إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين (5) بحث مفصل بقلم الشيخ علي هاني

يقدم لنا فضيلة الشيخ بحثاً في المنظور القرآني لعلاقة الإسلام والمسلمين باليهود والنصارى، وذلك من خلال دراسة الآيات الواردة بخصوصهم، وتركيز البحث في الدرجة الأولى على آية {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:62] وعلى ما يشبهها في المائدة والحج، ملخصاً وشارحاً ومستدلاً بأهم ما جاء في كتب التفسير في هذا الموضوع.

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

المسألة الخامسة: حاصل الأقوال في معنى {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ}:

بعدما ذكرنا معنى كل من الذين آمنوا، والذين هادوا، والنصارى على حدة نستوفي هنا ذكر الأقوال في معنى الجملة، وذلك لأنه حصل من تركيبها مع بعضها عدة أقوال فنريد أن نستوفيها مع ذكر أقوال وفوائد بلاغية لم نذكرها قبل مع نقاش بعضها:

القول الأول
قالوا المراد بالذين آمنوا الذين آمنوا بالله الواحد، والرسول محمد صلى الله عليه وسلم من هذ الأُمة وصدقوا بكل ما جاء نبينا محمد وثبتوا على إيمانهم، وآمنوا باليوم الآخر على حسب ما ذكره القرآن، فيكون المعنى إما إن الذين أمنوا أحدثوا الإيمان،إذا ثبتوا وداموا واستمروا عليه في المستقبل أو المعنى إن الذين آمنوا إذا حققوا شرط الإيمان بالإيمان بالله الواحد واليوم الآخر وحققوا بقية شروط الإيمان وعملوا صالحا، هذا في حق من آمن، وأما في حق اليهود والنصارى والصابئين فالمراد بهم من كان على الباطل من اليهود والنصارى والصابئين على الدين المحرف، فالمراد من أحدث الإيمان ودخل في الإسلام بأن شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وآمن بجميع أركان الإيمان كما فصل.
اختار هذا القول: الطبري والطوسي والقرطبي والسعدي وسيد قطب وابن عاشور وأبو زهرة وسيد طنطاوي والنسفي والصابوني ونسبه الإمام الرازي للمتكلمين، ويكون سر الابتداء بذكر المؤمنين:
أ‌) الاهتمام بشأنهم ليكونوا في مقدمة ذكر الفاضلين فلا يذكر أهلُ الخير إلا ويذكرون معهم، ففيه إدماج للتنويه بالمسلمين في هذه المناسبة؛لأنّ المسلمين هم المثال الصّالح في كمال الإيمان والعمل الصالح، فكان لا بد من ذكرهم عند ذكر الإيمان.
ب‌) و الإِشعار بأن دين الإِسلام دين قائم على أساس أن الفوز برضا الله لا ينال إلا بالإِيمان الصادق والعمل الصالح، ولا فضل لأمة على أمة إلا بذلك فحال هذه الملة الإسلامية، وحال من قبلها من سائر الملل، يرجع إلى شيء واحد، وهو: أنّ من آمن منهم بالله واليوم الآخر وعمل صالحا، استحقّ ما ذكره الله من الأجر.
ت‌) والتحرّز عن الغرور الذي قد يتسرب لبعض الذين آمنوا، بأنهم مؤمنون فيقولون: نحن مؤمنون من أمة النبي صلى الله عليه وسلم فهذا يكفي ولا يحتاج للعمل والله غفور رحيم.

القول الثاني: قالوا المراد بالذين آمنوا المنافقون في أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فهم قوم آمنوا بألسنتهم ولم يؤمنوا بقلوبهم، فالمراد بالإيمان إنّما هو على طريق المجاز والتسّمية دون الحكم والحقيقة، فكأنه سبحانه قال: إن المنافقين والذين هادوا والنصارى والصابئين، فقرنهم باليهود لنفاقهم، ثم بين حكم من آمن بالله واليوم الآخر من جميعهم، فقال سبحانه: {من آمن} أي من حقق وأخلص من المنافقين، وأما الذين هادوا والنصارى والصابئين فالمراد بهم من كان على الدين الباطل المحرف فدخل في الإيمان بأن شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وآمن باليوم الآخر كما ورد في القرآن الكريم وحقق شروط الإيمان فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
والتعبيرُ عن المنافقين بذلك دون عُنوانِ النفاقِ للتصريح بأن تلك المرتبةَ وهي الإيمان في الظاهر، وإن عُبِّر عنها بالإيمان وأدخلهم الناس في مسمى الذين آمنوا لا تُجديهم نفعاً أصلاً ولا تُنْقِذُهم من ورطة الكفر قطعاً، قالوا ويؤيده أن المنافقين ذكروا في أول السورة[1]
وهذا القول اختاره: سفيان الثوري والزمخشري والبقاعي وابو السعود والآلوسي والطباطبائي والأعقم، ورده ابن عاشور والخليلي مفتي سلطنة عمان[2].
