إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين (3) بحث مفصل بقلم الشيخ علي هاني

يقدم لنا فضيلة الشيخ بحثاً في المنظور القرآني لعلاقة الإسلام والمسلمين باليهود والنصارى، وذلك من خلال دراسة الآيات الواردة بخصوصهم، وتركيز البحث في الدرجة الأولى على آية {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:62] وعلى ما يشبهها في المائدة والحج، ملخصاً وشارحاً ومستدلاً بأهم ما جاء في كتب التفسير في هذا الموضوع.

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

المسألة الثانية: فائدة إِنَّ
على ما سبق من القولين يأتي القول في فائدة التأكيد بـ(إنَّ) قولان:
فعلى التفسير الأول وهو الصحيح: فمجيء {إنَّ} هنا لمجرد للاهتمام بالخبر وتحقيقِه لدفع توهم أن الله سبحانه لا يقبل توبتهم فيؤدي ذلك إلى يأسهم.
وعلى القول الثاني[1] في التفسير: فمجيء {إنَّ} هنا لمجرد الاهتمام بالخبر وتحقيقِه لدفع توهم أن ما سبق من المذمات شامل لجميع اليهود، فإن كثيراً من الناس يتوهم أن سلف الأمم التي ضَلَّت كانوا مثلهم في الضلال[2].

المسألة الثالثة: بيان الأقوال في المراد بالذين آمنوا:
سبب الاختلاف:
اختلف المفسرون في المراد منه، وسبب هذا الاختلاف قوله تعالى في آخر الآية: {من آمن بالله واليوم الآخر} فإن ذلك يقتضي أن يكون المراد من الإيمان في قوله تعالى: {إن الذين آمنوا} غير المراد منه في قوله في: {من آمن بالله}، ونظيره في الإشكال قوله تعالى:
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} فلأجل هذا الإشكال ذكروا أقوالا عدة [3]، وهذه الأقوال كثرت في سورة البقرة، إلا أن أقواها ثلاثة أقوال وهي التي استقر كلام المفسرين عليها في المائدة، فلم يذكروا غيرها، فلذلك أذكر هذه الأقوال الثلاثة، وعند بيان حاصل الأقوال أذكر بقيتها مع نقاشها.
الأقوال في المراد بالذين أمنوا:
القول الأول:
قالوا المراد الذين آمنوا بالله الواحد، والرسول محمدا صلى الله عليه وسلم من هذ الأُمة وصدقوا بكل ما جاء نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وثبتوا على إيمانهم وآمنوا باليوم الآخر على ما حسب ما ذكره القرآن.
فيكون الفرق بين{إن الذين آمنوا}و{من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا}:
أ) أنَّ معنى{إنَّ الذين أمنوا} أحدثوا الإيمان، ومعنى {من آمن بالله باليوم الآخر} ثبتوا وداموا واستمروا عليه في المستقبل.
ب) وإما أن نقول: في {من آمن بالله واليوم الآخر} تقييد لم يذكر في {إنَّ الذين آمنوا}، فقد زاد قيد {وعمل صالحا}؛ لأن الصلة تركبت من شيئين الإيمان والعمل الصالح، والمخلصون وإن كان إيمانهم حاصلاً فقد بقي عليهم العمل الصالح، فلما تركب الشرط أو الصلة من أمرين، فكأنه قال من آمن وصدق إيمانه بالعمل[4].
اختار هذا القول: الطبري والطوسي[5] والقرطبي والسعدي وسيد قطب وابن عاشور وأبو زهرة، وسيد طنطاوي والنسفي والصابوني ونسبه الإمام الرازي[6] للمتكلمين
القول الثاني:
المراد بهم المنافقون في أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فهم قوم آمنوا بألسنتهم ولم يؤمنوا بقلوبهم، فالمراد بالإيمان إنّما هو الإيمان على طريق المجاز والتسّمية دون الحكم والحقيقة، فكأنه قال: إن المنافقين والذين هادوا والنصارى والصابئين، فقرنهم باليهود لنفاقهم، ثم بين حكم من آمن بالله واليوم الآخر من جميعهم، فقال سبحانه: {من آمن} أي من حقق وأخلص من المنافقين، ودخل في الإيمان من الذين هادوا والنصارى والصابئين.
