إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين (6) بحث مفصل بقلم الشيخ علي هاني

يقدم لنا فضيلة الشيخ بحثاً في المنظور القرآني لعلاقة الإسلام والمسلمين باليهود والنصارى، وذلك من خلال دراسة الآيات الواردة بخصوصهم، وتركيز البحث في الدرجة الأولى على آية {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:62] وعلى ما يشبهها في المائدة والحج، ملخصاً وشارحاً ومستدلاً بأهم ما جاء في كتب التفسير في هذا الموضوع.

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

المسألة السادسة: تحقيق اشتقاق هادوا وبيان الفرق بين هادوا ويهودوهُود:
وردت (الذين هادوا) [10 عشر مرات]، ووردت كلمة اليهود ثماني مرات [8 مرات]، ووردت كلمة(هود) ثلاث مرات [3 مرات].

أولا: هادوا:
المعنى المحوري الذي تدور عليه مادة(ه، و، د) في العربية[1] :
لين أو رخاوة وفتور ممتد في أثناء الشيء وعدم الحدة والصلابة فيه مع طلب هذا اللين والرخاوة.
ومن مصاديقه:
التّهويد: المَشْيُ الرُّوَيْدُ شبه الدَّبيب في المَشْي، يقال هَوّدَ الرجلُ فِي السّير تهويداً، إِذا سَار سيراً لينًا.
وهَوَّدَه الشَّرَابُ إِذا فَتَّرَهُ فأَنَامَهُ.
التَّهْوِيدُ: الصَّوْتُ الضَّعِيفُ اللَّيِّن، الفاتِرُ.
الهَوَدَة: أَصلُ (السَّنَام) وهو تجمع شحمي رخو.
ومنه هاد يهود وتهوَّد: تاب ورجع إلى الحق وتمايل للتوبة فهو هائد، ومنه قوله تعالى حكاية عن سيدنا موسى: {وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ}[الأعراف: 156].
وإذا جمعنا هذا الأصل مع ما ذكره علماء اللغة والتفسير في معنى {هدنا إليك}، نجد أن معنى (هادوا):
تابوا ورجعوا إلى الله بخضوع وذل ولين جانب وسكون وموادعة وترك التصلب طلبا للنجاة.
يقول علي هاني: فإن قيل هذا في اللغة العربية، الذين هادوا” قد سموا بذلك من قديم في لغتهم؟ قلنا: اللغة العبرية من اللغات السامية التي تشترك في الأصول مع اللغة العربية، في مواد كثيرة، وقد قال د. محمد محفل وغيره من المتخصصين في اللغات القديمة: “العبرية” عامية من عاميات العربية فقدت الإعراب، فهي عند التحقيق من اللغات العربية من غير حركات، وذكروا على ذلك أدلة تذكر سيأتي بعضها[2].

وهذا القول في أن أصل هادوا هو أفضل الأقوال كما سيأتي أدلة ذلك، وقبل ذلك إليك أقوال العلماء في اشتقاق (هادوا):

القول الأول:
قالوا: هادوا فعل ماض مضارعه يهود أي تابوا، يقال منه: هاد القوم يهودون هَوْدا وهادةً، وألفه أصلها واو، والأصلُ: هاد يهودُ أي تاب [3] والهائد: التائب، قال الشاعر:إنِّي امرؤٌ من حُبِّه هائِدُ أي: تائبٌ، ومنه سمي بنو إسرائيل (الذين هادوا)؛ لأنَّهم تابُوا عن عبادةِ العِجْلِ،وفي التنزيل: ” إنا هدنا إليك ” [الأعراف: 156] أي تبنا ورجعنا فسموا به حين تابوا من عبادة العجل وقالوا: إنا هدنا إليك، وهي توبة عظيمة سجلها لهم القرآن [4]؛ لأنها كانت بأن يقدم نفسه للموت لوجه الله صابرا محتسبا، ولذلك أطلق عليهم اسم: (الذين هادوا): تابوا. أي: بتلك التوبة المعروفة، وفيها تذكير ضمني بأنهم تيب عليهم من ذنب كبير فعليهم أن لا يعودوا للمعاصي والكفر، وأن يشكروا الله سبحانه، ثم صار كالعلم [5] عليهم استخدمه القرآن استخداما دقيقا مذكرا لهم بأصل وضعه كما سيأتي بيانه، فالعلم وإن دل على الذات لكن قد يلاحظ أصل وضعه نحو الحسن والعباس كما هو مقرر في كتب النحو والبلاغة.
اختار هذا القول: ابن عباس،و مُجَاهِدٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، الطبري، وأبو حيان [6]، وابن عطية، والزجاج وابن فارس وابن سيده، والخليل في العين، والأزهري، والسمعاني والثعالبي وابن العربي، وجواد مغنية، والطوسي، والخليلي، وكذا أبو السعود والآلوسي في المائدة ومحمد رشيد رضا والشنقيطي[7] في الأنعام[8] .
وإذا أردنا التدقيق في العبارة نظرا للأصل الذي سبق ونظرا في كلام العلماء فالأحسن أن يقال: هادوا: تابوا ورجعوا إلى الله بخضوع وذل ولين جانب وسكون وموادعة وترك التصلب طلبا للنجاة.

القول الثاني:
قالوا هذا الاسم معرب وليس بعربي، فأصل الألف ياء سُمُّوا يهودَاً نسبةً لـ(يهوذا) بالذال المعجمة وهو ابنُ يعقوب عليه السلام قيل هو أكبر أولاده [9]، فالأصل يَهُوذ على إِرادَةِ النَّسَب، فغيَّرتْه العربُ من الذال المعجمة إلى الدال المهملة وأسقطوا ألفه جَرْياً على عادتها في التلاعُب بالأسماء الأعجمية فإن العرب إذا نقلوا أسماء من العجمية إلى لغتهم غيروا بعض حروفها، فَقَالُوا: اليَهود، فأَدخلوا الأَلف واللامَ فِيهَا، فهادوا ” معناه صاروا يهودا،أي نسبوا إلى يهوذا كما تسمى القبائل باسم أبيها كمضر وكنانة وتميم نسبة إلى جدهم «يهوذا» أكبر ولد يعقوب، سواء كان الواحد منهم من سبط يهوذا أو من باقي الأسباط.
اختاره: ابن عاشور ودروزة والمصطفوي في التحقيق، وحسنين مخلوف، وأمير عبد العزيز في التفسير الشامل [10]، وضعفه ابن سيده [11] وقال: ليس هذا بالقوي.
قال ابن عاشور [12]: “وهذا الاسم أطلق على بني إسرائيل بعد موت سليمان سنة 975 قبل المسيح فإن مملكة إسرائيل انقسمت بعد موته إلى مملكتين:
• مملكة رحبعام ابنِ سليمان ولم يتبعه إلا سِبط يهوذا وسبط بِنْيَامِين وتُلقب بمملكة يهوذا لأن معظم أتباعه من سبط يهوذا وجعل مقر مملكته هو مقر أبيه (أورشليم)
• ومملكة مَلِكُها يورْبعام بن بناط غلام سليمان وكان شجاعاً نجيباً فملَّكَتْه بقية الأسباط العشرة عليهم وجَعل مقر مملكته السامرة وتلقب بمَلِككِ إسرائيل إلا أنه وقومه أفسدوا الديانة الموسوية وعبدوا الأوثان فلأجل ذلك انفصلوا عن الجامعة الإسرائيلية ولم يدم ملكهم في السامرة إلا مائتين ونيفاً وخمسين سنة ثم انقرض على يد ملوك الآشوريين فاستأصلوا الإسرائيليين الذين بالسامرة وخربوها ونقلوا بني إسرائيل إلى بلاد آشور عبيداً لهم وأسكنوا بلاد السامرة فريقاً من الآشوريين فمن يومئذ لم يبق لبني إسرائيل مُلك إلا مُلك يهوذا بأورشليم يتداوله أبناءُ سليمان عليه السلام فمنذ ذلك غلب على بني إسرائيل اسم يَهود أي يَهوذا [13] ودام ملكهم هذا إلى حد سنة 120 قبل المسيح ميلادية [14] في زمن الأمبراطور أدريان الروماني الذي أجلى اليهود الجلاءَ الأخير فتفرقوا في الأقطار باسم اليهود هم ومن التحق بهم من فلول بقية الأسباط.
ولعل هذا وجه اختيار لفظ{الذين هادوا} في الآية دون اليهود للإشارة إلى أنهم الذين انتسبوا إلى اليهود ولو لم يكونوا من سبط يهوذا، ثم صار اسم اليهود مطلقاً على المتدينين بدين التوراة قال تعالى: {وقالت اليهود ليست النصارى على شيء} [البقرة: 113] الآية ويقال تَهوّد إذا اتبع شريعة التوراة وفي الحديث: ” يولد الولد على الفطرة ثم يكون أبواه هما اللذان يهوِّدانِه أو ينصِّرانه أو يمَجِّسانه ” ويقال هاد إذا دان باليهودية قال تعالى: {وعلى الذين هادوا حرَّمنا كل ذي ظفر} [الأنعام: 146]. وأما ما في سورة الأعراف (156) من قول موسى: {إنَّا هدنا إليك} فذلك بمعنى المتاب “[15].

