سلسلة تفسير الفاتحة: مسائل في تفسير الاستعاذة يعرضها الشيخ علي هاني

يتابع فضيلة الأستاذ الشيخ المفسر علي هاني تفسيره للفاتحة ومقدماتها، وهنا يفسر مسائل الاستعاذة ويبين أصل مادتها اللغوية، ويسرد معاني كلمة الشيطان وكلمة الرجيم، ويذكر مواضع الاستعاذة والغرض منها، ولماذا قدمت في بداية القرآن، مع ذِكر لطائفها وألفاظها.

 

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

 

تفسير الاستعاذة

 “أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، “وفيها عشرة مسائل

 

المسألة الأولى:

الأصل في مادة (ش، ط، ن): هو التجاء واعتصام وتحرز الشيء الغض الطريّ إلى شيء قويّ متين يمنع ويعوق أخذه وتناوله، وإصابة الشر المواجه له ويعصمه، ومن لوازم الأصل؛ اللصوق والملازمة.

يقال: العُوذ من اللحم: ما عاذ من اللحم، أي: لزم ولصق بالعظم فلم يتخلص منه؛ لأنه اعتصم به واستمسك به، والعُوذ من الكلأ: ما لم يرتفع إلى الأغصان ومنعه الشجرُ من أن يُرعى؛ لأنه نبت في أصل شجر سمي بذلك لأنه اعتصم به واستمسك به، فكذلك العائذ قد استمسك بالمستعاذ به واعتصم به ولزمه، ُيقال: عاذ بفلان، وعاذ بحصن.

والحاصل في معنى العَوْذ: اللجَأُ إلى شيء يقِي من يَلجأُ إليه ما يخافه مع لصوق وملازمة واعتصام. وكلمة “أعوذ” تشعر بأن هناك شيئا يَخاف منه المستعيذ، وبأن المستعيذ عاجز عنه لا يملك القوة لدفعه، وأنه يحتاج إلى غيره فيعوذ بمن يدفع عنه غائلة ما يخاف منه، ويتقوى به على ما يعجز عنه. 

فمعنى (أعوذ بالله): أستجير وألتجئ وأعتصم به سبحانه محتميا مع الملازمة واللصوق، من شر الشيطان العاتي المتمرد الذي يريد أن يغويني ويضلني وأن يضرني في ديني ودنياي، ويصدني عن فعل ما أمرت به، ويحثني على فعل ما نهيت عنه، وأحتمي بالخالق السميع العليم من همزه ولمزه ووساوسه فلا يدفع عني شره إلا الله رب العالمين. والسر في الاستعاذة أن الشيطان لا يكفُّه عن الإنسان إلا الله تعالى؛ ولهذا أمر اللهُ تعالى بالاستعاذة به من شيطان الجن؛ لأنه لا يقبل رشوة ولا يؤثر فيه جميل؛ لأنه شرير بالطبع ولا يكفه عن الإنسان إلا الذي خلقه. 

واستعمال المضارع في أعوذ: للدلالة على استمرار صدور العياذ متجددا وعدم انقطاعها؛

ولأن معنى الاستعاذة تتعلق بالحال والمستقبل.

 

المسألة الثانية:  اشتق لفظة الشيطان معناها

اشتقاق لفظ الشيطان: من (شَطـَنَ) بمعنى بَعُدَ يقال شطنت الدار بعدت، فشيطان: فيعال من شطن بمعنى بعُد فهو:

أ) المتمرد العاتي العصِيُّ الآبي الممتلئ شراً ومكراً المتمادي في الطغيان الذي بعُد بطبعه وتمرده عن:

  • كل خير وصلاح ورشاد وعن الحق والخير والهدى والرحمة، فهو شرير.
  •  وهو بعيد عن رحمة الله  ولذلك سمي شيطانا.

ب) والشيطان عدو حذر الله تعالى منه؛ إذ لا مطمع في زوال علة عداوته، وهو يجري من ابن آدم مجرى الدم، فيأمره أولًا بالكفر ويشككه في الإيمان فإن قدر عليه؛ وإلا أمره بالمعاصي، فإن أطاعه وإلا ثبطه عن الطاعة، فإن سلِم من ذلك أفسدها عليه بالرياء والعجب، وهو لا يترك إغواء الإنسان ولا يترك سلاحه إلى أن يتحقق موتُ الإنسان، فعلى الإنسان أن لا يترك سلاحه وهو الذكر لله سبحانه فإن الله تعالى قال: {وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً} [النساء: ۱٠۲]، وهكذا الشيطان ما دام الإنسان متسلحا بالذكر لا يقدر عليه فإن وضع سلاحه تبعه فأغواه.

