا “نصارى”:

القول الأول:
لأنهم نصروا المسيح عليه السلام؛ لأن الحواريين قالوا: {نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ} حين قال لهم سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ}،فهي لفظة مشتقة من النصر، وواحدهم: نَصَرْان كقولهم: ندمان وندامى، فنصران وناصر بمعنى، كما يقال: صديان وصادٍ للعطشان[1].
اختار هذا القول: الزهري وابن الأنباري والزمخشري الخازن والبغوي وابن الجوزي والنسفي والشربيني وحسنين مخلوف وحقي البورسوي وقدمه البيضاوي وأبو السعود،، وقال به: من قال نصارى: جمع نصران، أو جمع نصراني، أو جمع نصريّ.

القول الثاني:
نسبة إلى الناصرة[2] وهي قرية نشأت فيها مريم أم المسيح عليهما السلام[3] وكان يَنْزِلها سيدنا عيسى عليه السلام ونشأ بها، وقال ابن عاشور وسيد طنطاوي[4] :” إنه عليه السلام أعلن دعوته منها أيضا “، فسيدنا عيسى عليه السلام ولد في بيت لحم بالقدس ثم سارت به أمه إلى مصر ولما بلغ اثنتي عشر سنة عادت به إلى الشام وأقامت بقرية ناصرة فنسب اليها فقيل: يشوع الناصري[5] ، وقد كان بنو إسرائيل يدعونه يشوع الناصري أي: عيسى الناصري، فلما نسب أصحابه إليه قيل النصارى نسبة إلى الناصرة التي نسب إليها المسيح، فعلى هذا يكون من تغييرات النسب[6] فهذا وجه تسمية أتباعه بالنصارى.
روي عن ابن عباس وابن جريج واختاره: قتادة، ومقاتل، والأصمعي، وابن عاشور، والراغب في تفسيره[7] ، والهواري، والمراغي، وابن أبي زمنين، والمصطفوي، ونظام الدين النيسابوري، وكذا الصنعاني في المائدة، وقدمه السمين الحلبي في الذكر، وكذا الشهاب في المائدة، والجوهري، ورده جماعة من العلماء منهم ابن سيده[8] .
واستدل عليه المصطفوي بما ورد في إنجيل متى:” وأتى وسكن في مدينة يقال لها ناصرة لكي يتم ما قيل بالأنبياء إنه سيدعى ناصريا”، قال وهذا أقدم سند تاريخي يقرب من زمان المسيح، فتكون كلمة النصارى جمعاً لـ(الناصري أو النصري أو النصراني) والكلمة كانت مستعملة في السريانية بصيغة (نُسرايا، نُسرات) قال المصطفوي فالاحتمالات الأخرى ضعيفة جدا.

القول الثالث[9] : الجمع بين قولين:
قال الميرغني:(والنصارى) وهم الذين نصروا المسيح وكانت قريتهم تسمى نصران.

الترجيح:
لا بد قبل أن نرجح أحد الأقوال على الآخر أن نقرر أمرا ثابتا، واضحا كالشمس في القرآن الكريم، معلوما من الدين بالضرورة، مأخوذاً من ألفاظ القرآن، وهو أن اسم النصارى في القرآن الكريم أطلق على الذين حرفوا وبدلوا دين المسيح عليه السلام أو حُرِّف لهم وبـُدِّل فاتبعوه وضلوا فيه ضلالا كفريا، وأن ما عندهم ليس بهدى بل ضلال وأهواء، وأن ما دانوا به مضاد ومقابل لملة إبراهيم عليه السلام، وأنهم قالوا بالتثليث، وأنهم فرَّقوا بين الرسل فكفروا بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم، وأنهم نسوا حظا عظيما مما وصلهم من الله سبحانه فأغرى الله العداوة بين فرقهم إلى يوم القيامة عقوبة لهم، وأنهم يوالون اليهود ضد المسلمين، وأنهم لا يؤمنون باليوم الآخر على الوجه الذي فصله القرآن وهو: أنه يوم ينجي الله المؤمنين بجميع الرسل والكتب لا سيما المؤمنون بسيدنا محمد وبالقرآن، ويعذب الكافرين بأي رسول أو كتاب تعذيبا مخلدا، فلذلك جعلهم القرآن الكريم لا يؤمنون باليوم الآخر وحكم بكفرهم بلفظ صريح لا يقبل التأويل؛ لأنهم لم يؤمنوا بالله الواحد الذي لا شريك له الذي لم يتخذ ولدا، ونحن نستعرض الآيات التي ورد فيها اسم النصارى لنرى هذه الأوصاف المذكورة عنهم:
{وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120)}
{وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135) قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136)}
{وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15}
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51)}
{قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29) وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)}
{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)}
{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73)}
فالقرآن يقرر أن النصرانية ليست دين الله سبحانه بل هي دين محرَّف، وكفَّر من اعتنقه كفرا مخلدا في النار، كما هو واضح جلي في الآيات السابقة، ثم العلماء قد قرروا هذا كما قرروه في اليهودية:
قال السمرقندي:”والنصارى: الذين تركوا دين عيسى وَتسَمَّوْا بالنصرانية. واليهود الذين تركوا دين موسى وتسمَّوا باليهودية”[10] .
