إشراقات إيمانية في شهر الصيام | المقالة السابعة والعشرون | د. باسم عيتاني

رمضان بين التفقد والإكرام


          الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه، اللهم لك الحمد أن بلغتنا رمضان فصمنا فيه وقمنا بعبادتك وحدك لا شريك لك، فتقبله منا واقبلنا عندك يا أرحم الراحمين.

          نعيش هذا الشهر الكريم بحيوية عالية للقيام بفريضة الصيام و بنشاط عال لتأدية صلاة التراويح وبهمة كبيرة لقراءة القرآن العظيم، و باندفاع هائل لفعل الخيرات، هو شهر فيه حالة تغييرية لعادات الإنسان في تغيير نظامه وقت طعامه وشرابه ووقت نومه، ويدفعك للإكثار من العبادات والأعمال الصالحات، ويوقف لك العادات السيئة، وعلى المرء في هذا الشهر الترويضي للنفس أن يعقد العزم على أن يستمر فيما بعد رمضان على ما كان عليه في رمضان قدر ما يستطيع، وأن يسأل الله تعالى أن يثبته على ذلك وأن يمده بمدد من عنده حتى يستمر على هذا النهج في حياته.

          كل الأعمال الصالحة يضاعف أجرها الله تعالى وقد تزيد إلى سبعمئة ضعف وربما أضعاف كثيرة وهذا من عطاء الله تعالى وكرمه، إلا الصوم فإن الله يجزي عليه جزاء كثيراً لا يخطر ببال إنسان ولا يتوقعه، فقد ورد عن رسول الله أنه قال : «كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ، الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى مَا شَاءَ اللَّهُ، يَقُولُ اللَّهُ: إِلَّا الصَّوْمَ؛ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي» [1] فالعمل الصالح في رمضان فيه ميزة عن غيره من الأشهر أن المؤمن يمارس عبادته في شهر خُص بالإخلاص ولذا يضاعف أكثر من غيره كما يروى في ذلك عن العلماء رحمهم الله تعالى.

          وهنا نذكر جانباً من منهج النبي في رمضان:
فكان عبد الله بن عباس حبر الأمة رضي الله عنهما يصف النبي
في هذا الشهر الكريم أنه «كان أجودَ الناس، وكان أجودُ ما يكونُ في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان جبريلُ يلقاه في كل ليلة من رمضان، فيُدارسه القرآن، فلَرسولُ الله حين يلقاه جبريلُ أجودُ بالخير مِن الريحِ المُرسَلة»[2] فاللقاء  اليومي بين رسول الله  مع جبريل عليه السلام في هذا الشهر العظيم لمدارسة القرآن دلالة عظيمة في حالة الترقي الروحي الهائل التي تدفع برسول الله  لأن يزداد جوده وعطاؤه في هذا الشهر المبارك.

          فنحن لم نلتقِ بجبريل عليه السلام، ولكن نتلقى ما كان يدارسه مع رسول الله  وهو القرآن العظيم، فقراءة القرآن والمدارسة في هذا الشهر فيه بركة عظيمة جاءت من نفحة ملكية وبث رسولي تدخلك في ثناياك لتبدد جدار البخل ولتهدم حائط الشح، فينبغي أن تحدث عندك دفعاً للعطاء والجود.

          ومن مقاصد الصوم وحِكمه أن يدفعك لتصبح صاحب عطاء وصاحب كرم، فالصوم يمنعك عن الأكل والشراب وغير ذلك حتى تروض النفس، فتتخلى عن العلائق القلبية، لأنه كلما كانت التعلّقات القلبية بالماديات قوياً كلما ازداد الحرص والبخل، وكلما خفت هذه التعلّقات كلما خف الحرص وزاد العطاء وزاد الكرم. فهذا الشهر يدربك لتكون كريماً جواداً.