القول الثالث:
قالوا معنى الذين هادوا: الذين تهوّدوا أي دانوا بدين اليهود.
ثم قالوا:ويهود: إما عربي من هاد إذا تاب، سموا بذلك لما تابوا من عبادة العجل، وإما معرب يهوذا وكأنهم سموا باسم أكبر أولاد يعقوب عليه السلام [16]، يقال: هاد يهود هودا، كقال يقول قولًا. وتهوّد إذا دخل في اليهودية، وهو هائد، والجمع هود.
الزمخشري وأبو السعود والآلوسي والنسفي والصابوني والواحدي في البسيط، والرازي [17]وأبو عبيدة معمر بن المثنى[18] وحقي [19] وابن جزي وأبو البقاء الكفوي والهواري وابن أبي زمنين ومكي، واختاره جمهور العلماء في سورة الجمعة[20].

الترجيح بين الأقوال:
للترجيح بين هذه الأقوال لا بد أن ننظر في المواضع التي ورد فيها {الذين هادوا}في القرآن الكريم، فالقرآن يورد كل جملة من جمله، وكل كلمة من كلماته بل كل حرف من حروف في غاية الدقة، ومن ذلك كل اسم من أسماء بني إسرائيل، ولا بد أيضا أن نحدد بالضبط من الذين أطلق عليهم “الذين هادوا” وفي أي الأزمان، فإذا نظرنا في كل موضع وبحثنا عن السر البلاغي في اختيار “الذين هادوا” دون غيره من الأسماء استطعنا أن نتلمس القول الراجح أو أن نصل على الأقل إلى أقرب الأقوال، وإذا جمعنا مع ذلك ما قاله العلماء في كل موضع صرنا أكثر قربا.
وردت (الذين هادوا) في عشرة مواضع:
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)} (2/62).
{مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (46)} (4/46)
{وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159) فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (161) لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا (162} (4/162).
{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41)}(5/41).
{إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)} (5/44).
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69) لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70)} {(5/69).
{وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (146)} (6/146).
{وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118)} (16/118).
{وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17)} (22/17).
{مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5) قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6)} (62/6).

أولا: أقوال المفسرين في سر اختيار هادوا في هذه المواضع مع ذكر أقوالهم في اشتقاقه:
إذا تتبعنا ما قال علماء التفسير في هذه المواضع نجد أنهم لم يتحدثوا في كل مرة عن توجيه اختياره”الذين هادوا”، ونجد أنهم اختلفت توجيهاتهم لهذه المواضع على النحو التالي:
1) في تفسير {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا} [النساء: 160]} نجد قولين:

القول الأول:
اختاره أبو السعود [21] وتبعه الآلوسي [22] واطفيش في التيسير ومحمد سيد طنطاوي في الوسيط: أن ذكرَهم بهذا العنوانِ للإيذان بكمالِ عِظَمِ وشناعة ظلمهم وسوئهم بتذكير وقوعِ الظلم بعد ما هادُوا أي تابوا من عبادة العجلِ تلك التوبةِ الهائلةِ المشروطةِ ببخْع النفوسِ فهم وقعوا في هذا الظلم الشديد بعد توبتهم ورجوعهم عن عبادة العجل وهذا غاية الشناعة والسوء.

القول الثاني:
{من الذين هادوا} أي تلبسوا باليهودية في الماضي ادعاء أنهم من أهل التوراة والرجوع إلى الحق، ولم يضمر تعييناً لهم زيادة في تقريعهم، وفيه تعظيم ظلمهم أيضا، إذ صدر عنهم بعدما ادعوا أنهم من أهل التوراة والرجوع إلى الحق.
اختاره البقاعي والقاسمي
قال القاسمي: (من الذين هادوا) أي تلبسوا باليهودية، وفيه تعظيم ظلمهم أيضا، إذ صدر عنهم بعدما ادعوا أنهم من أهل التوراة والرجوع إلى الحق”[23].

*************

2) في تفسير قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6)} (62/6).
فيها قولان:

القول الأول:
تهودوا أي تدينوا باليهودية وصاروا يهودا، وكانوا قد ادّعوا الفضيلة على الناس، وأنهم أولياء الله من دون الناس وأحباؤه، فلو كان قولكم حقا وأنتم على ثقة فتمنوا على الله أن يميتكم وينقلكم سريعا إلى دار كرامته التي أعدها لأوليائه.
اختاره: الزمخشري والفخر الرازي والنسفي والشربيني وأبو السعود والمظهري والشوكاني والميرغني والآلوسي واطفيش في الهميان والمراغي وإبراهيم القطان والطباطبائي وشحاته والسمرقندي[24].

القول الثاني:
أن يكون هادوا} بمعنى تابوا، وأصل هود هُوُود وقد تنوسي منه هذا المعنى وصار علماً بالغلبة على بني إسرائيل فنودوا به هنا بهذا الاعتبار لأن المقام ليس مقام ثناء عليهم أو هو تهكم. قاله الشنقيطي [25] وتعيلب وأجازه ابن عاشور سيد طنطاوي.

***********

3) وفي قوله تعالى [26] {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)}
في المراد بالذين هادوا في (للذين هادوا) في هذه الآية ثلاثة أقوال:

القول الأول:
تابوا من الكفر وهم بنو إسرائيل.
ابن عباس والواحدي والطبرسي وابن الجوزي القرطبي والنسفي وسيد طنطاوي ومكي والمظهري والقاسمي[27].

القول الثاني:
المراد بـ(هادوا) اتصفوا باليهودية التي هي بمعزل من الإسلام وبعيدة من الإسلام.
الزمخشري [28] وأبو حيان[29] والسمين الحلبي وناقشه النيسابوري[30].

القول الثالث:
والّذين هادوا هم اليهود، وهو اسم يرادف معنى الإسرائيليين، إلاّ أنّ أصله يختصّ ببني يهوذا منهم، فغلب عليهم من بعد، قاله ابن عاشور
ثانيا: تحديد من هم الذين أطلق عليهم “الذين هادوا” وهل هم المؤمنون أم الكفار:
“الذين هادوا” أطلقت أصالة على بني إسرائيل الذين أمروا بالعمل في التوراة، وكانوا في زمن سيدنا موسى عليه السلام مدحا لهم بالتوبة إلى الله تعالى من عبادة العجل ومنه سُموا بـ(الذين هادوا)؛ لأنَّهم تابُوا عن عبادةِ العِجْلِ وهي توبة عظيمة سجلها لهم القرآن، وهي توبتهم من عبادة العجل؛ لأنها كانت بأن يقدم نفسه للموت، ثم أطلقها القرآن على من جاء منهم بعد ذلك، من أتباع سيدنا موسى عليه السلام سواء:
أ‌) المؤمنون منهم ممن كان على الحق في فترة ما قبل نسخ شريعتهم فهذا يشمل الزمان من زمن سيدنا موسى إلى زمن سيدنا عيسى عليه السلام.
ب‌) والكفار منهم وهم من ثبت على العمل بالتوراة رغم نسخها بشريعة عيسى عليه السلام ثم بشريعة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء كفار ادعوا أنهم أولياء لله وحدهم، وحرفوا التوراة وكذبوا وطعنوا في الإسلام كما قال تعالى {أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ} {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ} {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} {وَطَعْنًا فِي الدِّينِ}.