قال ابن الأنباري: “هذا رد على اليهود والنصارى لأن بعضهم كانوا يقولون: الأنبياء كلهم يهود أو نصارى، فقال تعالى: {يحكم بها النبيون الذين أسلموا} يعني الأنبياء ما كانوا موصوفين باليهودية والنصرانية، بل كانوا مسلمين لله منقادين لتكاليفه”[11] .
قال رشيد رضا:”وأنتم تعلمون أيضا أن اسمي اليهودية والنصرانية حدثا بعد هؤلاء، بل حدث اسم اليهودية بعد موسى واسم النصرانية بعد عيسى كما حدث لليهود تقاليد كثيرة صار مجموعها مميزا لهم، وأما النصارى فجميع تقاليدهم الخاصة بهم المميزة للنصرانية حادثة، فإن عيسى عليه السلام كان عدو التقاليد، ولهذا كان النصارى على كثرة ما أحدثوا أقرب إلى الإسلام؛ لأنهم لم ينسوا جميعا كيف زلزل روح الله تقاليد اليهود الظاهرة ما كان منها في التوراة وما لم يكن، ولكن الذين ادعوا اتباعه زادوا عليهم من بعده في ابتداع التقاليد والرسوم “[12] .

***********

وبعد ما تقدم من النصوص الصريحة فيما ذكرنا نورد دليلا يزيد الأمر وضوحا، ويبين أنهم لم يكونوا على دين سيدنا عيسى عليه السلام، وهذا الدليل هو آيتان جاء فيهما هذا التعبير:{الذين قالوا إنا نصارى} وهو تعبير خاص ذو دلالة خاصة، فلم يقل عز وجل ومن النصارى كما هو الظاهر الأخصر بل اختار القرآن طريق الإطناب بأن قال” قالوا إنا نصارى”:
{وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14)} المائدة
{لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82)}المائدة.
ولنستعرض توجهات العلماء في كل موضع من الموضعين:
أولا: الموضع الأول:{وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ}:
وفي توجيه هذه الزيادة في الآية الأولى ثلاثة أقوال:

القول الأول:
قالوا: ليدل على أنهم إنما سموا أنفسهم بذلك ادعاء أنهم أنصار مبالغون [13] في نصرة الله سبحانه تعالى وما يأمر به، ونصرة المسيح عليه السلام ودينه والحق وأنبياء الله، ثم إنهم كذبوا وخالفوا ما قالوا في اعتقادهم وقولهم وفعلهم، ونسوا حظا عظيما مما ذكروا به فكفروا بالله ووصفوه بما لا يليق به من الولد، وخالفوا ما في الإنجيل من التبشير بنبينا صلى الله عليه الذي أخذ ميثاقهم على لسان رسوله عيسى عليه السلام، وعهد إليهم في الإنجيل أن يؤمنوا به، واختلفوا أحزابا [14]، فتسموا بما لم يفوا به حيث قالوا إنا نصارى، وقالوها دعوى لا حقيقة لها، وهي تقوّلٌ محضٌ بمعزلٍ من الصدق والاستحقاق،، فهم ليسوا من نُصْرة الله تعالى في شيء وهي نصرة ادعائية لا واقعية، فليسوا على منهاج الذين اتّبعوا المسيح في زمانه من الحواريين، وهم الذين كانوا حققوا النصرة الحقيقة للمسيح؛ لأن أولئك كانوا مُوَحِّدَةً مؤمنين، وهؤلاء مُثَلِّثَةٌ مشركون فهي في الحقيقة نصرة للشيطان،وفيه إظهار لكمال تناقضهم، فجاءت هذه العبارة موبخة لهم على ذلك، وأكدوا قولهم بـ(إنا) رداً على من يرتاب فيه.
