إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين (7) بحث مفصل بقلم الشيخ علي هاني

يقدم لنا فضيلة الشيخ بحثاً في المنظور القرآني لعلاقة الإسلام والمسلمين باليهود والنصارى، وذلك من خلال دراسة الآيات الواردة بخصوصهم، وتركيز البحث في الدرجة الأولى على آية {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:62] وعلى ما يشبهها في المائدة والحج، ملخصاً وشارحاً ومستدلاً بأهم ما جاء في كتب التفسير في هذا الموضوع.

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

المسألة السابعة: هل اليهودية دين سيدنا موسى عليه السلام
تقدم أن اسم اليهود لم يرد إلا في سياق تكفيرهم وذمهم وبيان ضلالهم، وقد نص العلماء على أن اليهودية ليست دين سيدنا موسى عليه السلام بل هي الدين المحرف المبدل الذي اخترعه أتباع سيدنا موسى وقد نص على ذلك كثير من العلماء:

قال الواحدي في البسيط: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا} الآية نزَّهه وبرأه من الدِّينَينِ،ووصفه بدين الإسلام، واليهودية والنصرانية صفتا ذَمِّ، ما تُعبَّد بهما قط؛لأنَّ موسى لم يكن يهوديا، وعيسى لم يكن نصرانيًا، مع قوله: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ}فاليهودية مِلَّةٌ محرَّفة عن شريعة موسى، والنصرانية مِلَّةٌ مُحرَّفةٌ عن شريعة عيسى عليهما السلام”[1].
وقال الطبري عند تفسير: “أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى” قال الحسن: والله لقد كان عند القوم من الله شهادةُ أنّ أنبياءَه بُرَآء من اليهودية والنصرانية، كما أن عند القوم من الله شَهادة أن أموالكم ودماءكم بينكم حرام، فبم استحلُّوها؟ عن الربيع قوله:”ومن أظلمُ ممن كتم شهادةً عنده من الله”، أهلُ الكتاب، كتموا الإسلام وهم يعلمون أنه دينُ الله، وهم يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل: أنّهم لم يكونوا يهودَ ولا نصارَى، وكانت اليهودية والنصرانية بعد هؤلاء بزمان[2].”
وقال الطبري عند تفسير:” قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95) “فاتبعوا ملة إبراهيم”، خليل الله، فإنكم تعلمون أنه الحق الذي ارتضَاه الله منْ خلقه دينًا، وابتعث به أنبياءَه، ذلك الحنيفية -يعني الاستقامة على الإسلام وشرائعه- دون اليهودية والنصرانية والمشركة”[3].
وقال الزمخشري:” زعم كل فريق من اليهود والنصارى أن إبراهيم كان منهم، وجادلوا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم والمؤمنين فيه فقيل لهم: إن اليهودية إنما حدثت بعد نزول التوراة، والنصرانية بعد نزول الإنجيل، وبين إبراهيم وموسى ألف سنة، وبينه وبين عيسى ألفان، فكيف يكون إبراهيم على دين لم يحدث إلا بعد عهده بأزمنة متطاولة؟ أَفَلا تَعْقِلُونَ حتى لا تجادلوا مثل هذا الجدال المحال”[4].
وقال الزمخشري: “قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95) قُلْ صَدَقَ اللَّهُ تعريض بكذبهم كقوله: (ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ) أي ثبت أن اللَّه صادق فيما أنزل وأنتم الكاذبون فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وهي ملة الإسلام التي عليها محمد ومن آمن معه، حتى تتخلصوا من اليهودية التي ورطتكم في فساد دينكم ودنياكم، حيث اضطرتكم إلى تحريف كتاب اللَّه لتسوية أغراضكم، وألزمتكم تحريم الطيبات التي أحلها اللَّه لإبراهيم ولمن تبعه”[5].

***********

فتحصل مما سبق أن {الذين هادوا} الأصل أنها في أتباع سيدنا موسى عليه السلام سواء من كان منهم مؤمن أو كان كافرا:فالمؤمنون منهم من كان على الحق في فترة ما قبل نسخ شريعتهم بسيدنا عيسى عليه السلام، ومنهم كفار وهم من ثبت على العمل بالتوراة رغم نسخها بشريعة عيسى عليه السلام ثم بشريعة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء كفار ادعوا أنهم أولياء لله وحدهم، وحرفوا التوراة وكذبوا وطعنوا في الإسلام، وذكرنا من قبل السر البلاغي في استعمالهم، وأما لفظ “اليهود” فهي علَم على هذه الجماعة الكافرة المحرفة لدينها فهي على الدين الباطل.
وأما “هود”: فهي جمع هائد أي متبع اليهودية المحرفة، فكل من “اليهود” و”هود” تدل على متبعي الدين المحرف المبدل، واليهودية هي: الدين المحرف الذي انتسب أصحابه إلى سيدنا موسى ثم بدلوه وغيروه وشوهوه، فاليهود هم تلك الجماعة المحرفة المبدلة المغيرة المغضبة لربها، والتركيز فيها على الدين، فلذلك كلمة “اليهود” اقترنت بالكفر وأقوال الكفر.
وإذا أردنا اختيار أصل كلمة (اليهود) بناء على الأوصاف التي وصفوا بها في القرآن مع أصول الكلمة التي ذكرها العلماء، نجد ان هذه الكلمة أقرب لأصل مادة (ه، و، د)، الدال على: لين ورخاوة وفتور ممتد في أثناء الشيء مع طلبه أي عدم الحدة والصلابة فيه، ومنه وهَوَّدَه الشَّرَابُ إِذا فَتَّرَهُ فأَنَامَهُ، الهَوَدَة، وَهِي أَصلُ (السَّنَام) وهو تجمع شحمي رخو، فهو عدم تصلب في الدين الحق، وأيضا أقرب لما ذكره الواحدي في البسيط حيث قال:” وقال غيره [أي غير الليث]: سموا بذلك لأنهم مالوا عن دين الإسلام وعن دين موسى، وعلى هذا إنما سموا يهودا بعد أنبيائهم. وقال ابن الأعرابي: يقال: هاد إذا رجع من خير إلى شر أو من شر إلى خير، سمي اليهود بذلك لتخليطهم، وكثرة انتقالهم من مذاهبهم، والله أعلم بحقيقة الحال”[6].

[1] البسيط(5/338).
[2] جامع البيان (3/125)
[3] تفسير الطبري (6/17).
[4] الكشاف (1 / 371).
[5] الكشاف (1/ 386).
[6] البسيط للواحدي (2/ 609).