إشراقات إيمانية في شهر الصيام | المقالة الثالثة | الشيخ محمود دحلا

النيَّة وأثرها في العبادات

 

الحمد لله وحدَه، والصلاة والسلام على مَن لا نبيَّ بعدَه، وبعد: 

فإنَّ شهرَ رمضان شهرُ الخير والبركات، شهرُ التجليات والقربات، شهرُ العطاء والنفحات، خيراته لا تحصى، ونفحاته لا تُستقصى، وإنَّ من آثار تجلياته وعطاءاته ما فيه من دوافع لنشر مواضيع العلم والموعظة. 

ودونكم أيها الإخوة الكرام هذا الموضوع المهمَّ، عسى أن يجعله الله لي ولكم رصيداً من حسناتنا نجدها في صحيفة أعمالنا يوم القيامة، نبحث فيه عن (النية وأثرها في العبادات). 

  • وحديثنا في هذا الموضوع يستوعب أمرين اثنين: 
  • أولاً: أهميَّة النيَّة لنيل الثواب. 
  • ثانياً: أهميَّة النيَّة لصحَّة العمل.

قال الله ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ [الملك:2].

أحسن العمل

قيل للفضيل بن عياض رحمه الله: يا أبا عليٍّ، ما أحسن العمل؟ قال: أخلصه وأصوبه. 

فإخلاص النية لله يكون سبباً لتفضُّل الله علينا بثوابه؛ لأنَّه ما أمرنا إلَّا بذاك، وحاشاه سبحانه أن يأمرنا به ثم يحرمَنا أجرَه وثوابَه إن نحن اشتغلنا، قال الله : ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾ [البينة:5]. 

وقال : «إنَّما الأعمال بالنيَّات، وإنَّما لكلِّ امرئٍ ما نوى»

وقد علَّق المولى سبحانه لقاءَه بإخلاص العمل له، ونبْذِ العمل لغيره، فقال : ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ [الكهف:110]. 

هذا اللقاء به الذي تهفو أرواحنا إليه حبّاً وشوقاً ورجاءً، ووعدنا سبحانه أنَّه آت، وكلُّ آتٍ قريبٌ، ومرحباً بلقاءٍ قريبٍ نكون فيه عند الحبيب تعالى وتقدَّس، قال : ﴿مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ﴾ [العنكبوت:5].

وفي هذا اللقاء يكون العطاء  ﴿جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا﴾ [النبأ:36] وهو الذي يضاعَف لنا فيه الأجر والثواب. 

إنَّ الصيام من الأعمال الخالصة له سبحانه؛ لذا كان أجره فوق حسابات البشر، وفوق تقدير العابدين، قال : «كلُّ عمل ابن آدم له إلَّا الصوم، فإنَّه لي وأنا أجزي به» وليس ذلك إلَّا لأنَّ الصومَ مدرسةٌ من مدارس الصبر، والصبرُ عند الله أجره جزيل، وثوابه كبير، قال سبحانه : ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [الزمر:10]. 

بهذا يكون العمل خالصاً لله، ومحصِّلاً للثواب فضلاً من الله

 

وأمَّا الحديث عن صحَّة العمل فهذا يجعلنا ننتقل إلى الشقِّ الثاني من الحديث، وهو: النية وأثرها في صحَّة العبادات

وهنا نبيِّن أنَّ العبادات من حيث اشتمالها على النيَّة تنقسم إلى قسمين: 

    • عبادات تكون النيَّة فيها شرطاً لتحصيل الثواب، لا لصحَّة العمل. 
    • وعبادات تكون النيَّة فيها شرطاً لتحصيل الثواب وصحَّة العمل والخوض في بيان هذه التفاصيل إنَّما هو على مذهب أبي حنيفة النعمان بحسب اجتهاده رحمه الله .

القسم الأول: 

  • الوضوء والغسل:

قال الله : ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا﴾ [المائدة:6]. 

ذكر الله في الآية ما يفعل المحدث والجنب إذا أرادا القيام إلى الصلاة، وهو غسل الأعضاء الثلاثة ومسح الرأس في الوضوء، وتعميم الجسد بالماء الطهور في الاغتسال من الجنابة. 

ولم يكن هناك تعرُّضٌ لذكر النيَّة، ولو كانت شرطاً لصحَّة التطهير لذكرَها، كذا قال علماؤنا رحمهم الله. 

هذا من جهةٍ، من جهةٍ أخرى سمَّى الله الماءَ المنزَّل من السماء: ﴿طَهوراً﴾، قال الله : ﴿وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا﴾ [الفرقان:48]، والطهور: ما يطهِّر غيرَه، فاذا استعمل المسلمُ الماءَ فغسل الأعضاءَ الثلاثةَ في الوضوء ومسح الرأسَ، أو عمَّم جسدَه بالماء الطهور بعد الجنابة، فحينها يقوم الماءُ بخاصيته التي جعلها الله فيه، وهي التطهير.

وقوله «إنَّما الأعمال بالنيَّات» أي: إنَّما ثواب الأعمال بالنَّيات، فالوضوء والغسل بلا نيَّةٍ يجعل العمل صحيحاً، ولكن لا ثواب عليه إلَّا بالنيَّة.