ونكتة تخصيص في قوله تعالى{وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14)} بإسناد النصرانية إلى دعواهم أنه لما كان المقصود في هذه الآية ذمهم بنقض الميثاق [15] المأخوذ عليهم في نصرة الله تعالى ناسب ذلك أن يصدر الكلام بما يدل على أنهم لم ينصروا الله تعالى ولم يفوا بما واثقوا عليه من النصرة وما كان حاصل أمرهم إلا التفوه بالدعوى وقولها دون فعلها.
اختاره الجمهور: الزمخشري وابن عطية والرازي والبيضاوي وابن جزي والبقاعي وأبو السعود واطفيش في التيسير والهميان وسيد قطب وابن كثير والنيسابوري وابن المنير[16] والصابوني ورشيد رضا والشوكاني وابن عجيبة وزكريا الأنصاري وأبو حيان وسعيد حوّى وقدمه ذكرا ابن عاشور والآلوسي.
فإن قيل لم ذكرهم في أكثر مواضع القرآن باسم “النصارى” ولم يقل قالوا “إنا نصارى”، فإن كان الأمر ادعاء ومحض دعوى فلم لم يقل في كل موضع “قالوا إنا نصارى”: فالجواب أنهم اشتهروا به وصار سمة لهم وعلامة أطلقه عليهم، لا أنه يقر أنهم أنصار لعيسى عليه السلام، قال أبو حيان:”وحيث جاء النصارى من غير نسبة إلى أنهم قالوا عن أنفسهم ذلك، فإنما هو من باب العَلم لم يلحظ فيه المعنى الأول الذي قصدوه من النصر، كما صار اليهود علماً لم يلحظ فيه معنى قوله هُدنا إليك”[17].

القول الثاني: وهو قريب من الأول ولا يتعارض معه
قالوا انما لم يقل: من النصارى لأنه أراد تعالى بذلك أن يدل على أنهم ابتدعوا النصرانية التي هم عليها اليوم، وتسموا بها.
الحسن والقرطبي والخازن والطوسي والطبرسي.

القول الثالث:
قالوا الموجود في كتب اللغة والتاريخ أن النصارى نسبت إلى بلدة (ناصرة) أي التي نشأ فيها المسيح وتربى فيها وأعلن دعوته منها نسبة إلى الناصرة، فنسب اليها فقيل: يشوع الناصري، أي: عيسى الناصري، فلما نسب أصحابه إليه قيل النصارى نسبة إلى الناصرة التي نسب إليها المسيح، لذلك كان بنو إسرائيل يدعونه يشوع الناصري فهذا وجه تسمية أتباعه بالنصارى؛ فلذلك كان معنى النسبة، النسبة إلى طريقته وشرعه وقد كان أتباعه من الحواريين في زمانه صادقين في اتباعه واتباع شرعه فقد كانوا نصارى حقيقيين لكن كلّ من حاد عن شرعه من الذين قالوا بالتثليث لم يكن حقيقاً بالنسبة إليه إلاّ بدعوى كاذبة، فلذلك قال: {قالوا إنَّا نصارى} وأنهم ليسوا على منهاج الذين اتّبعوا المسيح في زمانه من الحواريين، وهم الذين كانوا نصارى في الحقيقة؛ لأن أولئك كانوا مُوَحِّدَةً مؤمنين، وهؤلاء مُثَلِّثَةٌ مشركون.
اختاره: الشهاب الخفاجي والجصاص وأبو زهرة وأجازه ابن عاشور والآلوسي واطفيش والقاسمي وسيد طنطاوي.