واختاره في سورة المائدة كثير من العلماء منهم: الثوري والزجاج وأبو السعود والسمعاني والنسفي والخازن والطبرسي والنيسابوري والشوكاني واطفيش وحسنين مخلوف والشعراوي والطوسي.

القول الثالث: المراد بالذين آمنوا عام للمخلصين والمنافقين.
اختاره الإمام البيضاوي واطفيش في هميان الزاد، والمظهري، وعبر عنه أبو السعود بقيل.
قالوا المرادُ بالذين آمنوا المتديّنون بدين الإسلام المُخلِصون منهم والمنافقون، أي: الذين قالوا لا إله إلا الله محمد رسول الله، وهذا على عمومه من غير اعتبار موافقة القلب، ولا عدمها ولا الوفاء بالعمل الصالح ولا عدمه، وإنما اشترط موافقة القلب والعمل الصالح بعد ذلك بقوله: {من آمن… إلخ}.، فالمراد بـ{إن الذين آمنوا} الذين قالوا لا إله إلا الله محمد رسول الله صادقا أو منافقين والمراد بـ(مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا) من اتصف منهم بالإيمان الخالصِ بالمبدأ والمَعاد على الإطلاق، سواءٌ كان ذلك بطريق الثبات والدوام عليه كإيمان المُخلصين أو بطريق إحداثه وإنشائه كإيمان مَنْ عداهم من المنافقين والنصارى والصابئين والذين هادوا.
وفائدةُ التعميم بذكر المؤمنين الصادقين المخلصين مزيدُ ترغيبِ الباقين في الإيمان، ببيان أن تأخرهم في الاتصاف بالإيمان غيرُ مُخلَ بكونهم مستحقين للأجر وعدم الخوف والحزن،فهم إذا آمنوا ينالون ما يناله المؤمنون المخلصون كما قال تعالى {فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما}، ثم القائلون بهذا القول: بعضهم ـ كاطفيشـ قال المراد بالذين هادوا والنصارى والصابئين بمن كان على الدين الباطل ثم آمنوا إيمانا صحيحا بالنبي صلى الله عليه وسلم، وبعضهم ـ كالبيضاوي ـ قال المراد بـ(هادوا) بمن كان على دين سيدنا موسى الصحيح قبل مجيء سيدنا عيسى والمراد بالنصارى من كان على دين عيسى الصحيح قبل مجيء سيدنا محمد، والصابئة كذلك قبل أن ينسخ دينهم.

القول الرابع:
قالوا المراد بالذين آمنوا من آمن من هذه الآمة، والمراد بالذين هادوا والنصارى: الذين آمنوا قبل مبعث سيدنا محمد قبل نسخ شريعتهم مع البراءة عن أباطيل اليهود والنصارى مثل ورقة ابن نوفل وسلمان الفارسي وبحيرى، فـ{الذين هادوا} الذين كانوا على دين سيدنا موسى عليه الصلاة والسلام، ولم يبدلوا ولم يكفروا بسيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام ممن لم يلحق سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم، ومات وهو مؤمن؛لأن حقيقة الإيمان تكون بالوفاة، {والنصارى} ممن آمن بعيسى وعملوا بشريعته ممن لم يلحق سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم، {والصابئين} كذلك يعني في زمن استقامة أمرهم على القول به، قالوا والآية نزلت في أصحاب سلمان الفارسي، فقد صحب عباداً من أتباع سيدنا عيسى فقال له آخرهم إن زمان نبي قد أظل، فإن لحقته فأمن به، ورأى منهم عبادة عظيمة، فلما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأسلم ذكر له خبرهم، وسأله عنهم، فنزلت هذه الآية.
مجاهد والسدي وسيد قطب والسعدي وابن تيمية والراغب في تفسيره وظاهر ابن كثير ورده أبو السعود.
وقد أورد الطبري القصة بسنده عن السدي ومجاهد فقال: عن مجاهد قوله: {إنّ الّذِينَ آمَنُوا وَالّذِينَ هادُوا}الآية، قال سلمان الفارسي للنبي صلى الله عليه وسلم عن أولئك النصارى وما رأى من أعمالهم، قال: لم يموتوا على الإسلام. قال سلمان: فأظلمت عليّ الأرض، وذكر اجتهادهم، فنزلت هذه الآية، فدعا سلمان فقال: «نزلت هذه الآية في أصحابك »، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ مَاتَ على دِينِ عِيسَى ومات على الإسْلامِ قَبْلَ أنْ يَسْمَعَ بِي فَهُوَ على خَيْرٍ وَمَنْ سَمِعَ بِي اليَوْمَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِي فَقَدْ هَلَكَ»[3].