أ‌) أولا: الأدلة على أنها أطلقت على أتباع سيدنا موسى عليه السلام من كان منهم على الحق:
وعندنا دليلان على أنها أطلقت على أتباع سيدنا موسى عليه السلام من كان منهم على الحق في فترة من الفترات قبل نسخ شريعتهم من زمن سيدنا موسى إلى زمن سيدنا عيسى عليه السلام.
الدليل الأول:
{إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} فجمهور العلماء على أن المراد بالذين هادوا الذين تابوا إلى الله تعالى فهم مؤمنون، يتحاكمون لشريعة الله فيحكم لهم بها النبيون والربانيون والأحبار
الدليل الثاني:
{وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118)} {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (146)} {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (161)}
وقد بين القرآن أن هذا التحريم كان في التوراة بقوله تعالى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93)} {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ [إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ] مِنْ قَبْلِ [31] أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93)}(3/93)
فحل كل الطعام كان ثابتا في جميع أزمنة ما قبل التوراة على بني إسرائيل قال الزمخشري: “والمعنى أن المطاعم كلها لم تزل حلالاً لبني إسرائيل من قبل إنزال التوراة وتحريم ما حرم عليهم منها، لظلمهم وبغيهم لم يحرم منها شيء قبل ذلك غير المطعوم الواحد الذي حرمه أبوهم إسرائيل على نفسه فتبعوه على تحريمه، وهو رد على اليهود وتكذيب لهم، حيث أرادوا براءة ساحتهم مما نعى عليهم في قوله تعالى: {فَبِظُلْمٍ مّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طيبات أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء: 16] إلى قوله تعالى: {عَذَاباً أَلِيماً} [النساء: 18] وفي قوله: {وَعَلَى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذي ظُفُرٍ وَمِنَ البقر والغنم حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا} [الأنعام: 146] إلى قوله: {ذلك جزيناهم بِبَغْيِهِمْ} [الأنعام: 146] وجحود ما غاظهم واشمأزوا منه وامتعضوا مما نطق به القرآن من تحريم الطيبات عليهم لبغيهم وظلمهم، فقالوا: لسنا بأوّل من حرّمت عليه، وما هو إلا تحريم قديم، كانت محرّمة على نوح وعلى إبراهيم ومن بعده من بني إسرائيل وهلم جرا، إلى أن انتهى التحريم إلينا، فحرمت علينا كما حرمت على من قبلنا. وغرضهم تكذيب شهادة الله عليهم بالبغي والظلم والصدّ عن سبيل الله وأكل الربا وأخذ أموال الناس بالباطل، وما عدّد من مساويهم التي كلما ارتكبوا منها كبيرة حُرم عليهم نوع من الطيبات عقوبة لهم”[32].
وكذلك صرح كثير من المفسرين في تفسير {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ} أن هذا التحريم كان في التوراة كالبقاعي [33] ومحمد رشيد رضا[34].
وموضع الشاهد أن الله سبحانه قال وعلى الذين هادوا حرمنا، والتحريم كان في التوراة فإذن يطلق على الذين في زمن سيدنا موسى الذين هادوا أيضا وهم كانوا على التوحيد، وإن صدر عنهم ظلم دعي إلى تحريم ما حرم عليهم عقوبة، وبدليل أن سيدنا عيسى عليه السلام جاء للتخفيف عليهم فقال: {وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ}فهذا يدل على أن التحريم كان في التوراة.