قال الشهاب:” فلو قيل في الآية: إنهم على دين النصرانية وليسوا عليها لعدم عملهم بموجبها ومخالفتهم لما في الإنجيل من التبشير بنبينا صلى الله عليه وسلم- لكان أقرب من وجه التسمية الذي ذكروه”[18].
قال أبو زهرة:”ولم يقل النصارى للإشارة إلى أن ادعائهم النصرانية التي هي الدين الذي دعا إليه المسيح عليه السلام قول يقولونه بأفواههم ولا يتبعونه بقلوبهم، إذ هجروا لب تعاليم المسيح وهو الوحدانية. يصنعون}[19].
قال ابن عاشور:”؛ فإن كان النّصارى اسم جمع ناصريّ، بمعنى المنسوب إلى الناصري، والناصري عيسى، لأنّه ظهر من مدينة الناصرة. فالناصري صفة عرف بها المسيح عليه السّلام في كتب اليهود لأنّه ظهر بدعوة الرسالة من بلد النّاصرة في فلسطين؛ فلذلك كان معنى النسبة إليه النسبة إلى طريقته وشرعه؛ فكلّ من حاد عن شرعه لم يكن حقيقاً بالنسبة إليه إلاّ بدعوى كاذبة، فلذلك قال: {قالوا إنَّا نصارى}[20]“.
هذه هي الآية الأولى التي ورد فيها ” قالوا إنا نصارى”
ثانيا: الموضع الثاني الذي ورد فيه {قالوا إنا نصارى} {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى}:
(لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) [المائدة: 82].

في الآية قولان:

القول الأول:
{الذين قَالُوا إِنَّا نصارى} عبر عنهم بذلك إشعاراً بقرب مودتهم حيث يدّعون أنهم أنصارُ الله وأَوِدّاءُ أهل الحق وإن لم يظهروا اعتقاد حقية الإسلام، وعلى هذه النكتة مبنى الوجه الثاني في تفسير قوله تعالى: {وَمِنَ الذين قَالُوا إِنَّا نصارى أَخَذْنَا ميثاقهم} [المائدة، الآية
أبو السعود والآلوسي وابن عاشور[21] والقونوي[22].

القول الثاني:
قالوا: إشارة إلى أن المعاصرين لهذه الأمة أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم من النصارى ليسوا على حقيقة النصرانية بل كونهم نصارى قول منهم وزعم، ومناسبة ذكر الذين قالوا في هذا السياق أن في وصفهم بأنهم أقرب مودة مدح لهم، فقد يظن بعض الناس أنه تصحيح لعقيدتهم فدفع هذا بـ(قالوا إنا نصارى” احتراسا من هذا الوهم، قال أبو زهرة:” يلاحظ أن الذين قالوا نحن أنصار الله هم الحواريون، والذين كانت بينهم مودة المسلمين ليسوا هم الحواريين الذين سلمت عقيدتهم، أما الذين يتحدث عنهم فهم كانوا من أهل التثليث ثم تاب الله تعالى عليهم، ولقد ذكرهم بهذا العنوان: (الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى). في مقام الذم، فقد قال تعالى: (وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ…).ولأجل هذا لَا نقول إن التعبير بـ(قالوا) إنا نصارى فيه تشريف، إنما هو بيان أن هؤلاء يقولون “إنهم نصارى، ولكنهم ليسوا نصارى عيسى – عليه السلام – وإن كانوا من بعد ذلك قد اهتدوا”.
اختاره: ابن عطية وأبو حيان[23] وابن كثير[24] والبقاعي[25] وأبو زهرة
يقول علي هاني: القولان اللذان ذكرا في تفسير الآية الثانية (قالوا إنا نصارى) لا تعارض بينها بل كل منهما أشار إلى جزء من المراد.
وبعد كل ما سبق نعود إلى الترجيح بين الأقوال السابقة في اشتقاق النصارى هل الأرجح: 1) أنهم سموا بذلك لأنهم نصروا المسيح عليه السلام؛ لأن الحواريين قالوا: {نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ} حين قال لهم سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ}،فهي لفظة مشتقة من النصر، ولكن هؤلاء الذين يصفهم القرآن ادعوا ذلك وليسوا بصادقين في هذا النصر كالحواريين الصادقين في النصر 2) أو نسبة إلى قرية الناصرة.