نقاش القول الرابع:
يقول علي هاني: هذه الروايات رويت بأسناد ضعيفة كما سبق، ولو سلمنا صحتها أو صحة بعضها من حيث السند لكن من حيث المتن لا تصلح تفسيرا للآية؛ لأنها لا تناسب السياق؛ لأن سياق سورة البقرة دعوة لليهود إلى الإيمان والدخول في الإسلام وفتح باب التوبة لهم ولمن هو على شاكلتهم كالنصارى والصابئن كما ذكر في علاقة الآية بما قبلها، ولم تسق الآية لتصحيح ما كانوا عليه قبل مجيء النبي صلى الله عليه وسلم.
فإن قيل قد ذكر بعضُ العلماء أن المناسبة هي أنه لما ذكر القرآن بني إسرائيل وذمهم، وذكر معاصيهم وقبائحهم، ربما وقع في بعض النفوس أنهم كلهم يشملهم الذم، فأراد الباري تعالى أن يبين من لم يلحقه الذم منهم بوصفه، فأزال هذا الوهم عن بني الذين هادوا والنصارى والصابئين والذين آمنوا، فذكر تعالى حكما عاما يشمل الطوائف كلها، ليتضح الحق، ويزول التوهم والإشكال” فهذه مناسبة معتبرة؟
نقول هذا الربط ليس هو الأظهر في السياق كما تقدم شرحه، ولئن سلمناه فهو لا يأتي في سورة المائدة وسورة الحج كما سيتضح عند تفسيرهما، ولئن سلمناه فالآية لم تنزل أصالة في النصارى فهي وإن كانت عامة فالأصل ـ على حسب ما يشير إليه السياق ـ أنها نزلت في اليهود، لأن الحديث من أوله إلى آخره يتحدث عن اليهود وليس عن النصارى الذين درس عندهم سيدنا سلمان الفارسيرضي الله عنه، فالظاهر أن القصة ليست سببا للنزول، لكن قد يقال القصة التي ذكرت ليست سببا لنزول الآية، ولكنها مما انطبقت عليه الآية، على فرض أن الذين درس عليهم سيدنا سلمان من أتباع سيدينا عيسى الذين كانوا على التوحيد، وليس عن النصارى القائلين بالتثليث، وهذا هو مراد القائلين بهذا القول.
ثم في هذا القول إشكالية وهي أن اسم النصارى لم يطلق قط في القرآن إلا المشركين المثلثين كما سيأتي تفصيله، وأيضا إشكالية أخرى وهي أن إثبات أن الصابئة كانوا على التوحيد في فترة من الفترات لم يقل به إلا قليل من العلماء ويبدو أن القائلين به قالوا بوجود جماعة من الموحدين فهماً من الآية لا من إثباتات تاريخية وثيقة كما بينه الآلوسي، وكذلك إن قلنا: إن الذين آمنوا تفسر بالمنافقين أو شاملة للمنافقين ففيه إشكال أن المنافقين لم يكونوا موحدين ولذلك كان نظر أبي السعود [4]ـ كعادته ـ ثاقبا حين قال رحمه الله تعالى:” وأما ما قيل في تفسيره من كان منهم في دينه قبل أن ينسخ مصدِّقاً بقلبه بالمبدأ والمعاد عاملاً بمقتضى شرعِه فمما لا سبيل إليه أصلاً لأن مقتضى المقام هو الترغيبُ في دين الإسلام، وأما بيانُ حال من مضى على دين آخرَ قبل انتساخِه فلا ملابسةَ له بالمقام قطعاً بل ربما يُخِلُّ بمقتضاه من حيث دَلالتُه على حقِّيته في زمانه في الجملة، على أن المنافقين والصابئين لا يتسنى في حقهم ما ذكر، أما المنافقون فإن كانوا من أهل الشرك فالأمرُ بيِّن، وإن كانوا من أهل الكتاب فمن مضى منهم قبل النسخِ ليسوا بمنافقين، وأما الصابئون فليس لهم دينٌ يجوز رعايتُه في وقت من الأوقات، ولو سلم أنه كان لهم دينٌ سماوي ثم خرجوا عنه فمن مضى من أهل ذلك الدين قبل خروجِهم منه فليسوا من الصابئين، فكيف يُمكِنُ إرجاعُ الضمير الرابطِ بين اسمِ إن وخبرِها إليهم أو إلى المنافقين، وارتكابُ إرجاعِه إلى مجموع الطوائفِ من حيث هو مجموعٌ لا إلى كل واحدة منها قصداً إلى درج الفريقِ المذكور فيه ضرورةَ أن من كان من أهل الكتاب عاملاً بمقتضى شرعِه قبل نسخِه من مجموع الطوائفِ بحُكم اشتمالِه على اليهود والنصارى وإن لم يكن من المنافقين والصابئين مما يجبُ تنزيهُ ساحةِ التنزيل عن أمثاله، على أن المخلصين مع اندراجهم في حيز اسم إنّ ليس لهم في حيز خبرها عينٌ ولا أثر فتأملْ وكن على الحق المبين “.
