إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين (4) بحث مفصل بقلم الشيخ علي هاني

يقدم لنا فضيلة الشيخ بحثاً في المنظور القرآني لعلاقة الإسلام والمسلمين باليهود والنصارى، وذلك من خلال دراسة الآيات الواردة بخصوصهم، وتركيز البحث في الدرجة الأولى على آية {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:62] وعلى ما يشبهها في المائدة والحج، ملخصاً وشارحاً ومستدلاً بأهم ما جاء في كتب التفسير في هذا الموضوع.

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

المسألة الرابعة: الأقوال في المراد بـ(الذين هادوا والنصارى) في الآية:

القول الأول: وهو قول الجمهور:
الطبري وابن عطية والواحدي والزمخشري وأبو السعود والآلوسي والفخر الرازي والقرطبي والنسفي والبقاعي والجلال والهواري والماتريدي والسمرقندي وابن أبي زمنين ومكي والطوسي والشربيني والأعقم والمظهري وابن عجيبة والشوكاني والميرغني والطباطبائي.
قالوا المراد: من كان على الباطل من اليهود والنصارى على الدين المحرف، ومعنى {من آمن بالله}إذا تاب وحقق شروط الإيمان، بأن يؤمن بأركان الإيمان لا سيما الإيمان بالله الواحد بدون شريك، واليوم الآخر يوم القيامة الذي يكرم الله فيه المؤمنين ويعذب الكافرين على ما أتى في القرآن، من نجاة المؤمنين وخلود الكفار الذين وصف القرآن كفرهم، وما يستلزم ذلك من خشية وخوف من الله، وأن يعمل صالحا على حسب ما فصل في القرآن تصديقا لإيمانه كما هو مفهوم ضمنا،وهذا يستلزم الإيمان بجميع الرسل بدون تفريق وأولهم الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، والإيمان باليوم الآخر كما سيأتي بيانه، فمن فعل ذلك منهم فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
القول الثاني:
قاله مجاهد والسدي، والبيضاوي[1] ، والطوسي، وسيد قطب، والسعدي، والشيرازي في الأمثل ورده أبو السعود.
قالوا المراد: بـ{الذين هادوا} الذين كانوا على دين سيدنا موسى عليه الصلاة والسلام قبل التحريف وقبل نسخه بشريعة سيدنا عيسى عليه السلام، ولم يبدلوا ولم يكفروا بعيسى عليه السلام، ومات وهو مؤمن؛ والمراد بـ {النصارى}من آمن بسيدنا عيسى عليه السلام قبل نسخها بشريعة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فعملوا بشريعة سيدنا عيسى عليه السلام إلى أن جاء سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، والمراد بـ{الصابئين} من كان على التوحيد منهم التوحيد الخالص الذي معه الإيمان بجميع أركان الإيمان على القول بوجود طائفة منهم كانت على الحق في فترة من الفترات قبل طروء التحريف.
وقالوا: الآية نزلت في أصحاب سلمان الفارسي كان يدرس على أيدي علماء كانوا على دين سيدنا عيسى، قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد صحب عُبَّاداً من أتباع سيدنا عيسى عليه السلام، قال له آخرهم إن زمان نبي قد أظل، فإن لحقته فأمن به، ورأى منهم عبادة عظيمة، فأخبره خبرهم فقال: كانوا يصومون ويصلون ويؤمنون بك، ويشهدون أنك ستبعث نبيا، فلما فرغ سلمان من ثنائه عليهم، قال له نبي الله صلى الله عليه وسلم: يا سلمان، هم من أهل النار، فاشتد ذلك على سلمان، وقد كان قال له سلمان: لو أدركوك صدقوك واتبعوك، فأنزل الله هذه الآية: (إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر).
قال الطبري[2] : معلقا على هذا القول: “فكان إيمان اليهود: أنه من تمسك بالتوراة وسنة موسى، حتى جاء عيسى، فلما جاء عيسى كان من تمسك بالتوراة وأخذ بسنة موسى – فلم يدعها ولم يتبع عيسى – كان هالكا، وإيمان النصارى: أنه من تمسك بالإنجيل منهم وشرائع عيسى كان مؤمنا مقبولا منه، حتى جاء محمد صلى الله عليه وسلم، فمن لم يتبع محمدا صلى الله عليه وسلم منهم ويدع ما كان عليه من سنة عيسى والإنجيل – كان هالكا”.
يقول علي هاني: القول الثاني هذا ضعيف لأن النصارى لم تطلق في القرآن على المؤمنين بدين سيدنا عيسى عليه السلام بدون تحريف، بل اطلقت على أصحاب التثليث المشركين كما سيأتي تفصيله، وكذلك “الذين هادوا” وإن كانت أطلقت في القرآن إطلاقين: أطلقت على من كان على دين سيدنا موسى الحق نحو: {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا}، وأطلقت على الكفار منهم نحو{مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (46)} كما سيأتي، لكن اقترانهم بالنصارى، والنصارى لم تطلق في القرآن إلا على الكفار منهم يعين أن المراد منهم الكفار، ويؤيده أن القرآن الكريم قال عنهم: الذين قالوا إنا نصارى فهم يدعون دعوى كاذبة الانتماء إلى دين سيدنا عيسى الصحيح، ويساعد القول الراجح أن السياق قبل الآية وبعدها في ضلالاتهم وتحريفاتهم وتغيراتهم هم وسلفهم، ويؤيده أن الذين هادوا ذكرت في سورة الحج مع الذين ثبتوا على الكفر منهم {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17)}، وكذلك لم يثبت علماء التاريخ ولا علماء الأديان أن الصابئة كانوا على التوحيد كما سيأتي، ولو كانوا على التوحيد لما كان اسمهم الصابئة لا سيما أن أكثر العلماء قالوا: إنهم سموا صابئة لخروجهم عن دين التوحيد، بل جعلهم الشهرستاني مقابلين للحنيفية، ويزاد على ذلك أن السياق هنا وفي المائدة ليس للكلام على تلك الأمة التي خلت من الذين هادوا والنصارى والصابئين ولا لمدحهم؛لأنه لا يتعلق به كبير فائدة ـ وإن كان ممكنا في نفسه ـ إنما التركيز والأهم أن يدعوهم إلى الإيمان بهذا الدين وهذا النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن كما تقدم عن جمهور المفسرين وكبارهم، ويؤيده أن قصة بني إسرائيل بدئت بقوله تعالى {يا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ}، فسياق الآيات من أول سورة البقرة لدعوة جميع الناس إلى الإيمان والتوحيد {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)} وليس الغرض الكلام على من كان موحدا قبل آلاف السنوات من الصابئين على فرض وجودهم أو من النصارى، أو الذين هادوا نعم قد يراد هذا بسياق آخر، وسيأتي تفصيل هذا ويتضح تمام الاتضاح إن شاء الله في المسائل الآتية.

 

[1] قال البيضاوي: “من كان منهم في دينه قبل أن ينسخ، مصدقا بقلبه بالمبدأ والمعاد، عاملا بمقتضى شرعه. وقيل من آمن من هؤلاء الكفرة إيمانا خالصا، ودخل في الإسلام دخولا صادقا”. أنوار التنزيل (1/85).
[2] جامع البيان (2/154)، تنبيه: الطبري اختار القول الأول في المراد باليهود والنصارى والصابئين لكنه هنا يوجه القول الثاني عندما حكاه.