          فإذا أردت أن تعطي وتكرم لابد لك أن تتفقد أحوال الناس، ومعرفة أحوال الناس يزيدك اندفاعاً لقضاء حوائجهم، كان الإمام الزهري [3] رحمه الله يقول: (رمضان إنما هو تلاوة القرآن وإطعام الطعام) [4] والإكرام والإعطاء والإطعام وتفقد أحوال الناس في كل شهر وفي هذا الشهر بالذات يكون خالصاً لوجه الله تعالى، ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا ۞ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا﴾ [الإنسان: 8] فهذا انفتاح كبير لإطعام الطعام من خلال التعرف على أحوال الناس للمسلم وغير المسلم، فالأسير يكون غير مسلم عادة فكان يعادي ويحارب المسلمين فصار أسيراً، فنطعمه لوجه الله تعالى، ففي هذا الشهر ينفتح المؤمن على كل الطبقات في المجتمع ليطعم المحتاجين من الفقراء والمساكين واليتامى وغيرهم.

          من أهم الأمور عند الإطعام والإنفاق في سبيل ألله أن يستشعر المرء بها تزكية نفسه وتطهيرها، لأن الإحساس بذلك يولد طاقة إيجابية تنعكس على المنفق والمطعم وعلى مجتمعه في أهله وفي وطنه. قال الله تعالى﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا﴾[التوبة: 103].

          فتفقد أحوال الناس لإطعامهم أو للإنفاق عليهم من الأعمال الصالحة الرائعة في رمضان، ولكن نرى أن كثيراً من الأغنياء يعطون المؤسسات والجمعيات الخيرية توكيلاً عنهم للقيام بهذا العمل، ولكن الأولى أن يفعل الغني ذلك بنفسه فإذا لم يستطع دائماً، فليفعل ذلك بين فترة وأخرى كلما قدر، فإنه يزيد من الرحمة والعطف على الفقراء والمساكين، لأنه يحتك بهم فعلياً فيشعر بآلامهم ومشاكلهم عن قرب لا عن بعد، فيسأل عن وضع إمام المسجد، وعن وضع خادم المسجد، ويتفقد أحوال أقاربه وجيرانه وأصدقائه بطريقة ذكية لطيفة دون أن يحرج أحداً، ودون أن يجرح عزتهم أو يخدج كرامتهم حتى يساعدهم في قضاء حوائجهم.  فقد روي عن رسول الله أنه قال: «وَلَأَنْ يَمْشِيَ أَحَدُكُمْ مَعَ أَخِيهِ فِي قَضَاءِ حَاجَتِهِ أَفْضَلُ مِنْ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي مَسْجِدِي هَذَا شَهْرَيْنِ – وَأَشَارَ بِإِصْبَعِهِ» [5]. فإن تفقد أحوال الناس والسؤال عن أوضاعهم حتى يضع المقتدرُ الصدقاتِ في مواضعها وحتى يشعر مع الآخرين فقرهم واحتياجاتهم يعتبر من خير الأعمال في هذا الشهر الكريم حيث يعظم الأجر ويتضاعف في الآخرة إلى ما شاء الله أن يتضاعف وينتشر النفع في الدنيا بين الناس في المجتمع.

 

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

والحمد لله رب العالمين أولاً وآخراً.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] رواه ابن ماجه في سننه، كتاب الصيام، باب ما جاء في فضل الصيام، رقم الحديث: 5، 1638/ 525.

[2] رواه البخاري في صحيحه، كتاب المناقب، باب صفة النبي ، رقم الحديث: 3، 3361/ 304.

[3] من العلماء التابعين المشهورين الذين رأوا الصحابة رضي الله عنهم وأخذ عنهم.

[4] لطائف المعارف، ابن رجب،1/ 183.

[5] رواه الحاكم في مستدركه، كتاب الأدب، رقم الحديث: 4، 7706/ 300. وهنالك أحاديث كثيرة في موضوع قضاء حاجة الناس في الصحاح والسنن.