وكذلك الآلوسي ناقش هذا القول قائلا: ” إلا أنه يرد عليه أنه مستلزم أن يكون للصائبين دين، وقد ذكر غير واحد أنه ليس لهم دين تجوز رعايته في وقت من الأوقات ففي «الملل والنحل » أن الصبوة في مقابلة الحنيفية، ولميل هؤلاء عن سنن الحق وزيغهم عن نهج الأنبياء قيل لهم: الصابئة، ولو سلم أنه كان لهم دين سماوي ثم خرجوا عنه، فمن مضى من أهل ذلك الدين قبل خروجهم منه ليسوا من الصابئين، فكيف يمكن إرجاع الضمير الرابط بين اسم (إنَّ) وخبرها إليهم على القول المشهور، وارتكاب إرجاعه إلى المجموع من حيث هو مجموع قصداً إلى إدراج الفريق المذكور فيهم ضرورة أن من كان من أهل الكتاب عاملاً بمقتضى شرعه قبل نسخه من مجموع أولئك الطوائف بحكم اشتماله على اليهود والنصارى وإن لم يكن من الصابئين مما يجب تنزيه ساحة التنزيل عنه؟ على أن فيه بعداً لا يخفى فتدبر”[5]

القول الخامس: الجمع بين القول الأول والرابع
فتشمل الآية من كان نصرانيا أو يهوديا أو من الصابئة ثم تاب ودخل في الإسلام بلفظها ونصها، وتشمل من كان من يهوديا أو نصرانيا أو من الصابئة قبل التحريف والتبديل عن طريق الإشارة، فعلى هذا يكون المعنى: إن الذين آمنوا من يؤمن بالله منهم فله أجره، ويكون معنى الكلام على الاستقبال لوقوع الفعل الماضي في حيز الشرط أي من يؤمن منهم بالله ويعمل صالحاً فله أجره، ويكون المقصود منه فتح باب الإنابة لهم بعد أن قُرِّعوا بالقوارع السالفة، وفي ذلك أيضاً إشارة إلى أن المؤمنين الخالصين من اليهود وغيرهم ممن سلف مثل النقباء الذين كانوا في المناجاة مع موسى ومثل يوشع بن نون وكالب، لهم هذا الحكم وهو أن لهم أجراً عند ربهم؛لأن إناطة الجزاء بالشرط المشتق مؤذن بالتعليل بل السابقون بفعل ذلك قبل التقييد بهذا الشرط أولى بالحكم فقد قضت الآية حق الفريقين” قالوا لفظ الآية يحتملهما،و اختاره ابن عاشور[6].
يقول علي هاني: هذه أشهر الأقوال، وهناك أقوال ظاهرة الضعف قل ناصروها، وضعفت أدلتها أوردها في الهامش[7].

ثم أقول يمكن إرجاع حاصل الأقوال السابقة إلى قولين أساسيين:
القول الأول:
أن الآية تتكلم عن الذين دخلوا في الإسلام وآمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم من المؤمنين الصادقين أو المنافقين أوهما معا، وكذلك اليهود والنصارى والصابئين بأن آمنوا بجميع أركان الإيمان على الوجه الذي أتى في القرآن الكريم كما سبق تفصيله.

القول الثاني:
أن الآية تتكلم عن نجاة الذين كانوا على التوحيد من جميع الفرق بشرط أن يكونوا آتين بشروط الإيمان فيما سبق وآمنوا بجميع الرسل ولم يكونوا يعملون بشريعة منسوخة.
ولم يقل أحد من العلماء قبل قررننا الذي نحن فيه أن اليهود على كفرياتهم، والنصارى القائلين بالتثليث والصابئة عبدة الكواكب هم ناجون لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، بالرغم من بقائهم على أديانهم المحرفة.

[1]الفخر الرازي أحدها: وثانيها: أنه تعالى ذكر في أول هذه السورة طريقة المنافقين ثم طريقة اليهود، فالمراد من قوله تعالى: {إن الذين آمنوا} هم الذين يؤمنون باللسان دون القلب وهم المنافقون، فذكر المنافقين ثم اليهود والنصارى والصابئين فكأنه تعالى قال: هؤلاء المبطلون كل من أتى منهم بالإيمان الحقيقي صار من المؤمنين عند الله وهو قول سفيان الثوري.
[2] قال الخليلي مفتي سلطنة عمان: “وهو قول مرفوض إذ لم يُعهد وصف المنافقين في القرآن بالإيمان بل نفى الله عنهم الإيمان بقوله: {وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 8]، وقوله: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمان فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14]، وقوله: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1]. ـ ـ ـ وتخصيص التقييد ببعض المذكورين دون بعض دعوى لا دليل عليها.