والتعبيرُ عن المنافقين بذلك دون عُنوانِ النفاقِ للتصريح بأن تلك المرتبةَ وهي الإيمان في الظاهر، وإن عُبِّر عنها بالإيمان لا تُجديهم نفعاً أصلاً ولا تُنْقِذُهم من ورطة الكفر قطعاً، ومناسبة ذكر المنافقين هنا: أنه تعالى ذكر في أول هذه السورة طريقة المنافقين بقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8)} الآيات، ثم ذكر طريقة اليهود، ثم جمعهم هنا في الحكم، فكأنه تعالى قال: هؤلاء المبطلون كل من أتى منهم بالإيمان الحقيقي صار من المؤمنين عند الله[7].
وهذا القول اختاره: سفيان الثوري والزمخشري[8] والبقاعي وأبو السعود[9] والآلوسي[10] والطباطبائي[11] والأعقم ورده ابن عاشور والخليلي مفتي سلطنة عمان[12].
واختاره في سورة المائدة كثير من العلماء منهم: الثوري والزجاج وأبو السعود والسمعاني والنسفي والخازن والطبرسي والنيسابوري والشوكاني واطفيش وحسنين مخلوف والشعراوي والطوسي.
القول الثالث: قالوا: المراد بالذين آمنوا عام للمخلصين والمنافقين.
اختاره الإمام البيضاوي واطفيش في هميان الزاد والمظهري [13] وعبر عنه أبو السعود بقيل[14].
فالمرادُ بالذين آمنوا المتديّنون بدين الإسلام المُخلِصون منهم والمنافقون، أي: الذين قالوا لا إله إلا الله محمد رسول الله، وهذا على عمومه من غير اعتبار موافقة القلب، ولا عدمها ولا الوفاء بالعمل الصالح ولا عدمه، وإنما اشترط موافقة القلب والعمل الصالح بعد ذلك بقوله: {من آمن… إلخ}.، فالمراد بـ(مَنْ آمن) من اتصف منهم بالإيمان الخالصِ بالمبدأ والمَعاد على الإطلاق، سواءٌ كان ذلك بطريق الثبات والدوام عليه كإيمان المُخلصين أو بطريق إحداثه وإنشائه كإيمان مَنْ عداهم من المنافقين وسائر الطوائف.
وفائدةُ التعميم بذكر المؤمنين الصادقين المخلصين مزيدُ ترغيبِ الباقين في الإيمان، ببيان أن تأخرهم في الاتصاف بالإيمان غيرُ مُخلَ بكونهم مستحقين للأجر وعدم الخوف والحزن،فهم إذا آمنوا ينالون ما يناله المؤمنون المخلصون كما قال تعالى {فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما}.
الراجح:
هو القول الثالث الذي يقول:إن الذين آمنوا يشمل الصادقين وغيرهم لأدلة:
1) بدليل أن القرآن الكريم ذكر بعده{إن الذين آمنوا} {من آمن بالله واليوم الآخر}فهي دعوة لكل المؤمنين أن يصدقوا في إيمانهم وأن يعملوا بإيمانهم الأعمال الصالحة، سواء في ذلك من كان على حقيقة الإيمان أو الذين يدَّعون الإيمان
2) ويدل عليه أن سورة البقرة قسمت الناس في بدايتها إلى ثلاثة أقسام: مؤمنين صادقين ذكرت الكافرين ثم المنافقين الذين أظهروا الإيمان، ثم حثت الكل على الصدق في الإيمان والعمل الصالح،وكذلك في سورة المائدة فقد ذكرت القسمين وكذلك سورة الحج[15].
3) وأيضا استعمال الذين آمنوا دون المؤمنين شامل لأقوياء الإيمان وضعافهم ومنهم المنافقون ولذلك استعمل الفعل [16]بخلاف التعبير عن المؤمنين فهو يكون للمتصفين بالإيمان وقد يدل على الراسخين ولم يستعمل لضعاف الإيمان وقد استعمل القرىن الذين آمنوا مرادا به المنافقون أو ضعاف الإيمان في قوله تعالى {قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ}[17] (9/61). فعلي هذا التفسير يكون الكلام شاملا لكل المؤمنين ظاهرا وباطنا ودعوة للكل للصدق في الإيمان والعمل الصالح بخلاف الاقتصار على بعض الأقسام.