ب‌) أدلة اطلاقها على الكفار منهم:
وأما أدلة أنها أطلقت على الكفار منهم وهم الذين ثبتوا على العمل بالتوراة رغم أنها نسخت بشريعة عيسى عليه السلام ثم بشريعة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، أنها تحدثت مع المحرفين المبدلين الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وسمتهم الذين هادوا وذكرت جرائمهم:
{قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6) وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)}الجمعة
{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41)}آل عمران
{مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (46)} النساء
{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41)} المائدة
{مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (46)}المائدة
ودعتهم للتوبة في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17).
والآيات السابقة تشير إلى أن الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كفار فهم يسارعون في الكفر ويحرفون الكلم من بعد مواضعه، ويسبون على النبي صلى الله عليه وسلم ويدْعُون عليه، وهم يزعمون أنهم وحدهم أولياء لله من دون الناس الذين منهم المسلمون أتباع النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
وإذا تدبرنا الآيات التي وردت في سورة الجمعة التي فيها {إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ} نجد أنها تبين أنهم ما آمنوا برسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم الذين أرسل للأمين ومن بعدهم، وأنهم حملوا التوراة التي أمرتهم بالإيمان بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم، ثم لم يعملوا بها فكانوا كالحمار يحمل أسفارا، وأنهم ظالمون وأنهم زعموا أنهم أولياء لله من دون الناس فهم يقولون: إنهم شعب الله المختار وكذبهم القرآن في ذلك،فالآية صريحة في كفرهم وضلالهم.
{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4) مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5) قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6) وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)}
ويدل على أنهم بعد سيدنا عيسى كفار، وليسوا على الحق أن الله سبحانه وتعالى قال: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)}ـ فالآيات قالت: ” للذين هادوا” ثم قالت بعدها وليحكم أهل الإنجيل: {وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47)} فالإنجيل بعد نزلوه على سيدنا عيسى في ذلك الوقت هو الذي ينبغي أن يعمل به ناسخا لبعض ما في التوراة ومقرا لبعضها، فمن لم يؤمن به فهو كافر.
وأيضا القرآن لم يطلق على اتباع سيدنا عيسى الذين كانوا على الحق هذا الاسم أعني “الذين هادوا” بل عبر بعبارات منها:{أهل الإنجيل}هنا {الذين اتبعوه} نحو{ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً} أو الحورايون{فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52} {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14)} ويلاحظ أن القرآن استعمل مع من يخاطبهم سيدنا عيسى من قومه عموما (بني إسرائيل) ولم يقل الذين هادوا كما قال تعالى في الآية السابقة:” فآمنت طائفة من بني إسرائيل” وأيضا كما في قوله تعالى {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6)}.
وأيضا التعبير بقوله تعالى:{يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا}يدل على أن هذه الشريعة محدودة وليست عالمية لذلك، قال المهايميّ: لِلَّذِينَ هادُوا أي: لا لمن يأتي بعدهم، وقال البقاعي:” ثم بين المحكوم له تقييداً به إشارة إلى أنها ستنسخ {لِلَّذِينَ هَادُوا}[35] “.
وقد لخص محمد رشيد هذا الموضوع عند تفسير آية: {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا}: ” أَنْزَلْنَاهَا (أي التوراة)قَانُونًا لِلْأَحْكَامِ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ – مُوسَى وَمَنْ بَعْدَهُ مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ – طَائِفَةً مِنَ الزَّمَانِ، انْتَهَتْ بِبَعْثَةِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَهُمُ الَّذِينَ أَسْلَمُوا وُجُوهَهُمْ لِلَّهِ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ; فَالْإِسْلَامُ دِينُ الْجَمِيعِ، وَكُلُّ مَا اسْتَحْدَثَهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى مِنْ أَسْبَابِ التَّفَرُّقِ فِي الدِّينِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَضَلَالٌ مُبِينٌ؛ وَإِنَّمَا يَحْكُمُونَ لِلَّذِينِ هَادُوا – أَيِ الْيَهُودِ خَاصَّةً – لِأَنَّهَا شَرِيعَةٌ خَاصَّةٌ بِهِمْ لَا عَامَّةٌ ; وَلِذَلِكَ قَالَ آخِرُهُمْ عِيسَى: لَمْ أُرْسَلْ إِلَّا إِلَى خِرَافِ إِسْرَائِيلَ الضَّالَّةِ. وَلَمْ يَكُنْ لِدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَعِيسَى مِنْ دُونِهَا شَرِيعَةٌ”[36].
ثالثا: بيان السر البلاغي في استعمال “الذين هادوا” وترجيح أصح الأقوال في اشتقاق” الذين هادوا”:
مما سبق يتيبين أن “الذين هادوا” أطلقت على المؤمنين منهم من زمن سيدنا موسى عليه السلام إلى زمن سيدنا عيسى، وأطلقت على الكافرين منهم الذين لم يؤمنوا بسيدنا عيسى وسيدنا محمد، واختار القرآن استعمال “الذين هادوا” ملاحظاً أصل الوضع وهو أنه من التوبة أي تابوا ورجعوا إلى الله بخضوع وذل وترك التصلب طلبا للنجاة في سياقات تناسب هذا، فاستعملت:
أ) في سياق تفظيع فعلهم حيث عادوا للمعصية بعد أن تيب عليهم فبين لهم كمالِ عِظَمِ وشناعة ظلمهم وسوئهم بتذكير وقوعِ الظلم بعد ما هادُوا أي تابوا من عبادة العجلِ تلك التوبة الهائلة المشروطة ببخْع النفوسِ.
ب) في سياق عتابهم على العود إلى المعاصي بعد أن تيب عليهم وكان على الذين تيب عليهم من عبادة العجل أن يشكروا الله سبحانه لا أن يبدلوا ويغيروا ويرجعوا للمعاصي والكفر مرة أخرى.
ج) في سياق كبح جماح تكبرهم على الناس فهو يذكره بهذا الاسم أنكم قد عبدتم العجل وهو شرك وكفر بالله وتيب عليكم برحمة من الله ثم تزعمون أنكم أولياء من دون الناس.
د) في سياق الترغيب للتوبة وفتح باب التوبة اختير {هادوا} للترغيب لهم في التوبة فكما تابوا من عبادة العجل فليتوبوا إلى الله سبحانه بالتوحيد الحقيقي واتباع النبي صلى الله عليه وسلم وأيضا ترغيب لهم أن الذي تاب عليكم في المرة الأولى يتوب عليكم إن تبتم.
تطبيق أقوال المفسرين الثلاثة في أصل هادوا على جميع الآيات:
بناء على ما سبق نريد تطبيق الأقوال المذكورة ر سابقا على جميع المواضع التي ورد فيها “الذين هادوا” لنلاحظ الدقائق البلاغية التي من أجلها ذكر هذا الاسم، ونحاول أن نطبق كل قول من الأقوال الثلاثة في اشتقاق “الذين هادوا” لنرى أن الأرجح هو ” أن اشتقاق الذين هادوا من التوبة كأنه قيل الذي تابوا:
1) أولا: على القول الأول القائل: “هادوا فعل ماض مضارعه يهود أي تابوا ورجعوا إلى الله بخضوع وذل ولين جانب وسكون وموادعة وترك التصلب طلبا للنجاة،لأنَّهم تابُوا عن عبادةِ العِجْلِ، وهي توبة عظيمة سجلها لهم القرآن، وهي توبتهم من عبادة العجل، لأنها كانت بأن يقدم نفسه للموت، هذه التوبة التي تجر الإنسان إلى أن يقدم نفسه لله صابرا محتسبا على الموت توبة عظيمة سجلها لهم القرآن، ولذلك أطلق عليهم اسم: (الذين هادوا): تابوا. أي: بتلك التوبة المعروفة، وفيها تذكير ضمني بأنهم تيب عليهم من ذنب كبير، ثم صار كالعلم [37] عليهم استخدمه القرآن استخداما دقيقا مذكرا.
وقد ذكره أبو السعود ـ رحمه الله ـ في توجيه موضعٍ واحدٍ، فربط بين كونهم تابوا وسياق الآية، وقد وجدنا أن هذا الذي ذكره أبو السعود يطرد في كل المواضع، فقد قال أبو السعود في قوله تعالى:
{فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (161)}
إنَّ ذكرَهم بهذا العنوانِ للإيذان بكمالِ عِظَمِ وشناعة ظلمهم وسوئهم بتذكير وقوعِ الظلم بعد ما هادُوا أي تابوا من عبادة العجلِ تلك التوبةِ الهائلةِ المشروطةِ ببخْع النفوسِ فهم وقعوا في هذا الظلم الشديد بعد توبتهم ورجوعهم عن عبادة العجل وهذا غاية الشناعة والسوء.
يقول علي هاني وكذلك يقال في: {قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6) وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)}الإتيان بهذا الاسم لبيان أنكم قد عبدتم العجل وهو شرك وكفر بالله وتيب عليكم برحمة من الله ثم تزعمون أنكم أولياء من دون الناس، فجيء بهذا الاسم لكبح جماح تكبرهم على الناس.
وكذلك في قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118)}زيادة ذم لهم بالرجوع للمعصية والكفر مرة ثانية بعد ما هادُوا أي تابوا من عبادة العجلِ تلك التوبة الهائلة المشروطة ببخْع النفوسِ وتفظيع فعلهم وكمالِ عِظَمِه وشناعته حيث عادوا للمعصية بعد أن تيب عليهم، فاستحقوا هذا التحريم جزاء وفاقا ففيه تعليل لهذا التشديد.
وكذلك في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41)} كان على الذين تيب عليهم من عبادة العجل أن يشكروا الله سبحانه لا أن يبدلوا ويغيروا ويرجعوا للمعاصي والكفر مرة أخرى، ففيه تفظيع فعلهم حيث عادوا للمعصية بعد أن تيب عليهم من عبادة العجلِ تلك التوبة الهائلة المشروطة ببخْع النفوسِ، فعودهم إلى المعاصي والكفر بعد ذلك في غاية الشناعة.
وفي قوله تعالى: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (46)}يقال فيها ما قيل في الآية السابقة، أي ما كان ينبغي على الذي تيب عليه أن يعود ويكفر ويحرف.
وفي قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)}بيان إكرام الله لهم بالتوراة وبالأنبياء والربانيين والأحبار لأنهم تابوا إلى الله تعالى ورجعوا إليه وخضعوا.
وأما في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)} سورة البقرة {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69)} سورة المائدة
وهي الآيات التي بحْثُنا فيها، فسر استعمال “الذين هادوا” أنه لما كان السياق في الآيات للترغيب في التوبة وفتح بابها اختير {هادوا} للترغيب لهم في التوبة فكما تابوا من عبادة العجل فليتوبوا إلى الله سبحانه بالتوحيد الحقيقي واتباع النبي صلى الله عليه وسلم، وفيها أيضا ترغيب لهم من جهة أخرى وهي أن الذي تاب عليكم في المرة الأولى يتوب عليكم إن تبتم.
وأما آية سورة الحج {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17)} ففيه عتاب لهم وأنهم يستحقون عذاب الله يوم القيامة وحسابه الشديد، فهم قد عبدوا العجل وتاب الله عليهم رغم أنه كفر شديد، ثم رجعوا إلى الكفر واستمروا عليه، فهي تشبه استعمال كلمة “رب” في نحو: {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ}.
هذا تطبيق القول الأول في اشتقاق “الذين هادوا” على كل الآيات وقد رأينا أنه مطرد، ولنرى تطبيق القول الثاني:
2) على القول الثاني: وهو أن (هادوا) معرب وليس بعربي، سُمُّوا يهوداً نسبةً لـ(يهوذا) بالذال المعجمة وهو ابنُ يعقوب عليه السلام، فهادوا ” معناه صاروا يهودا،أي نسبوا إلى يهوذا كما تسمى القبائل باسم أبيها كمضر وكنانة وتميم نسبة إلى جدهم «يهوذا» أكبر ولد يعقوب، سواء كان الواحد منهم من سبط يهوذا أو من باقي الأسباط، قال ابن عاشور: وهذا الاسم أطلق على بني إسرائيل بعد موت سليمان.
وهذا القول لا أراه هو الأصح لأربعة أمور:
1) أولا: أن أكثر الذين قالوا هذا القول قالوا: أطلق في فترة متأخرة على بني إسرائيل، فابن عاشور يقول: أطلق بعد سيدنا سليمان، والقاسمي يقول: وإنما لزمهم هذا الاسم؛ لأن الإسرائيليين الذين رجعوا من جلاء سبعين سنة، ومن سبي بابل إلى وطنهم القديم، كان أكثرهم من نسل يهوذا بن يعقوب، ودروزة يقول: لأن سبط يهوذا كان يقيم في منطقة بيت المقدس وكان أكبر وأشهر أسباط بني إسرائيل اهـ لكن لو تدبرنا الآيات نجد أن القرآن أطلقها على الذين كانوا في زمن سيدنا موسى عليه السلام فمن بعده قال تعالى {:{يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا}قال الآلوسي:” والمراد من النبيين من كان منهم من لدن موسى إلى عيسى عليهما الصلاة والسلام على ما رواه ابن أبي حاتم عن مقاتل”اهـ، وهذا متقدم جدا قبل سيدنا سليمان عليه السلام.
وكذلك قوله تعالى:” فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} {{وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118)} قد تقدم أن هذا التحريم كان في التوراة، وهي قبل سيدنا سليمان عليه السلام هذا من جهة، الذين في زمن سيدنا موسى كانوا من الأسباط الاثني عشر كما هو صريح القرآن.
2) ثانيا: أن أكثر المحققين من المفسرين ردوا هذا القول، وكذلك فعل أكثر أهل اللغة ومنهم ابن سيده فقد ضعفه وقال: ” ليس هذا بالقوي”.
3) ثالثا: لو أردنا أن نبحث في سر بلاغي لاختيار هادوا لم نجد إلا أنه لتمييزهم عن غيرهم فقط دون غيره من الأسرار، فهو عَلَم مميز فقط مثل تميم وقريش دون نظر لسر بلاغي فوق ذلك بخلاف القول الأول ولننظر في هذه الآيات:{فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا} {وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ} {{مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ} {{إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا}
نعم يستثنى من ذلك موضع واحد يظهر فيه سر بلاغي على هذا القول وهو قوله تعالى {قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6)}يظهر سر اختياره على هذا القول أنهم افتخروا بأصلهم النسبي.
4) رابعا: إذا أخذنا بهذا القول لا نجد سرا مرجحا لاختيار هادوا دون يهود في كثير من المواضع السابقة.
3) خامسا: هذا القول يجعل الكلمة معربة، بخلاف القول الأول فهو يجعلها عربية أصالة، ولا شك أن القول بأنها عربية أولى من القول بالتعريب، لا سيما أنه قد ورد في القرآن {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ}.
بناء على ما سبق لا نرى أن هذا الاشتقاق هو الراجح.