 

  • النية في الصلاة:

أما النيَّة في الصلاة فهي شرطٌ لتتميَّز العادة عن العبادة، ونلقي الضوء هنا على أشياء: 

– أولها: أنَّه لابدَّ من تعيين الفرض عند النيَّة بأن يعزم بقلبه أنَّه يصلِّي الظهرَ مثلاَ أو العصرَ ونحو ذلك. 

– ثانيها: أنَّه يشترط أن يأتيَ المصلي بالنيَّة عند التحريمة حقيقةً أو حكماً، ولا يجوز أن تتأخَّر النيَّة عن التحريمة. 

– ثالثها: أن نيَّة المقتدي المتابعةَ شرطٌ لصحَّة صلاته، فينوي نيَّتين: 

1- أصلِ الصلاة. 

2- الاقتداءِ. 

– رابعها: أنَّ موضع النيَّة القلب، ولا يشترط أن يحرِّك لسانَه بها، وإنَّما شُرعت النيَّة على اللسان ليتأكَّد ما في الجنان، وذلك في حقِّ الموسوس وكثير الهموم ومشغول البال.

 

  • النيَّة في الزكاة:

تجدر الإشارة إلى أنَّ الزكاة ليس لها إلَّا ركنٌ واحدٌ، وهو التمليك على جهة المبرَّة، أي: الأداءُ للفقير ونحوه بقصد طاعة الله سبحانه وتعالى. 

والنيَّة شرطٌ لصحَّة الزكاة، وموضعها عند الأداءِ أو عزلِ الواجب، بمعنى: أنَّه لابدَّ من قصد أنَّه يؤدِّي الواجبَ الذي فرضه الله عليه ساعة تمليك الفقير، أو أنَّه يجرِّد ما عنده من مالٍ تجب فيه الزكاة، ويحسب ربع عُشره، وهو واحدٌ من أربعين في الدراهم والدنانير ونحوها، ثم يعزل الواجبَ المرادَ دفعه للفقير، وينوي ساعتئذٍ الزكاةً، ثم لا حرج بعد ذلك إن أدَّى منه إلى الفقير أو بعد حينٍ وإن لم يجدِّد النيَّة. 

 

  • النية في الحجِّ:

تجدر الإشارة إلى أنَّ الحجَّ ثلاثة أقسامٍ: إفرادٌ / تمتُّعٌ / قِرانٌ، وفي كلِّ ذلك لابدَّ من النيَّة. 

فينوي مريدُ الإفراد الحجَّ بقوله: نويت الحجَّ وأحرمت به لله تعالى، لبيك اللهمَّ لبيك. فاذا نوى ولبَّى فقد أحرم. 

وينوي مريدُ التمتُّع العمرةَ أولاً، فيقول: نويت العمرةَ وأحرمت بها لله تعالى، لبيك اللهمَّ لبيك، ثم يُحرم بالحجِّ من مكَّة قبل يوم عرفة. 

وينوي مريدُ القِران الحجَّ والعمرةَ، فيقول: نويت الحجَّ والعمرةَ لله تعالى، لبيك اللهمَّ لبيك، فاذا تحلَّل تحلَّل من الإحرامين معاً. 

ونلقي الضوءَ على أشياءٍ: 

– أولها: لو نوى مطلَق الحجِّ يقع عن الفرض. 

– ثانيها: لو لم يكن حجَّ الفرضَ ونوى الحجَّ نفلاً وقع الحجُّ نافلةً. 

– ثالثها: يصحُّ حجُّ الصَّروةِ، وهو أن ينويَ الحجَّ عن الغير ولم يكن بعدُ قد حجَّ عن نفسه، والأفضل فيمَن يحجُّ عن الغير أن يكون عالماً صالحاً قد حجَّ من قبل.

 

  • النية في الصوم:

لابدَّ من النيَّة في الصوم؛ لأنَّ الإنسان قد يترك الطعامَ لعدم الاشتهاءِ أو لمرضٍ أو رياضةً، فشُرعت النيَّة لصحَّة الصوم لتتميَّز العادة عن العبادة. 

ونلقي الضوءَ على أشياءٍ

– أولها: لابدَّ من تبييت النيَّة وتعيينها في صوم: 1- القضاء، 2- والكفارات، 3- والنذر المطلق، 4- وما أفسده من صوم. 

والتبييت: أن ينويَ الصومَ ليلاً. 

والتعيين: أن يحدِّد ما يصومه؛ لأنَّ الزمان غير متعيِّنٍ له. 

– ثانيها: لا يشترط تبييت النيَّة ولا تعيينها في صوم: 1- رمضان أداءً، 2- والنذر المعين، فيصحُّ الصوم بنيَّةٍ من الليل إلى ما قبل نصف النهار. 

ويصحُّ النذر ورمضان أداءً بمطلق النيَّة، وبنيَّة النفل. 

– وأخيراً: تجدر الإشارة إلى أنَّ ما ذكرناه هو لطائف ممَّا ذكره فقهاءنا الحنفيَّة في كتبهم، وأنَّه لابدَّ للمسلم من كتابٍ متخصِّصٍ في الفقه ومعلِّمٍ ذي خبرةٍ، وأن يجتهد في قراءة كتابٍ كاملٍ في ذلك؛ تصحيحاً لعبادته، ونيلاً لثواب ربِّه. 

وقد قال حبيبنا المصطفى «مَن يُرد اللهُ به خيراً يفقهه في الدِّين».

اللهم علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علَّمتنا.