4) وأيضا هذه القول يؤدي إلى توحيد المراد هنا وفي المائدة والحج ويكون أشمل للأسرار البلاغية التي ستذكر، بخلاف الاقتصار على أحد القولين:
فمعظم المفسرين في سورة المائدة اختاروا تفسير الذين آمنوا بالمنافقين الذين آمنوا بألسنتهم، وجمهور المفسرين في سورة الحج فسروا المؤمنين بالمؤمنين الصادقين، فالأولى توحيد المراد في هذه السور الثلاثة لا سيما سورة المائدة التي تتحد مع سورة البقرة في السياق فلا نفسر مرة بالمؤمنين الصادقين ومرة بالمنافقين.

[1] وهو قول السدي وابن كثير.
[2] انظر التحرير والتنوير ابن عاشور(1/531)
[3] انظر الآلوسي (1 /279) والرازي (5/376).
[4] وقال ابن عاشور: “وقد استشكل ذكر {الذين آمنوا} في عداد هؤلاء، وإجراء قوله: {من آمن بالله} عليهم مع أنهم مؤمنون فذكرهم تحصيل للحاصل، فقيل أريد به خصوص المؤمنين بألسنتهم فقط وهم المنافقون. وقيل أراد به الجميع وأراد بمن آمن من دام بالنسبة للمخلصين ومن أخلص بالنسبة للمنافقين. وهما جوابان في غاية البعد. وقيل: يرجع قوله: {من آمن بالله واليوم الآخر} لخصوص الذين هادوا والنصارى والصابين دون المؤمنين بقرينة المقام لأنهم وصفوا بالذين آمنوا وهو حسن. وعندي أنه لا حاجة إلى شيء من ذلك، لأن الشرط والصلة تركبت من شيئين الإيمان والعمل الصالح. والمخلصون وإن كان إيمانهم حاصلاً فقد بقي عليهم العمل الصالح فلما تركب الشرط أو الصلة من أمرين فقد علم كل أناس مشربهم وترجع كل صفة لمن يفتقر إليها كلاً أو بعضاً “.التحرير والتنوير(1/521).
[5] قال الطوسي:” اما ” الذين آمنوا ” وهم المصدقون برسول الله (صلى الله عليه وآله) بما اتاهم من الحق من عند الله” التبيان(1/ 277).
[6] قال الفخر الرازي: “وثالثها: المراد من قوله: {إن الذين آمنوا} هم المؤمنون بمحمد عليه الصلاة والسلام في الحقيقة وهو عائد إلى الماضي، ثم قوله تعالى: {من آمن بالله} يقتضي المستقبل فالمراد الذين آمنوا في الماضي وثبتوا على ذلك واستمروا عليه في المستقبل وهو قول المتكلمين” التفسير الكبير(3/536).
[7] الفخر الرازي: ” أحدها: وثانيها: أنه تعالى ذكر في أول هذه السورة طريقة المنافقين ثم طريقة اليهود، فالمراد من قوله تعالى: {إن الذين آمنوا} هم الذين يؤمنون باللسان دون القلب وهم المنافقون، فذكر المنافقين ثم اليهود والنصارى والصابئين فكأنه تعالى قال: هؤلاء المبطلون كل من أتى منهم بالإيمان الحقيقي صار من المؤمنين عند الله وهو قول سفيان الثوري.التفسير الكبير (3/536)
[8] قال الزمخشري:” إن الذين آمنوا بألسنتهم من غير مواطأة القلوب وهم المنافقون {والذين هَادُواْ} والذين تهوّدوا. يقال: هاد يهود. وتهوّد إذا دخل في اليهودية، وهو هائد، والجمع هود. {والنصارى} وهو جمع نصران. يقال: رجل نصران، وامرأة نصرانة، قال: نصرانة لم تحنف. والياء في نصرانيّ للمبالغة كالتي في أحمريّ. سموا لأنهم نصروا المسيح. {والصابئين} وهو من صبأ: إذا خرج من الدين وهم قوم عدلوا عن دين اليهودية والنصرانية وعبدوا الملائكة {مَنْ ءامَنَ} من هؤلاء الكفرة إيماناً خالصاً ودخل في ملة الإسلام دخولاً أصيلاً {وَعَمِلَ صالحا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ} الذي يستوجبونه بإيمانهم وعملهم “. الكشاف (1/ 146).