********

4) وأما على القول الثالث: وهو أن هادوا معناه: الذين تهوّدوا أي دانوا بدين اليهود، فمردود قطعا؛ لأن ” الذين هادوا” أطلقت على المؤمنين منهم كما تبين من قبل كما في
{إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ}، وهذا القول يقول:” الذين هادوا” معناه تهودوا أي دانوا بدين اليهود، ومن المحقق ـ كما سيأتي تفصيله في المباحث الآتي ـ أن اليهودية ليست دين سيدنا موسى؛ لأن دينه هو الإسلام كما قال تعالى {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19)} و(ال) في الدين للجنس فجنس الدين عند الله في كل الأزمان هو الإسلام، وأيضا النبيون والربانيون إنما يحكمون للذين تابوا إلى الله وقبلوا الإيمان لأنهم هم الذين قبلوا التوراة والعمل بها.
فإن قيل فمن أين جاءت النصرانية واليهودية؟ نقول قد أجاب الله تعالى عن ذلك في الآية نفسها، {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ}،فاليهودية هي الدين الذي حرفه اليهود من دين سيدنا موسى عليه الصلاة والسلام، إذا ظهر هذا نقول: لا يصح تفسير الذين هادوا في كل موضع بالذين دانوا باليهودية؛لأن “الذين هادوا” أطلقت في القرآن في بعض المواضع على الموحدين المؤمنين، فإذا أخذنا بهذا القول يكون المعنى في الآية الذين دانوا باليهودية،وهذا غير صحيح فهم لم يدينوا باليهودية؛ لأن اليهودية دين محرف باطل، فهذا القول الذي يفسر الذين هادوا بدانوا باليهودية لا يطرد في كل موضع فلا يصح.
وإذا تبين ما سبق يظهر رجحان القول الأول في أصل (الذين هادوا) وهو أن هادوا فعل ماض أي تابواورجعوا إلى الله بخضوع وذل ولين جانب وسكون وموادعة وترك التصلب طلبا للنجاة، والله أعلم بحقيقة الحال.

************

ثانيا [38]: المراد باسم (اليهود) والفرق بينه وبين هادوا:
إذا نظرنا في استعمال القرآن لكلمة اليهود نجد أن القرآن الكريم استعملها في مقابل الحنيفية والتوحيد وفي مقابل هدي الله سبحانه، وبرأ سيدنا إبراهيم عليه السلام منها، ووصفهم بالسعي في الفساد في الأرض وبشدة العداوة للذين آمنوا، ووصفهم بأنهم صدر عنهم ألفاظ كفرية نحو قولهم: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ}، {عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ}،فالقرآن لم يطلقها على المؤمنين منهم مطلقا، بخلاف كلمة {هادوا} فقد أطلقت على المؤمنين والكفار منهم، ومن الملاحظ أن كلمة “يهود” ورد ت في سور مدنية، وإليك الآيات لتتأملها وترى ما سبق:
{وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113)}.
{وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120)}.
{مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67)}
{وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18)}.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51}.
{قَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)}.
{وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [البقرة: 113].
{لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82)}.
{وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30)} [39].

ثالثا: معنى (هود) في قوله تعالى:
{وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111)}{وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135)} {أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140)}
(هوداً) جمعُ هائد على أظهر القولين، نحو: بازِل وبُزْل، وعائِد وعُود، وحائل وحُول وبائِر وبُور، فهو جمع هائد، أي: متبع اليهودية، واليهود كانوا يَدْعُون إلى اليهودية التي هم عليها ويحصرون الهداية فيها، والنصارى يَدْعُون إلى النصرانية التي هم عليها، ويحصرون الهداية فيها، والحنيف في اللغة: المائل. وإنما أطلق على إبراهيم؛ لأن الناس في عصره كانوا على طريقة واحدة وهي الكفر، فخالفهم كلهم وتنكب عن طريقتهم مائلا إلى التوحيد، واسما اليهودية والنصرانية حدثا بعد إبراهيم وإسماعيل وإسحاق، بل حدث اسم اليهودية بعد موسى واسم النصرانية بعد عيسى كما حدث لليهود تقاليد كثيرة صار مجموعها مميزا لهم[40].

 

[1] ينظر محمد حسن جبل في المعجم الاشتقاقي، ومعجم مقاييس اللغة لابن فارس، والتحقيق للمصطفوي

[2] ثم رأيت المصطفوي في التحقيق (11/20) مادة هود. قال: : قال في القاموس العبري لقوجمان: (هود) مجد، جلال، عز. (هودِه): شكر “اهـ قال المصطفوي: فهي مأخوذة من العبريةولا يخفى ما بين المفهوم اللغوي العربي والعبري من التناسب فإن الحركة والميل إلى الارتياح والرواح يصدق على المجد والشكر والعظمة.
[3] وهناك أقوال قريبة من هذا: فقيل: هو من الهَوادة وهي الخضوعُ ولين الجانب والسكون، ومنه قولهم: إنا هدنا إليك أي لانت قلوبنا، وقيل: ” هدنا إليك ” أي: سكنا إلى أمرك. والهوادة: السكون والموادعة. وقيل: هو من التَّهْويد وهو النطق في سكون ووقار، وأنشدوا:
وخُودٌ من اللائي تَسَمَّعْنَ بالضُّحى *** قَريضَ الرُّدافَى بالغِناءِ المُهَوَّد وقيل: والأصلُ: هاد يَهِيد، أي: تحرَّك ومنه سُمِّي اليهودُ لتحرُّكهم سموا بذلك لأنهم يتهودون أي يتحركون عند قراءة التوراة أبو عمرو بن العلاء”.الدر المصون (1/405).
[4] ولا يلزم من هذا الاسم أنهم كلهم عبدوا العجل.

[5] قال أبو حيان في سورة المائدة: ” وحيث جاء النصارى من غير نسبة إلى أنهم قالوا عن أنفسهم ذلك، فإنما هو من باب العَلَم لم يلحظ فيه المعنى الأول الذي قصدوه من النصر، كما صار اليهود علماً لم يحلظ فيه معنى قوله هُدنا إليك” قال ابن عاشور: ” وقد تنوسي منه هذا المعنى وصار علماً بالغلبة على بني إسرائيل فنودوا به”.