يقول علي هاني: كلا القولين له وجاهة وليس من السهل الترجيح بينهما لكن يمكن أن نذكر عدة مرجحات ترجح القول الأول:
1) المرجح الأول: إن أمكننا أن نرجح بكثرة القائلين من العلماء بكل قول أو بكبرهم وعظمتهم، نجد أن القائلين بالقول الأول هم جمهور العلماء، وأيضا الذين قالوا إن اشتقاق الكلمة من النصرة هم أكبر العلماء فقد اختاره سيبويه والزمخشري والطبري كما تقدم.
2) المرجح الثاني: أننا إن نظرنا إلى آية {إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ} نجد أن كل وصف منها يشير إلى عمل عملته كل جماعة فالذين آمنوا أحدثوا الإيمان، والذين هادوا ـ كما رجحنا ـ أحدثوا التوبة عن عبادة العجل فأشارت إلى شيء عظيم فعلوه وهي التوبة من عبادة العجل بذبح النفس فخلدها القرآن، وكذلك الصابئة كما سيأتي، فالأنسب أن يكون النصارى هم الذين نصروا المسيح عليه السلام، وأن الذين قالوا: إنا نصارى نسبوا إلى شيء عظيم فعله أتباع سيدنا عيسى وهو أنهم نصروا المسيح حين كفر به الناس وأعانوه على أهل الباطل والكفر وهو أمر عظيم لا بد أن يخلد حتى طلب الله من هذه الأمة الاقتداء بهم في نصرة رسوله صلى الله عليه وسلم {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14)} لكن النصارى الذين سموا بذلك في القرآن ادعوا ذلك ادعاء فهم ليسوا مثل الحواريين الصادقين في النصرة قل قالوا إنا نصارى ادعاء لا واقع له.
3) المرجح الثالث: يمكن أن يرجح أيضا أن جمع نصران على نصارى وارد مثله نحو: نْدمان ونَدامى، سكران وسكارى، وأما نسبة نصراني إلى ناصرة ليس على القياس بل من شواذ النسب.
وعلى كل فأي القولين كان هو الواقع، فليس هذا هو الموضوع الأهم، بل الأهم في هذا البحث أن أتباع المسيح الذين كانوا في زمن المسيح كانوا صادقين، مخلصين موحدين سائرين على منهاج الله الذي أنزله، نصروا المسيح وقالوا نحن أنصار الله ولم يصفهم القرآن بأنهم نصارى بل سماهم الحواريين لكن على التسليم به فسواء تسموا بذلك لنصرتهم للمسيح عليه السلام ـ كما عليه الجمهورـ وهي نصرة صادقة، أو نسبوا إلى مدينة الناصرة التي نسب إليها المسيح فيكون معنى النسبة إليها النسبة إلى طريقته وشرعه فهم غير الذين أرادهم القرآن باسم ” النصارى”، فاسم النصارى في القرآن أطلق على الذين جاءوا بعد ذلك فحرفوا وبدلوا وابتعدوا عن دين سيدنا عيسى عليه السلام وملة إبراهيم، فوصفهم القرآن الكريم بالكفر، وقال عنهم ” قالوا إنا نصارى” فهم على كل الأقوال في اشتقاق النصارى ليسوا نصارى حقيقيين، ليسوا أتباع سيدنا عيسى عليه السلام وهذا واضح جدا من استعراض آيات القرآن معلوم من الدين بالضرروة كما تقدم في الآيات التي استعرضناها وأكرر بعضها زيادة في الإيضاح:
{وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120)}
{وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135)} {{وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14)}
{وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)}}ويزيد هذا قوة ما قاله الدكتور جواد علي:” والذي نعرفه أن قدماء النصارى حينما كانوا يتحدثون عن أنفسهم كانوا يقولون: “تلاميد” Discipies، “تلاميذ المسيح”، ذلك أنهم كانوا ينظرون إلى المسيح نظرتهم إلى معلم يعلمهم وكذلك نظروا إلى حوارييه، فورد “تلاميذ يوحنا” وقصدوا بذلك النصارى، وهذه التعابير من أقدم التعابير التي استعملها النصارى للتعبير عن أنفسهم”.