[9] قال أبو السعود:” {إِنَّ الذين آمَنُواْ} أي بألسنتهم فقط وهم المنافقون بقرينة انتظامِهم في سِلك الكفرة، والتعبيرُ عنهم بذلك دون عُنوانِ النفاقِ للتصريح بأن تلك المرتبةَ وإن عُبِّر عنها بالإيمان لا تُجديهم نفعاً أصلاً ولا تُنْقِذُهم من ورطة الكفر قطعاً ” (1/108).
[10] قال الآلوسي وفي المراد ب {الذين آمنوا} هنا أقوال ـ ــ ـ وأقل الأقوال مؤنة أولها [يعني هذا القول].
[11] قال الطباطبائي:” تكرار الإيمان ثانيا وهو الاتصاف بحقيقته كما يعطيه السياق يفيد أن المراد بالذين آمنوا في صدر الآية هم المتصفون بالإيمان ظاهرا المتسمون بهذا الاسم فيكون محصل المعنى أن الأسماء والتسمي بها مثل المؤمنين واليهود والنصارى والصابئين لا يوجب عند الله تعالى أجرا ولا أمنا من العذاب كقولهم: لا يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى، وإنما ملاك الأمر وسبب الكرامة والسعادة حقيقة الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح، ولذلك لم يقل من آمن منهم بإرجاع الضمير إلى الموصول اللازم في الصلة لئلا يكون تقريرا للفائدة في التسمي على ما يعطيه النظم كما لا يخفى وهذا مما تكررت فيه آيات القرآن أن السعادة والكرامة تدور مدار العبودية، فلا اسم من هذه الأسماء ينفع لمتسميه شيئا، ولا وصف من أوصاف الكمال يبقى لصاحبه وينجيه إلا مع لزوم العبودية، الأنبياء ومن دونهم فيه سواء، فقد قال تعالى في أنبيائه بعد ما وصفهم بكل وصف جميل: {و لو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون}: [الأنعام – 88]، وقال تعالى في أصحاب نبيه ومن آمن معه مع ما ذكر من عظم شأنهم وعلوقدرهم: {وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما}: [الفتح – 29]، فأتى بكلمة منهم وقال في غيرهم ممن أوتي آيات الله تعالى: {و لو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه}: [الأعراف – 176]، إلى غير ذلك من الآيات الناصة على أن الكرامة بالحقيقة دون الظاهر” (1/279).
[12] قال الخليلي مفتي سلطنة عمان: “وهو قول مرفوض إذ لم يُعهد وصف المنافقين في القرآن بالإيمان بل نفى الله عنهم الإيمان بقوله: {وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 8]، وقوله: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمان فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14]، وقوله: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1]. ـ ـ ـ وتخصيص التقييد ببعض المذكورين دون بعض دعوى لا دليل عليها.
[13] لكن المظهري فسر اليهود والنصارى بمن كان على الدين الباطل ثم آمنوا إيمانا صحيحا بالنبي صلى الله عليه وسلم، وأما البيضاوي:ففسر الذين هادوا بمن كان على دين سيدنا موسى الصحيح قبل مجيء سيدنا عيسى وفسر النصارى بمن كان كان على دين عيسى الصحيح قبل مجيء سيدنا محمد فقال: ” إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا بألسنتهم، يريد به المتدينين بدين محمد صلّى الله عليه وسلّم المخلصين منهم والمنافقين،مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً من كان منهم في دينه قبل أن ينسخ. مصدقاً بقلبه بالمبدأ والمعاد، عاملاً بمقتضى شرعه. وقيل من آمن من هؤلاء الكفرة إيماناً خالصاً، ودخل في الإسلام دخولاً صادقاً” أنوار التنزيل (1 /84).
[14] قال أبو السعود: “وقد قيل: المرادُ بالذين آمنوا المتديّنون بدين الإسلام المُخلِصون منهم والمنافقون، فحينئذ لا بد من تفسير مَنْ آمن بمن اتصف منهم بالإيمان الخالصِ بالمبدأ والمَعاد على الإطلاق، سواءٌ كان ذلك بطريق الثبات والدوام عليه كإيمان المُخلصين أو بطريق إحداثه وإنشائه كإيمان مَنْ عداهم من المنافقين وسائر الطوائف، وفائدةُ التعميم للمخلصين مزيدُ ترغيبِ الباقين في الإيمان ببيان أن تأخيرَهم في الاتصاف به غيرُ مُخلَ بكونهم أسوةً لأولئك الأقدمين في استحقاق الأجرِ وما يتبعه من الأمن الدائم” إرشاد العقل السليم “(1/108).