[6] قال أبو حيان:”هاد: ألفه منقلبة عن واو، والمضارع يهود، ومعناه: تاب، أو عن ياء والمضارع يهيد، إذا تحرك، والأولى الأول لقوله تعالى: {إنا هدنا إليك}”(البحر (1/385).
[7] قال الشنقيطي: “هادوا ” المراد بالذين هادوا هنا: اليهود، والعرب تقول: ” هاد يهود ” إذا تاب من ذنبه ورجع إلى الصواب. وهذا معروف في كلام العرب، ومنه قول الله في الأعراف عن نبيه موسى: {واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنا هدنا إليك}(الأعراف: الآية106) أي: تبنا ورجعنا منيبين إليك. فمعنى(هاد، يهود): إذا رجع تائبا إلى الحق، متنصلا من ذنبه. واسم فاعله: (هائد)، ويجمع على (هود)، ومنه: {كونوا هودا أو نصارى}(البقرة: الآية 135) وجمع(الفاعل) على (فعل) مسموع في أوزان قليلة، وكهائد وهود، وحائل وحول، وعائذ وعوذ، وبازل وبزل: وإنما قيل لليهود: {الذين هادوا}لأنه في تاريخهم توبة عظيمة سجلها لهم القرآن، وهي توبتهم من عبادة العجل، لما رجع موسى من الميقات من الطور، ووجدهم يعبدون العجل، جاء الوحي بأن الله لا يقبل توبة أحد منهم حتى يقدم نفسه للموت، كما قدمنا إيضاحه في البقرة في قوله: {فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم} (البقرة: الآية 54) أي: فقدمتم أنفسكم فتاب عليكم. هذه التوبة التي تجر الإنسان إلى أن يقدم نفسه لله صابرا محتسبا على الموت توبة عظيمة سجلها لهم القرآن، ولذلك ربما أطلق عليهم اسم: (الذين هادوا): تابوا. أي: بتلك التوبة المعروفة” (العَذْبُ النَّمِيرُ مِنْ مَجَالِسِ الشَّنْقِيطِيِّ فِي التَّفْسِيرِ/ محمد الأمين(2 / 387).
[8] قال محمد رشيد رضا:” الذين هادوا هم اليهود من قولهم الآتي في سورة الأعراف {إنا هدنا إليك} (الأعراف 156) أي رجعنا وتبنا، وأصل الهود الرجوع برفق قاله الراغب” (المنار (8/150).
[9] وهناك قول آخر أنه الابن الرابع: فقد جاء في قاموس الكتاب المقدس:” وهو الرابع من أبناء يعقوب من زوجته ليئه وهو الذي منع من قتل يوسف ونجاه”.
[10] قال أمير عبد العزيز:” لكنني أرجح الرأي الأول القائل بأن هادوا نسبة الى يهوذا الابن الأكبر، لأن الرأيين الآخرين أساسهما الاشتقاق في العربية مع أن بني إسرائيل ما كانوا يتكلمون العربية في زمانهم بل كانوا ينطقون بلغة التوراة.
ومن جهة أخرى فإن نسبة القولين الأخريين إلى التوبة والهوادة وهي اللين والرقة أمر لا يستند الى دليل يقول علي هاني: أما قوله هم لم يتكلموا بالعربية نقول هم تكلموا باللغات العربية القديمة فالعبرية هي عامية العربية كما حققه محمد محفل المتخصص باللغات القديمة وإن شئت قل هم تكلموا باللغات السامية التي تشترك مع اللغة العربية في الأصول وفي أمور كثيرة فلذلك نجد كلمات عربية كثيرة موجودة عندهم وهذا يعرفه من درس اللغات العربية القديمة التي سميت لغات سامية، واما قوله لا يستند إلى دليل ففيه نظر، يعرف مما استدل به أصحاب الأقوال الأخرى”.
[11] المحكم والمحيط الأعظم / ابن سيده (4/411).
[12] التحرير والتنوير (1/515).
[13] وقال ابن عاشور في موضع آخر:”والّذين هادوا هم اليهود، وهو اسم يرادف معنى الإسرائليين، إلاّ أنّ أصله يختصّ ببني يهوذا منهم، فغلب عليهم من بعد، كما قدّمناه عند قوله تعالى: {إنُّ الّذين آمنوا والّذين هادوا والنّصارى والصابئين} الآية في سورة البقرة (62)”.
[14] قال المصطفوي في التحقيق(11/20) مادة هودوفي قاموس الكتاب المقدس مملكة يهودا تشمل أراضي سبط يهودا وأكثر أراضي بنيامين واستدامت سلطنة سبط يهودا بعد داوود متسلسلا إلى تسعة عشر سلطانا وبقيت بعد سنة 1135 سنة بعد تخريب مملكة إسرائيل ثم رجع منهم من الإسارة وسموا يهودا وبقي هذا الاسم فيهم ”
[15]
• قال المصطفوي في التحقيق(11/20) مادة هود:”قال في قاموس العبري لقوجمان (هود) مجد، جلال، عز، هودِه: شكر جاء في سفر التكوين: (29/35) وحبلت أيضا وولدت ابنا وقالت هذه المرة أحمد الرب لذلك دعت اسمه يهوذا ثم توقفت عن الولادة”.
• وفي قاموس الكتاب المقدس مملكة يهودا تشمل أراضي سبط يهودا وأكثر أراضي بن يامين واستدامت سلطنة سبط يهودا بعد داوود متسلسلا إلى تسعة عشر سلطانا وبقيت بعد سنة 1135 سنة بعد تخريب مملكة إسرائيل ثم رجع منهم من الإسارة وسموا يهودا وبقي هذا الاسم فيهم “.
• قال القاسمي: “وإنما لزمهم هذا الاسم، لأن الإسرائيليين الذين رجعوا من جلاء سبعين سنة، ومن سبي بابل إلى وطنهم القديم، كان أكثرهم من نسل يهوذا بن يعقوب (بالذال المعجمة- فقلبتها العرب دالا مهملة)” محاسن التأويل(1/ 318).
[16] عبارة البيضاوي:”{والذين هادوا} تهودوا، يقال هاد وتهود إذا دخل في اليهودية، ويهود: إما عربي من هاد إذا تاب، سموا بذلك لما تابوا من عبادة العجل، وإما معرب يهوذا وكأنهم سموا باسم أكبر أولاد يعقوب عليه السلام ” (أنوار التنزيل/(1/84)..وقال أبو السعود: “{والذين هَادُواْ} أي تهوَّدوا من هادَ إذا دخَل في اليهودية، ويهودُ إما عربي من هاد إذا تاب سُموا بذلك حين تابوا من عبادة العجل وخُصوا به لما كانت توبتُهم توبةً هائلة، وإما معرَّبُ يهوذا كأنهم سُمّوا باسم أكبرِ أولادِ يعقوبَ عليه الصلاة والسلام ” (إرشاد العقل السليم (1/108). وقال الآلوسي: “{والذين هَادُواْ} أي تهودوا يقال: هاد وتهود إذا دخل في اليهودية، ويهود إما عربي من هاد إذا تاب سموا بذلك لما تابوا من عبادة العجل، ووجه التخصيص كون توبتهم أشق الأعمال كما مر، وإما معرب يهوذا بذال معجمة وألف مقصورة كأنهم سموا بأكبر أولاد يعقوب عليه السلام. روح المعاني (1/279).
[17] في سورة الجمعة
[18] في سورة المائدة
[19] في سورة البقرة
[20] {{قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}
[21] قال أبو السعود في تفسير {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا} [النساء: 160] “لعل ذكرَهم بهذا العنوانِ للإيذان بكمالِ عِظَمِ ظلمهم بتذكير وقوعِه بعد ما هادُوا أي تابوا من عبادة العجلِ مثلَ تلك التوبةِ الهائلةِ المشروطةِ ببخْع النفوسِ إثرَ بيانِ عِظَمِه في حد ذاتِه بالتنوين التفخيميِّ، أي بسبب ظلمٍ عظيمٍ خارجٍ عن حدود الأشباهِ والأشكالِ صادرٍ عنهم. إرشاد العقل السليم”. (2/253)
[22] قال الآلوسي {فَبِظُلْمٍ مّنَ الذين هَادُواْ}:” أي تابوا من عبادة العجل، والتعبير عنهم بهذا العنوان إيذان بكمال عظم ظلمهم بتذكير وقوعه بعد تلك التوبة الهائلة إثر بيان عظمه بالتنوين التفخيمي أي بسبب ظلم عظيم خارج عن حدود “.(روح المعاني (3/189)