[3] وردت عدة روايات في هذا المعنى وقد جمعها الإمام ابن حجر العسقلاني رحمه الله تعالى، في كتاب” العجاب في بيان الأسباب” وحكم على بعضها بالصحة حيث قال:
أخرج الواحدي من تفسير أبي الشيخ عبد الله بن محمد بن حيان الحافظ الأصبهاني بسند له صحيح إلى ابن جريج عن عبد الله بن كثير عن مجاهد قال:” لما قص سلمان الفارسي على رسول الله صلى الله عليه وسلم قصة أصحابه الذين كان يتعبد معهم قال: “هم في النار” قال سلمان: فأظلمتْ عليَّ الأرض فنزلت، قال: فكأنما كُشف عني جبل ” لكن محقق كتاب العجاب عبد الحكيم محمد الأنيس كتب بهامشه: فيه انقطاع؛ مجاهد لم يسمع من سلمان، انظر “جامع التحصيل في أحكام المراسيل” للعلائي “ص336-337”.
وقال الحافظ ابن حجر رحمه: وأخرج الواحدي أيضا من “تفسير إسحاق بن راهويه” بسنده القوي إلى السدي قال:” نزلت في أصحاب سلمان لما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل يخبره عن عبادتهم واجتهادهم وقال يا رسول الله كانوا يصلون ويصومون ويؤمنون بك ويشهدون أنك تبعث نبيا، فلما فرغ سلمان من ثنائه عليهم قال: “يا سلمان هم من أهل النار”، فأنزل الله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} الآية”.
لكن محقق كتاب العجاب كتب في هامشه:” في السند أسباط بن نصر وهو مختلف فيه: وثقه ابن معين وابن حبان، ووصفه بالصدق البخاري في “الأوسط”، وتوقف فيه أحمد وضعفه النسائي وأبو نعيم والساجي، ومرة قال ابن معين: ليس بشيء، وقال ابن حجر” صدوق كثير الخطأ يغرب، وقال في التهذيب”: علق له البخاري حديثًا في الاستسقاء، وقد وصله الإمام أحمد والبيهقي في “السنن الكبرى” [3/ 352] وهو حديث منكر أوضحته في التغليق” [في الأصل: بالعين المهملة وهو خطأ].انظر “التاريخ الكبير” “2/ 53″ و”الجرح والتعديل” “1/ 322″ و”تهذيب الكمال” “2/ 357″ و”التهذيب” “1/ 211″ و”التقريب” “ص98 “321” و”تغليق” “2/ 390” وزاد أن البيهقي في “الدلائل” ولم يوضح أنه منكر سوى أنه ساق السند وقد وثقه أحمد شاكر انظر تعليقه على مسند أحمد في الحديث رقم “1286” اهـ.
يقول علي هاني: وقد جمع كتاب” الاستيعاب في بيان الاسباب” لسليم الهلال وموسى نصر جميع الروايات الورادة في القصة وحكما على الروايات بالضعف وإليك نص كلامهما:
الرواية الأولى: عن مجاهد: عن سلمان -رضي الله عنه-؛ قال: سألت النبي – صلى الله عليه وسلم – عن أهل دين كنت معهم، فذكرت من صلاتهم وعبادتهم؛ فنزلت: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى…}. [ضعيف] أخرجه ابن أبي عمر العدني في “مسنده”؛ كما في “الدر المنثور” (1/ 179) -ومن طريقه ابن أبي حاتم في “تفسيره” (1/ 198 رقم 638 – البقرة) -: ثنا سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عنه به.قلنا: وسنده ضعيف؛ للانقطاع بين مجاهد وسلمان؛ فهو لم يسمع منه؛ كما في “جامع التحصيل” (ص 336، 337)، وقال الحافظ في “العجاب” (1/ 256): “وأخرج ابن أبي حاتم بسند صحيح عن مجاهد”، ولم ينبه على الانقطاع.
الرواية الثانية: عن مجاهد: “لما قص سلمان على النبي – صلى الله عليه وسلم – قصة أصحاب الدير؛ قال: “هم في النار”، قال سلمان: فأظلمت عليّ الأرض؛ فنزلت: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا} إلى قوله: {يَحْزَنُونَ} قال: فكأنما كشف عني جبل. [ضعيف] أخرجه أبو الشيخ في “تفسيره”؛ كما في “العجاب” (1/ 255) -ومن طريقه الواحدي في “أسباب النزول” (ص 14) – من طريق يحيى بن زكريا ابن أبي زائدة عن ابن جريج عن عبد الله بن كثير عن مجاهد به.قلنا: وهذا سند ضعيف؛ فيه علتان: الأولى: الإرسال.الثانية: عنعنة ابن جريج.قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله- في “العجاب” (1/ 255): “أخرج الواحدي من تفسير أبي الشيخ عبد الله بن محمد بن حيان الحافظ الأصبهاني بسند له صحيح إلى ابن جريج”.قلنا: ولم يتكلم على العلتين اللتين ذكرناهما.وأخرجه ابن جرير في “جامع البيان” (1/ 256) من طريق الحسين بن داود: ثني حجاج عن ابن جريج عن مجاهد به.وهذا سند ضعيف؛ سنيد؛ ضعيف؛ كما في “التقريب”، وفيه تدليس ابن جريج، وأسقط من سنده عبد الله بن كثير، أضف إلى هذا أنه مرسل.