 

[1] قال السيوطي في المزهر: دل على هذا أنهم يُسَمُّون النصارى: أنصاراً. قال الشاعر:
(لمّا رأيتُ نَبَطاً أنصارا… (شمَّرتُ عن رُكْبَتِيَ الإِزارا…)
(كنتُ لها من النصارى جارا…)
[2] قال ابن عطية: “ويقال نصريا ويقال نصرتا”. (المحرر الوجيز (1/ 157)، قال القاموس:” ونَصْرَانَةُ: ة بالشامِ، ويُقالُ لها ناصِرَةُ ونَصورِيَةُ أيضاً، يُنْسَبُ إليها النصارى، أو جَمعُ نَصْرانٍ ـ ـ ” تقدم، قال الواحدي في الوسيط: “وسموا نصارى لأنهم كانوا من قرية يقال لها: نصرة (1/ 149)..
[3] وقد خرجت مريم من الناصرة قاصدة بيت المقدس فولدت المسيح في بيت لحم.
[4] ذكراه في سورة المائدة في تفسير {ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم}
[5] ولذلك كان بنو إسرائيل يلقبونه بيشوع الناصري، وقد جاء في الإنجيل (يسوع الناصري).
[6] هذا جواب اعتراض يقول: هذا الاشتقاق بعيد، فإن قياس النسبة إليه: ناصري، والجمع ناصرون،ويجاب عما اعترض به بأن هذا من شواذ النسب التي جاءت على غير القياس، كقولهم: لحياني ورقباني، ومروزي.
[7] قال الراغب في تفسيره: “والأقرب ما قال بعضهم إن المسيح كان من قربة يقال لها نصران، فإما أن سموا باسمها، ثم جمعته العرب على نصارى نحو: ” سكران ” و” سكارى ” أو جعلوا منسوبين إليها ثم جمعت نحو: ” مهرى ” و” مهارى ” تفسير الراغب الأصفهاني (1/ 214).
[8] قال ابن سيده: “هذا قول أهل اللغة، قال: وهو ضعيف، إلا أن نادر النسب يسعه” (المحكم والمحيط الأعظم (8 /300).
[9] وهناك قول رابع:” أنها لفظة مشتقة من النصر أيضا لكن سموا بذلك لتناصرهم فيما بينهم أي لنصرة بعضهم بعضا، قال الشاعر:لما رأيت نبطاً أنصارا *** شمرت عن ركبتي الإزارا، رجحه الطبري والطوسي، قال الطبري: وهذه الأبيات التي ذكرتها تدل على أنهم سُموا نصارى لنصرة بعضهم بعضا وتناصرهم بينهم يعني بالابيات:
تَرَاهُ إذَا زَارَ العَشِيّ مُحَنّفا *** ويُضْحِي لَدَيْهِ وَهْوَ نَصْرانُ شَامِسُ
فكِلْتاهُما خَرّتْ وأسْجَدَ رأسُها *** كما سَجَدَتْ نَصْرَانَةٌ لمْ تَحَنّفِ
لَمّا رأيْتُ نَبَطا أنْصَارَا *** شَمّرْتُ عَنْ رُكْبَتِي الإزارَا
وهناك أقوال أخرى في اشتقاق الكلمة قالها المستشرقون:” جاء في كتاب” المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام ” للدكتور جواد علي ولفظة “النصرانية” ,”نصارى” التي تطلق في العربية على أتباع المسيح، من الألفاظ المعربة، يرى بعض المستشرقين أنها من أصل سرياني هو: “نصرويو” Nosroyo، “نصرايا” Nasraya1، ويرى بعض آخر أنها من Nazereneds التسمية العبرانية التي أطلقها اليهود على من اتبع ديانة المسيح، وقد وردت في العهد الجديد في “أعمال الرسل” حكاية على لسان يهود، ويرى بعض المؤرخين أن لها صلة “بالناصرة” التي كان منها “يسوع” حيث يقال: “يسوع الناصري” أو أن لها صلة بـ “الناصريين” “Nazarenes= Nasarenes إحدى الفرق القديمة اليهودية المتنصرة. وقد بقي اليهود يطلقون على من اتبع ديانة المسيح “النصارى”، وبهذا المعنى وردت الكلمة في القرآن الكريم، ومن هنا صارت النصرانية علما لديانة المسيح عند المسلمين ” يقول علي هاني: السريانية والعبرانية من اللغات العربية القديمة كما سيأتي أو على الأقل يقال: فيها إنها من اللغات السامية التي تشترك مع العربية في الأصل فلا يبعد هذا عن قول القائلين إنها من النصر، وأما الذين قالوا اطلقها اليهود على من اتبع ديانة المسيح فهذا لا يتطابق مع اطلاق القرآن الكريم فقد أطلقها القرآن على الذين حرفوا دين المسيح وقالوا بالتثليث وادعوا إنهم نصارى كما سيأتي، وقد جاء في آيتين قالوا إنا نصارى فهي مجرد دعوى لا تصح، وأما قول من قال إنها إحدى الفرق اليهودية فهذا بعيد لأن اليهود في اصطلاح القرآن الكريم غير النصارى.