[23] محاسن التأويل (3/ 445).
[24] قال السمرقندي:الذين هَادُواْ} يعني: مالوا عن الإسلام والحق إلى اليهودية.
[25] الشنقيطي في أضواء البيان (8/119):”ومعنى هادوا: أي رجعوا بالتوبة إلى الله من عبادة العجل، ومنه قوله تعالى: {إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ} [الأعراف: 156]، وكان رجوعهم عن عبادة العجل بالتوبة النصوح: حيث سلموا أنفسهم للقتل توبة وإنابة إلى الله كما بينه بقوله: {فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ {إلى قوله} فَتَابَ عَلَيْكُمْ} [البقرة: 54]”
[26] اعلم أن هذا تنبيه من الله تعالى لليهود المنكرين لوجوب الرجم، وترغيب لهم في أن يكونوا كمتقدميهم من مسلمي أحبارهم والأنبياء المبعوثين إليهم، {يحكم بها النبيون} أي أنبياءُ بني إسرائيلَ {الذين أَسْلَمُواْ} صفة أجريت على النبيين على سبيل المدح دون التخصيص والتوضيح، كالصفات الجارية على الله سبحانه، فهذه الصفة لا للقصد إلى مدحهم بذلك حقيقة؛ فإن النبوة أعظم من الإسلام قطعاً بل للتنويه بشأن الصفة فإن إبرازَ وصفٍ في معرِض مدح العظماء مُنبئٌ عن عِظَم قدر الوصْفِ لا محالة كما في وصف الأنبياءِ بالصلاحِ ووصفِ الملائكة بالإيمان عليهم السلام، ولذلك قيل: أوصافُ الأشراف أشرافُ الأوصاف، ومعنى {الذين أسلموا} أعطوا قيادهم لربهم سبحانه حتى لم يبق لهم اختيار أصلاً أَسْلَمُوا لله وفوضوا أمورهم كلها اليه بعد ما تحققوا بتوحيده، وأريد بإجرائها:
أ‌) التعريض باليهود، وأنهم بعداء من ملة الإسلام التي هي دين الأنبياء كلهم في القديم والحديث وإلا لاتبعوا أنبياءهم فيه، فكانوا يؤمنون بكل من قام الدليل على نبوته، وأنّ اليهودية بمعزل منها والتنبيه على قبح طريقة هؤلاء اليهود المتأخرين.
ب‌) وأيضا للرد على اليهود والنصارى َبأنهم بُعَدَاءُ مِنْ هَذَا الْوَصْفِ الَّذِي هُوَ الْإِسْلَامُ، وَأَنَّهُ كَانَ دِينَ الْأَنْبِيَاءِ كُلِّهِمْ قَدِيمًا وَحَدِيثًا؛ لأن بعضهم كانوا يقولون: الأنبياء كانوا يهود أو نصارى، فقال تعالى: {يحكم بها النبيون الذين أسلموا} يعني الأنبياء ما كانوا موصوفين باليهودية والنصرانية، بل كانوا مسلمين لله منقادين لتكاليفه فأَنْبِيَاؤهُمْ كَانُوا يَدِينُونَ بِدِينِ الْإِسْلَامِ الَّذِي دَانَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، للذين هادوا: واللام في قوله: {للّذين هادوا} للأجل والاختصاص وليست لتعدية فعل {يحكم} إذ الحكم في الحقيقة لهم وعليهم كأنه قيل: لأجل الذين هادو، فهي للاختصاصُ، فتشمل مَنْ يحكم له ومَنْ يحكم عليه.
[27] لكن عبارة القاسمي: لِلَّذِينَ هادُوا وهم اليهود. و(هاد) بمعنى تاب ورجع إلى الحق.
[28] قال الزمخشري:” {الذين أَسْلَمُواْ} صفة أجريت على النبيين على سبيل المدح، كالصفات الجارية على القديم سبحانه لا للتفصلة والتوضيح، وأريد بإجرائها التعريض باليهود، وأنهم بعداء من ملة الإسلام التي هي دين الأنبياء كلهم في القديم والحديث، وأنّ اليهودية بمعزل منها، وقوله: {الذين أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ} مناد على ذلك”.(الكشاف (1/636).
[29] قال أبو حيان:” وَفِي قَوْلِهِ: لِلَّذِينِ هَادُوا، تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُمْ لَيْسُوا مُسْلِمِينَ، بَلْ هُمْ بُعَدَاءُ مِنْ ذَلِكَ”. البحر المحيط (4/267).
[30] قال النيسابوري: “قال الكشاف: “قوله تعالى: الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا مناد على أن اليهود بمعزل عن الإسلام. قلت: هذا بناء على أن صفة الحاكمين يلزم أن تكون مغايرة لصفة المحكومين. ولقائل أن يقول: بعد تسليم ذلك إنه لم لا يكفي مغايرة العام للخاص؟” (غرائب القرآن ورغائب الفرقان/ نظام الدين الحسن بن محمد النيسابوري (2 / 595).
[31] أبو حيان {من قبل أن تنزل التوراة}:” قال أبو البقاء: مِن متعلقة بحرم، يعني في قوله: إلا ما حرّم إسرائيل على نفسه، ويبعد ذلك، إذْ هو من الاخبار بالواضح، لأنه معلوم أنّ ما حرم إسرائيل على نفسه هو من قبل إنزال التوراة ضرورة لتباعد ما بين وجود إسرائيل وإنزال التوراة، ويظهر أنه متعلق بقوله: كان حلاً لبني إسرائيل، أي من قبل أن تنزل التوراة، وفَصَلَ بالاستثناء إذ هو فصل جائز وذلك على مذهب الكسائي وأبي الحسن: في جواز أن، يعمل ما قبل إلاّ فيما بعدها إذا كان ظرفاً أو مجروراً أو حالاً نحو: ما حبس إلا زيد عندك، وما أوى إلا عمرو إليك، وما جاء إلا زيد ضاحكاً” البحر (/265).
وخالف ابن عاشور في التعلق فقال: “وقوله: {من قبل أن تنزل التوراة} تصريح بمحلّ الحجَّة من الردّ إذ المقصود تنبيههم على ما تناسوه فنُزلوا منزلة الجاهل بكون يعقوب كان قبل موسى، وقال العصام: يتعلّق قوله: {من قبل أن تنزل التوراة} بقوله: {حِلاًّ} لئلاّ يلزم خلوّه عن الفائدة، وهو غير مُجد لأنّه لمّا تأخّر عن الاستثناء من قوله {حلاّ} وتبيّن من الاستثناء أنّ الكلام على زمن يعقوب، صار ذكر القيد لغواً لولا تنزيلهم منزلة الجاهل، وقصد إعلان التّسجيل بخطئهم والتعريض بغباوتهم ” التحرير والتنوير (4/9).
[32] الكشاف (1/ 385).
[33] قال البقاعي:” {حرمنا عليهم طيبات أحلت} أي كان وقع إحلالها، في التوراة {لهم} كالشحوم التي ذكرها الله تعالى في الأنعام” (نظم الدرر(5/500).
[34] قال محمد رشيد رضا:” وتوقف بعضهم فلم يجزم بتعيين ما حرم عليهم، ولم يعرف ما نكره الكتاب. وفي الفصل الحادي عشر من سفر الأوليين (الأحبار) تفصيل ما حرم عليهم في التوراة من حيوانات البر والبحر وهي كثيرة جدا. وكانت قد أحلت لهم بقاعدة كون الأصل في الأشياء الحل بإحلالها لسلفهم كما ورد في قوله تعالى: {كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة}” (المنار (6/50).
[35] نظم الدرر (6 / 145).
[36] المنار (6/ 329).
[37] قال أبو حيان في سورة المائدة: ” وحيث جاء النصارى من غير نسبة إلى أنهم قالوا عن أنفسهم ذلك، فإنما هو من باب العَلَم لم يلحظ فيه المعنى الأول الذي قصدوه من النصر، كما صار اليهود علماً لم يحلظ فيه معنى قوله هُدنا إليك” قال ابن عاشور: ” وقد تنوسي منه هذا المعنى وصار علماً بالغلبة على بني إسرائيل فنودوا به”.