[15] في سورة المائدة {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ}(5/41) وفي سورة الحج {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11)} (22/11).
[16] الفرق بين الذين آمنوا والمؤمنين:
الفرق الأول: {الذين آمنوا} تدل على أمرين: 1) الأولى يدل على أنهم فعلوا الإيمان وأحدثوه أي أوجدوه بعد أن لم يكن وفيه مدح عظيم لهم بإيجاد الإيمان، وإفادة الفعل ذلك بالوضع لتضمنه الزمان 2) الثاني: أنهم داموا عليه وثبتوا عليه، وهذا يدل عليه بالالتزام، فهو يدل على تَحَقُّقَ الْإِيمَانِ فِيمَا مَضَى بِالصَّرَاحَةِ وَدَوَامَهُ بِالِالْتِزَامِ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَلَّا يَتَغَيَّرَ ومثله صدقوا وجد منهم الصدق وثبتوا عليه، ولأنه يدل على هذين الأمرين يؤتى بعدها بالتكليفات غالبا يا أيها الذين آمنوا ـ.
أما المؤمنون بصيغة اسم الفاعل فهو يدل على الاتصاف بصفة الإيمان بدون نظر أنهم أحدثوه أي التركيز على الاتصاف بالصفة لا على إحداث الصفة فليس فيه تعرض لحدوثه أصلًا أو تجدده ـ وأيضا المؤمنون لا يدل على زمن، وقد يدل في بعض السياقات على الثبوت والقوة والرسوخ وعليه فالمؤمنون في بعض السياقات معناه الذي اتصفوا بالإيمان الثابت فاسم الفاعل صيغة منبئة عن الثبات والدوام.
الفرق الثاني: التعبير بالذين آمنوا يشمل قوي الإيمان وضعيفه بل يدخل أحيانا المنافقون فمعنى الذين آمنوا أحدثوا الإيمان ولو كانوا في أدنى مراتب.
الفرق الثالث:الموصول {الذين آمنوا} يُؤْذِنُ بالاشْتِهَارِهِمْ بِالْإِيمَانِ.ولنأخذ مثالا اجتمع فيه اسم الفاعل والاسم الموصول
في قوله تعالى:{إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68)} قال البقاعي: {والذين آمنوا} وإن كانوا في أدنى درجات الإيمان {والله} أي بما له من صفات الكمال – وليهم، هذا الأصل، ولكنه قال: {ولي المؤمنين *} ليعم الأنبياء كلهم وأتباعهم من كل فرقة، ويعلم أن الوصف الموجب للتقريب العراقة في الإيمان ترغيباً لمن لم يبلغه في بلوغه ولو كانوا في أدنى درجات الإيمان.
آيات اجتمع فيها اسم الفاعل والموصول:
{وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ) [العنكبوت: 11] ففيه ترغيب أن الله يعلم كل إيمان فكل إيمان عنده له أجر، وأما في النفاق فهو يرغب الذين نافقوا أن يتركوا فالتهديد منصب على الذين ثبتوا على النفاق وكذلك {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3}{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)} فعند الأمر ذكرهم بأمر عظيم فعلوه وهو الإيمان والثبات عليه وأنهم مشهورون بهذه الصفة، فكما احدثوا الإيمان فليحدثوا التذكر، ثم بين أن المؤمن الكامل في الإيمان يوكل أموره لله، وليقس ما لم يقل.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54) 6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57)) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) نَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) قُإِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10)
[17] قال أبو السعود:” {وَرَحْمَةً} عطفٌ على أذنُ خيرٍ أي وهو رحمةٌ بطريق إطلاقِ المصدرِ على الفاعل للمبالغة
{للذين آمنوا مِنكُمْ} أي للذين أظهروا الإيمانَ منكم حيث يقبله منهم لكن لا تصديقاً لَهُم في ذلك بل رفقاً بهم وترحماً عليهم ولا يكشف أسرارَهم ولا يهتِك أستارَهم وإسنادُ الإيمان إليهم بصيغة الفعلِ بعد نسبتِه إلى المؤمنين بصيغة الفاعل المنبئةِ عن الرسوخ والاستمرارِ للإيذان بأن إيمانَهم أمرٌ حادثٌ ما له من قرار”. إرشاد العقل السليم (4/77).