قم قال المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام “ولعلماء اللغة الإسلاميين آراء في معنى هذه الكلمة وفي أصلها، هي من قبيل التفسيرات المألوفة المعروفة عنهم في الكلمات الغريبة التي لا يعرفون لها أصلا، وقد ذهب بعضهم إلى أنها نسبة إلى الناصرة التي نسب إليها المسيح وزعم بعض منهم أنها نسبة إلى قرية يقال لها “نصران”، فقيل نصراني وجمعه نصارى وذكر أن “النصرانة” هي مؤنث النصراني، ولم أعثر حتى الآن على نص جاهلي منشور وردت فيه هذه التسمية. أما في الشعر الجاهلي، وفي شعر المخضرمين، فقد ذكر أن أمية بن أبي الصلت ذكرهم في هذا البيت:
أيام يلقى نصاراهم مسيحهم… والكائنين له ودا وقربانا
وذكر أن شاعر جاهليا ذكر النصارى في شعر له، وهو:
إليك تعدو قلقا وضينها… معترضا في بطنها جنينها
مخالفا دين النصارى دينها غير أن هذه الأبيات وأمثالها إن صح إنها لشعراء جاهليين حقًّا، هي من الشعر المتأخر الذي قيل قبل الإسلام، أما قبل ذلك، فليس لنا علم بما كان العرب يسمون به النصارى من تسميات. المفصل.
والذي نعرفه أن قدماء النصارى حينما كانوا يتحدثون عن أنفسهم كانوا يقولون: “تلاميد” Discipies، “تلاميذ المسيح”، ذلك أنهم كانوا ينظرون إلى المسيح نظرتهم إلى معلم يعلمهم وكذلك نظروا إلى حوارييه، فورد “تلاميذ يوحنا” وقصدوا بذلك النصارى، وهذه التعابير من أقدم التعابير التي استعلمها النصارى للتعبير عن أنفسهم، وقد عرف النصارى بـ Christians نسبة إلى Christos اليونانية التي تعني “المسيح” Messiah، أي المنتظر المخلص الذي على يديه يتم خلاص الشعب المختار، ويسوع هو المسيح، أي المنتظر المخلص الذي جاء للخلاص كما جاء في عقيدة أتباعه، ولذلك قيل لهم أتباع المسيح. فأطلقت عليهم اللفظة اليونانية، وعرفوا بها، تمييزا لهم عن اليهود. وقد وردت الكلمة في أعمال الرسل وفي رسالة بولس الأولى إلى أهل كورنتوس، أما في القرآن الكريم وفي الأخبار، فلم ترد هذه اللفظة اليونانية الأصل. ولهذا نجد أن العربية اقتصرت على إطلاق “نصارى” و”نصراني” و”نصرانية” على النصارى تمييزا لهم عن أهل الأديان الأخرى. أما مصطلح “عيسوي” و”مسيحي”، فلم يعرفا في المؤلفات العربية القديمة وفي الشعر الجاهلي، فهما من المصطلحات المتأخرة التي أطلقت على النصارى وقد قصد في القرآن الكريم بـ “أهل الإنجيل”النصارى، إذ لا يعترف اليهود بالإنجيل. وقد أدخل بعض علماء اللغة اللفظة في المعربات” (ج12/161)
[10] بحر العلوم/ أبو الليث نصر بن محمد بن أحمد بن إبراهيم السمرقندي (المتوفى: 373هـ) (1/ 59)
[11] نقله عنه الرازي (12/ 366) والقرطبي (6/ 431) وأبو حيان 1/ 660
[12] تفسير المنار(1/ 402).