[38] النقطة الأولى كانت في بيان اشتقاق هادوا.
[39] وإليك بعض النقولات التي تعطي بعض الفوائد عن هذا الاسم: قال السمين الحلبي:”اليهودُ مِلَّةٌ معروفةٌ، والياءُ فيه أصليةُ لثبوتِها في التصريفِ، وليست من مادَّةِ هَوَد من قوله: {هُوداً أَوْ نَصَارَى} [البقرة: 111] وقد تقدَّم أن الفراء يَدَّعي أنَّ ” هوداً ” أصلُه: يَهود فَحُذِفت ياؤُه، وتقدَّم أيضاً عند قولِه: ” والذين هادوا ” أنَّ اليهودَ نسبةُ ليهوذا ابن يعقوب. وقال الشلوبين: ” يَهُود فيها وجهان، أحدُهما: أن تكونَ جمعَ يهودي فتكونَ نكرةً مصروفةً. والثاني: أَنْ تكونَ عَلَماً لهذه القبيلةِ فتكونَ ممنوعةُ من الصرف. انتهى، وعلى الأولِ دَخَلَتْ الألفُ واللامُ، وعلى الثاني قولُه:أولئك أَوْلَى من يهودَ بمِدْحَةٍ *** إذا أنتَ يوماً قُلْتَها لم تُؤَنَّبِ وقال:فَرَّتْ يهودُ وأَسْلَمَتْ جيرانُها ***….. ولو قيل بأنَّ ” يهود ” منقولٌ من الفعلِ المضارع نحو: يَزيد ويشكر لكان قولاً حسناً. ويؤيِّدُه قولُهم: سُمُّوا يهوداً لاشتقاقِهم من هاد يَهُود إذا تَحَرَّك”. الدر المصون (2 /113). وقال السعدي:”الوجه الثاني: أن اليهود ينتسبون إلى أحكام التوراة، والنصارى ينتسبون إلى أحكام الإنجيل، والتوراة والإنجيل ما أنزلا إلا من بعد إبراهيم، فكيف ينسبون إبراهيم إليهم وهو قبلهم متقدم عليهم، فهل هذا يعقل؟! فلهذا قال {أفلا تعقلون} أي: فلو عقلتم ما تقولون لم تقولوا ذلك “. (تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان 134)، وقال ابن عاشور:”عطف على جملة {وإذا جاؤوكم قالوا آمنّا} [المائدة: 61]، فإنّه لمّا كان أولئك من اليهود والمنافقين انتقل إلى سوء معتقدهم وخبث طويتهم ليظهر فرط التنافي بين معتقدهم ومعتقد أهل الإسلام، وهذا قول اليهود الصرحاء غير المنافقين فلذلك أسند إلى اسم (اليهود) “.(التحرير والتنوير (6/ 248) وقال دروزة:” ولقد تكرر ورود هذا الاسم كثيرا في السور المدنية. وجاء في بعضها مختزلا بصيغة (هود) وجاء في بعضها منسوباً (يهوديا) وورد في بعض الأحاديث بدون حرف تعريف وغير مصروف كأنه اسم أعجمي حيث روى الترمذي بسند صحيح عن زيد بن ثابت قال: «أمرني رسول الله أن أتعلّم له كتاب يهود قال: والله ما آمن يهود على كتاب. قال فما مرّ بي شهر حتى تعلمته له. فلما تعلمته كان إذا كتب إلى يهود كتبت إليهم، وإذا كتبوا إليه قرأت له كتابهم » ومن المفسرين من يرجع تسمية (اليهود) و(يهود) و(هود) إلى ذلك الجذر العربي، غير أن الأكثر على أنها تعريب يهوذا اسم أكبر أبناء يعقوب. وأبو السبط الذي منه داود وسليمان وعيسى عليهم السلام. ولقد سميت المملكة التي قامت في بيت المقدس بعد سليمان باسم مملكة يهوذا؛ لأن سبط يهوذا كان يقيم في منطقة بيت المقدس وكان أكبر وأشهر أسباط بني إسرائيل ونحن نرجّح ما عليه الأكثر وعدم صرفه في الحديث قد يكون داعما لهذا الترجيح. ونرجّح أن تسمية (اليهود) و(يهود) و(هود) للذين كانوا يدينون بالدين الموسوي سابقة للبعثة، وأصبحت بذلك جزءاً من اللغة العربية؛ لأن القرآن نزل بلسان عربي مبين. وقد غدت كذلك بعد البعثة وصار منها اشتقاق فصار يقال: تهوّد لمن صار يهوديا، ومن ذلك الحديث الذي رواه البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه » يقول علي هاني: قد تقدم نقاش أنه مشتق من يهوذا ” التفسير الحديث (6/ 21) قال الواحدي في البسيط: “فأما اليهود، فقال الليث: سُمّوا يهودًا اشتقاقًا من هادوا، أي تابو امن عبادة العجل فعلى هذا القول لزمهم الاسم في ذلك الوقت. وقال غيره: سموا بذلك لأنهم مالوا عن دين الإسلام وعن دين موسى، وعلى هذا إنما سموا يهودا بعد أنبيائهم. وقال ابن الأعرابي: يقال: هاد إذا رجع من خير إلى شر أو من شر إلى خير سمي اليهود بذلك لتخليطهم، وكثرة انتقالهم من مذاهبهم.وقيل: اليهود معرب من يهوذا بن يعقوب، عُرِّب يهوذا إلى يهود ثم نسب الواحد إليه فقيل: يهودي، ثم حذف الياء في الجمع فقيل يهود، وكل جمع منسوب إلى جنس فهو بإسقاط ياء النسبة، كقولهم: زنجي وزنج ورومي وروم” البسيط (2/ 608).
[40] قال السمين الحلبي:” فإنَّ هوداً جمعُ هائد على أظهر القولين، نحو: بازِل وبُزْل وعائِد وعُود وحائل وحُول وبائِر وبُور” الدر المصون (2 / 69)، قال ابن عاشور:”والهود جمع هائد أي متبع اليهودية (وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) فقوله تعالى {وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا} بيان لعقيدة الفريقين في التفرق في الدين والضمير في (وقالوا) لأهل الكتاب و” أو ” للتوزيع أو التنويع، أي إن اليهود يدعون إلى اليهودية التي هم عليها ويحصرون الهداية فيها والنصارى يدعون إلى النصرانية التي هم عليها ويحصرون الهداية فيها والحنيف في اللغة: المائل. وإنما أطلق على إبراهيم. لأن الناس في عصره كانوا على طريقة واحدة وهي الكفر، فخالفهم كلهم وتنكب طريقتهم ولا يسمى المائل حنيفا إلا إذا كان الميل عن الجادة المعبدة. وفي الأساس: من مال عن كل دين أعوج. ويطلق على المستقيم، وبه فسر الكلمة بعضهم وأورد له شاهدا من اللغة وهو أقرب. ومن التأويلات البعيدة. ما روي من تفسير الحنيف بالحاج ووجه القول به أنه مما حفظ من دين إبراهيم ” التحرير والتنوير (1/ 673).
قال رشيد رضا:”وأنتم تعلمون أيضا أن اسمي اليهودية والنصرانية حدثا بعد هؤلاء، بل حدث اسم اليهودية بعد موسى واسم النصرانية بعد عيسى كما حدث لليهود تقاليد كثيرة صار مجموعها مميزا لهم. وأما النصارى فجميع تقاليدهم الخاصة بهم المميزة للنصرانية حادثة، فإن عيسى عليه السلام كان عدو التقاليد، ولهذا كان النصارى على كثرة ما أحدثوا أقرب إلى الإسلام، لأنهم لم ينسوا جميعا كيف زلزل روح الله تقاليد اليهود الظاهرة ما كان منها في التوراة وما لم يكن. ولكن الذين ادعوا اتباعه زادوا عليهم من بعده في ابتداع التقاليد والرسوم “.المنار (1/ 402).