الرواية الثالثة: عن السدي؛ قال: نزلت هذه الآية في أصحاب سلمان الفارسي، فبينا هو يحدث النبي – صلى الله عليه وسلم -؛ إذ ذكر أصحابه؛ فأخبره خبرهم فقال: كانوا يصومون، ويصلون، ويؤمنون بك، ويشهدون أنك ستبعث نبياً، فلما فرغ سلمان من ثنائه عليهم؛ قال له نبي الله – صلى الله عليه وسلم -: “يا سلمان! هم من أهل النار”؛ فاشتد ذلك على سلمان؛ فأنزل الله -تعالى- هذه الآية: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}. [ضعيف جدًا] أخرجه إسحاق بن راهويه في “تفسيره”؛ كما في “العجاب” (1/ 256) -ومن طريقه الواحدي في “أسباب النزول” (ص 15) -، وابن أبي حاتم في “التفسير” (1/ 198، 199 رقم 640 – البقرة)، وابن جرير الطبري في “جامع البيان” = = (1/ 254 – 256) من طريق عمرو بن حماد القناد ثنا أسباط بن نصر عن السدي.
قلنا: وسنده ضعيف جداً؛ فيه علتان:الأولى: الإعضال.الثانية: أسباط بن نصر؛ ضعفه النسائي وأحمد وأبو نعيم وابن معين والساجي.قال الحافظ ابن حجر في “العجاب” (1/ 256، 257): “وأخرج الواحدي -أيضاً- من تفسير إسحاق بن راهويه بسنده القوي إلى السدي”.قلنا: فيه نظر؛ كما تقدم.
الرواية الرابعة: عن عبد الله بن عباس وعبد الله بن مسعود: الآية في أصحاب سلمان نزلت، وكان من أهل جند سابور، وكان من أشرافهم، وكان ابنُ الملك صديقاً له ومواخياً، وكانا يركبان إلى الصيد، فبينما هما في الصيد إذ رفع لهما بيتٌ من عباء، فأتياه، فإذا هما برجل بين يديه مصحف يقرأ فيه، ويبكي، فسألاه: ما هذا؟ قال: الذي يريد أن يعلم هذا لا يقف موقفكما، فانزلا. فنزلا إليه، فقال: هذا كتاب جاء من عند الله أمر فيه بطاعته، ونهى عن معصيته، فيه: أن لا تزني ولا تسرق، ولا تأخذ أموال الناس بالباطل، فقصَّ عليهما ما فيه، وهو الإنجيل. فتابعاه فأسلما، وقال: إن ذبيحة قومكما عليكما حرام. ولم يزل معهما يتعلّمان منه حتى كان عيد للملك فجعل طعاماً، ثم جمع الناس والأشراف، وأرسل إلى ابن الملك، فدعاه ليأكل. فأبى، وقال: إني عنك مشغول. فلما أكثر عليه، أخبر أنه لا يأكل من طعامهم. فقال له الملك: من أخبرك بهذا؟ فذكر له الراهبَ. فطلب الراهب وسأله، فقال: صدق ابنك. فقال: لولا أن الدم عظيم لقتلتُك. اخرج من أرضنا، فأجّله أجلاً. فقمنا نبكي عليه، فقال: إن كنتما صادقين، فأنا في بيْعة في المَوْصِل مع ستين رجلاً نعبد الله، فائتونا. فخرج، وبقي سلمان وابن الملك. فجعل سلمان يقول لابن الملك: انطلق بنا، وابن الملك يقول: نعم. فجعل يبيعُ متاعه يريد الجهاز، وأبطأ، فخرج سلمان حتى أتاهم، فنزل على صاحبه وهو ربُّ البيعة.فكان سلمان معه يجتهد في العبادة، فقال له الشيخ: إنك غلام حدث، وأنا خائف أن تفتر، فارفق بنفسك، قال: خل عني. ثم إن صاحب البيعة دعاه، فقال: تعلم أن هذه البيعة لي، ولو شئت أن أخرج هؤلاء، لفعلت، ولكني رجل أضعف عن عبادة هؤلاء، وأنا أريد أن أتحول إلى بيعة أهلها أهون عبادة، فإن شئت أن تقيم ها هنا، فأقم. فأقام بها يتعبد معهم، ثم إن شيخه أراد أن يأتي بيت المقدس، فدعا سلمان، وأعلمه، فانطلق معه، فمروا بمقعد على الطريق، فنادى: يا سيد الرهبان، ارحمني. فلم يكلمه حتى أتى ببيت المقدس، فقال لسلمان: اخرج فاطلب العلم، فإنه يحضر المسجد علماء أهل الأرض. فخرج سلمان يسمع منهم، فخرج يوماً حزيناً، فقال له الشيخ: مَا لَكَ؟ قال: أرى الخير كله قد ذهب به من كان قبلنا من الأنبياء وأتباعهم. قال: أجل، لا تحزن فإنه قد بقي نبي ليس من نبي بأفضل تبعاً منه، وهذا زمانه، ولا أراني أُدركه، ولعلك تدركه. وهو يخرج في أرض العرب، فإن أدركته فآمِن به. قال: فأخبرني عن علامته. قال: مختوم في ظهره بخاتم النبوة، يأكل الهديّة، ولا يأكل الصدقة. ثم رجعا حتى بلغا مكان المقعد. فناداهما: يا سيد الرهبان، ارحمني يرحمك الله؛ فعطف إليه حماره، فأخذ بيده، ثم رفعه، فضرب به الأرض ودعا له، فقال: قم بإذن الله، فقام صحيحاً يشتد، وسار الرهبان، فتغيب عن سلمان وتطلّبه سلمان. فلقيه رجلان من كلب، فقال: هل رأيتما الراهب؟ فأناخ أحدهما راحلته وقال: نعم، راعي الصِّرمة هذا فانطلق به إلى المدينة. قال سلمان: فأصابني من الحزن شيء لم يصبني قط. فاشترته امرأة من جهينة، فكان يرعى عليها هو وغلام لها يتراوحان الغنم، وكان سلمان يجمع الدراهم ينتظر خروج محمد – صلى الله عليه وسلم -. فبينما هو يرعى إذ أتاه صاحبه، فقال: أشعرت أنه قدم المدينة رجل يزعم أنه نبي؟
فقال: أقِم في الغنم حتى آتي، فهبط إلى المدينة، فنظر إلى النبي – صلى الله عليه وسلم -، ورأى خاتم النبوة، ثم انطلق فاشترى بدينار بنصفه شاة فشواها، وبنصفه خبزاً وأتى به، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: “ما هذا؟ ” قال: صدقة، قال: “لا حاجة لي بها” أخرجها يأكلها المسلمون. ثم انطلق فاشترى بدينار آخر خبزاً ولحماً، فأتى به، فقال: هذا هدية، فأكلا جميعًا.
وأخبره سلمان خبر أصحابه، فقال: كانوا يصومون ويُصلُّون، ويشهدون أنك ستبعث. فقال: “يا سلمان! هم من أهل النار”، فاشتد ذلك على سلمان. وقد كان قال: لو أدركوك صدّقوك واتّبعوك، فأنزل الله {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ}وعن مرة عن ابن مسعود عن ناس من أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم “قلنا: هذا موصول؛ لكن في السند أسباط بن نصر، وهو ضعيف.
[4] إرشاد العقل السليم(1/109)
[5] روح المعاني (1/280)
[6] التحرير والتنوير (1/520).
[7] القول السادس: قالوا: المراد بالذين آمنوا: هم طلاب الدين الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل مبعثه مثل قس بن ساعدة وسلمان الفارسي، فمنهم من أدرك النبي صلى الله عليه وسلم وتابعه ومنهم من لم يدركه فكأنه تعالى قال: إن الذين آمنوا قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم {وَالَّذِينَ هَادُواْ} يعني الذين كانوا على دين موسى عليه السلام ولم يبدّلوا ولم يغيّروا. {وَالنَّصَارَى}: الذين كانوا على دين عيسى عليه السلام ولم يبدّلوا وماتوا على ذلك.
ذكره الثعالبي والبغوي وقريب منه جواد مغنية.
القول السابع: مثل القول السابق لكن الفارق في تفسير الذين هادوا والنصارى
قالوا: هم طلاب الدين مثل قس بن ساعدة وسلمان الفارسي، فمنهم من أدرك النبي صلى الله عليه وسلم وتابعه ومنهم من لم يدركه والمراد بالذين هادوا والنصارى والصابئين من كان منهم على الدين الباطل، فكأنه تعالى قال: إن الذين آمنوا قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، {وَالَّذِينَ هَادُواْ}على الدين الباطل. {وَالنَّصَارَى}: على الدين الباطل.اختاره: الخازن وذكره الرازي.