[13] بما أشار له ووزن فعلان لأن نصارى جمع نصران كما تقدم.
[14] الأرثوذكس، والكاثوليك، والبروتستانت، والمارون؛ اليوم، ومن قبل كان اليعقوبيون، والملكانيون والنساطرة
[15] {اخذنا ميثاقهم}: أخذنا عليهم العهود والمواثيق على متابعة الرسول ومناصرته ومؤازرته واقتفاء آثاره، والإيمان بكل نبي يرسله الله إلى أهل الأرض، أخذناه عليهم بالتزام أحكام الإنجيل، وأن يؤمنوا بالله وحده لا شريك له، ولا صاحبة ولا ولد، وأعظم من ذلك كلّه أن ينصروا النبيءَ المبشَّر به في التَّوراة والإنجيل الّذي يجيء بعد عيسى قبل منتهى العالم ويخلِّص النّاس من الضلال {وإذ أخذ الله ميثاق النبيّين لَمَا آتيتكم من كتاب وحكمة ثُمّ جاءكم رسول مصدّق لما معكم لتؤمِنُنّ به ولتَنْصُرُنَّه}،وهذا هو الحظ الذي نسوه مما ذكروا به؛ ونسيانه هو الذي قاد بعد ذلك إلى كل انحراف، وإلى الخلاف بين الفرق حتى بلغت حد الحروب الطاحنة {فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء}، فنسيانه هو الذي نشأ من عنده الخلاف بين الطوائف والمذاهب والفرق، التي لا تكاد تعد في القديم وفي الحديث.
[16] قال ابن المنير في (الانتصاف): وبقيت نكتة في تخصيص هذا الموضع بإسناد النصرانية على دعواهم. ولم يتفق ذلك في غيره. ألا ترى إلى قوله تعالى: {وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه}؟ فالوجه في ذلك- والله أعلم- إنه لما كان المقصود في هذه الآية ذمهم بنقض الميثاق المأخوذ عليهم في نصرة الله تعالى، ناسب ذلك أن يصدر الكلام بما يدل على أنهم لم ينصروا الله ولم يفوا بما واثقوا عليه من النصرة. وما كان حاصل أمرهم إلا التفوه بدعوى النصرة وقولها دون فعلها. والله أعلم (حاشية الانتصاف على الكشاف: (1/ 616).
[17] البحر (4/ 207)
[18] حاشية الشهاب على البيضاوي (3/ 225)
[19] زهرة التفاسير (4/ 2085)
[20] التحرير والتنوير: (6/ 146).
[21] قال ابن عاشور:” المقصودِ منه إقامة الحجّة عليهم بأنّهم التزموا أن يكونوا أنصاراً لله {قال الحواريّون نحن أنصار اللّهِ} [الصف: 14]، كما تقدّم في تفسير نظيره، فالمقصود هنا تذكيرهم بمضمون هذا اللقب ليزدادوا من مودّة المسلمين فيتّبعوا دين الإسلام”(7/6).
[22] قال القونوي:” إنهم سموا بالنصارى لنصرهم روح الله كالحواريين فبعد ذلك بدلوا دين الله ولا يبعد أن يكون قوله تعالى {قالوا إنا نصارى} إشارة إلى ذلك”.
[23] قال أبو حيان وفي قوله تعالى: {الذين قالوا إنا نصارى} إشارة إلى أنهم ليسوا متمسكين بحقيقة النصرانية، بل ذلك”البحر المحيط(4/ 343).
[24] قال ابن كثير:”وقوله: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} أي: الذين زعموا أنهم نصارى من أتباع المسيح وعلى منهاج إنجيله”.(تفسير القرآن العظيم(3/ 167).
[25] قال البقاعي: “قالوا ا إنا نصارى: وفي التوريك على قولهم إشارة إلى أنهم ما كانوا على حقيقة النصرانية {إنا نصارى}