القول الثامن: قالوا الآية منسوخة: وهو مروي عن ابن عباس رضي الله عنه كما قال الطبري وابن عطية والقرطبي وأبو حيان، فقد روي عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في أول الإسلام، وقرر الله بها أن من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم ومن بقي على يهوديته ونصرانيته وصابئيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر فله أجره، ثم نسخما بقوله تعالى: {ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه} [آل عمران: 85] ورُدَّت الشرائع: كلها إلا شريعة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
قال الطبري:”وقال ابن عباس بما: حدثني المثنى، ـ ـ ـ عن ابن عباس قوله: إنّ الّذِينَ آمَنُوا والذِين هادُوا وَالنّصَارَى وَالصّابِئِينَ إلى قوله: ولا هُمْ يَحْزَنُونَ. فأنزل الله تعالى بعد هذا: وَمَنْ يَبْتَغِ غيرَ الإسْلامِ دِينا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الاَخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ. وهذا الخبر يدلّ على أن ابن عباس كان يرى أن الله جل ثناؤه كان قد وعد من عمل صالحا من اليهود والنصارى والصابئين على عمله في الاَخرة الجنة، ثم نسخ ذلك بقوله: وَمَنْ يَبْتَغِ غيرَ الإسْلامِ دِينا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ.”(جامع البيان(2/551).
قال أبو حيان:” وروي عن ابن عباس أنها نزلت في أوّل الإسلام، وقدر الله بها أن من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، ومن بقي على يهوديته ونصرانيته وصابئيته، وهو مؤمن بالله واليوم الآخر، فله أجره، ثم نسخ ما قدر من ذلك بقوله: {ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه} وردّت الشرائع كلها إلى شريعة محمد صلى الله عليه وسلم.وقال غير ابن عباس: ليست بمنسوخة”. (البحر المحيط (1 / 388).قال القرطبي: “الثامنة: روي عن ابن عباس أن قوله: ” إن الذين آمنوا والذين هادو ” [الحج: 17] الآية. منسوخ بقوله تعالى: ” يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه ” [آل عمران: 85] الآية. وقال غيره: ليست بمنسوخة. وهى فيمن ثبت على إيمانه من المؤمنين بالنبي عليه السلام ” أحكام القرآن(1 / 436).
يقول علي هاني: وهذا قول ضعيف لا أظنه يصح عن ابن عباس؛ لأنه من المقرر المعروف أن الأخبار لا تنسخ، لذلك نجد العلماء قد أولوا ما نسب إلى ابن عباس أو ضعفوا نسبته إليه: قال الطوسي: “وروي عن ابن عباس: أنها منسوخة بقوله تعالى: ” ومن يبتغ غير الاسلام دينا، فلن يقبل منه “. وهذا بعيد، لان النسخ لا يجوز أن يدخل في الخبر الذي يتضمن الوعيد. وانما يجوز دخوله فيما طريقه الاحكام الشرعية التي يجوز تغييرها ” (التبيان (1/281) ووجهه ابن كثير توجيها آخر حيث قال: “قلت: وهذا لا ينافي ما روى عَليّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} الآية فأنزل الله بعد ذلك: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85]، فإن هذا الذي قاله ابن عباس إخبار عن أنه لا يقبل من أحد طريقة ولا عملا إلا ما كان موافقًا لشريعة محمد صلى الله عليه وسلم بعد أن بعثه الله بما بعثه به، فأما قبل ذلك فكل من اتبع الرسول في زمانه فهو على هدى وسبيل ونجاة، فاليهود أتباع موسى، عليه السلام، الذين كانوا يتحاكمون إلى التوراة في زمانهم”.
وقد وجه الراغب في تفسيره قول ابن عباس وأيده القاسمي قائلا: ” قال الراغب في (تفسيره): وقول ابن عباس: (إن هذا منسوخ بقوله: {ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه} يعنون أن هذه الأديان كلها منسوخة بدين الإسلام، وأن الله عز وجل جعل لهم الأجر قبل وقت النبي عليه السلام، فأما في وقته، فالأديان كلها منسوخة بدينه. اه تفسير الراغب (1/215) محاسن التأويل (1/317). أي فليس مراد ابن عباس، ومن وافقه، أنه تعالى كان قد وعد من عمل صالحا من اليهود، ومن ذكر معهم على عمله في الآخرة الجنة، ثم نسخه بآية {ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه} بل مراده ما ذكر الراغب. وهذا ما لا شبهة فيه. “.
وقد رد ابن عاشور ما روي عن ابن عباس ثم وجهه: قائلا ” وبهذا يعلم أن لا وجه لدعوى كون هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: {ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه} [آل عمران: 85] إذ لا استقامة في دعوى نسخ الخبر إلا أن يقال إن الله أخبر به عن مؤمني أهل الكتاب والصابئين الذين آمنوا بما جاءت به رسل الله دون تحريف ولا تبديل ولا عصيان وماتوا على ذلك قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم فيكون معنى الآية كمعنى قوله صلى الله عليه وسلم فيما ذكر من يؤتى أجره مرتين: ” ورجل من أهل الكتاب آمن برسوله ثم آمن بي فله أجران “.
وأما القائلون بأنها منسوخة، فأحسب أن تأويلها عندهم أن الله أمهلهم في أول تلقي دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن ينظروا فلما عَاندُوا نسخها بقوله: {ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يُقبل منه} لئلا يفضي قولهم إلى دعوى نسخ الخبر.التحرير والتنوير (1/522).