 

المسألة الثالثة: الشيطان أعم من شيطان الجن:

الشيطان ليس خاصا بإبليس بل كلُّ عاتٍ متمردٍ من الإنس والجن والدواب شيطان كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا}[الأنعام:112]، {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ}[الناس: 4 ـ 6] وإبليس إمام الشياطين ورئسهم.

 

المسألة الرابعة: معنى رجيم

أصل الرجم: الرمي بالحجارة، فالمطرود يرجم بالحجارة، أي: يُرْمَى بها لإبعاده أو قتله أو التخلص من شره؛ لأنه يكره لسوء فعله، فالناس إذا نبذوا أحداَ وكرهوه وأرادوا إبعاده و التخلصَ منه وإهلاكَه رجموه بالحجارة، ومنه استعير الرجيم.

فالرجيم بمعنى: المهان المحقر المطرود المبعد من كل خيرٍ وكرامةٍ  وعن منازل الملأ الأعلى؛ قال الله تعالى: {فاخرج منها فإنك رجيم} [الحجر: 34]، وهذا يدل على أنه في غاية الإجرام والحقارة والكراهية، منبوذٌ مطرود من كل خير ورحمة، كما يرجم المجرمون بالحجارة ويكرهون ويطردون؛ لأن الرجم لا يكون إلا لمن هو كذلك. وذلك استعارة أو كناية، فليس المراد به الرجم المذكور في {إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} [الصافات: 10]، ولما عصى إبليسُ ربَّه وأصر على معصيته ورفض طاعته طرده ولعنه وأبعده من منازل الملائكة وجعله رجيما دوما.

ورجيم: فعيل بمعنى مفعول صرف من مفعول إلى فعيل كقتيل بمعنى مقتول، وجريح بمعنى مجروح، وكَفٍّ خَضِيبٍ، أَيْ: مَخْضُوبٌ، وفعيل أبلغ من مفعول لأنه يدل على الثبوت وقوة الوصف مع أنه واقع.

 

المسألة الخامسة: الحكمة من الاستعاذة

يستعيذ المؤمن عندما يقرأ القرآن، وعليه الاستعاذة كلما أحس بوساوس الشيطان وخواطره السيئة، والغرض من الاستعاذة:

أ) الاحترازُ من شر الوسوسة، ومعلوم أن الوسوسة كلام خفي في قلب الإنسان، ولا يطلع عليها أحد، فكأن العبد يقول: يا من يسمع كلَّ مسموع، ويعلم كلَّ سر خفي أنت تعلم وسوسة الشيطان، وتعلم غرضه منها، وأنت القادر على دفعها عني، فادفعها عني بفضلك؛ فلهذا السبب كانت الاستعاذة يقترن بها كثيرا اسما السميع العليم {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}[الأعراف:200]، {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}[فصلت: 36].

ب) وهي اعتراف لله تعالى بالقدرة وللعبد بالضعف والعجز عن مقاومة هذا العدو المبين الباطني الذي لا يقدر على منعه ودفعه إلا الله الذي خلقه، ولا يقبل مصانعه، ولا يدارى بالإحسان، بخلاف العدو من نوع الإنسان، وقال تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلا} [الإسراء: 65]، وقد نزلت الملائكة لمقاتلة العدو البشري يوم بدر، ومن قتله العدو البشري كان شهيدًا، ومن قتله العدو الباطني كان طرِيدًا، ومن غلبه العدو الظاهر كان مأجورًا، ومن قهره العدو الباطن كان مفتونا أو موزورًا، ولما كان الشيطان يرى الإنسان من حيث لا يراه استعاذ منه بالذي يراه ولا يراه الشيطان.

ج) وهي طهارة للفم مما كان يتعاطاه من اللغو والرفث وتطييب له وتهيؤ لتلاوة كلام الله.

 

المسألة السادسة: سر تقديم التعوذ

قدم التعوذ الذي هو من درء المفاسد على قراءة القرآن، تعظيما للقرآن بالإشارة إلى أنه يتعين لتاليه أن يجتهد في تصفية سره وجمعِ متفرِّق أمره؛ لينال سؤلَه ومرادَه بإعراضه عن العدو الحسودِ وإقباله على الولي الودود.

 

المسألة السابعة: ألفاظ التعوذ

لفظ التعوذ على خمسة أوجه:
– “أعوذ بالله من الشيطان الرجيم” وهو المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم، والمختار عند القراء.
– و” أعوذ بالله العظيم من الشيطان الرجيم”.
– و” أعوذ بالله القوي من الشيطان الغوي”.
– و”أعوذ بالله المجيد من الشيطان المَرِيد”.
– و”أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم” وهو مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم.

 

المسألة الثامنة: في فضل التعوذ

أ) روى البخاري عن عَدِيُّ بْنُ ثَابِتٍ، قَالَ: سَمِعْتُ سُلَيْمَانَ بْنَ صُرَدٍ، رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [ص:16] قَالَ: اسْتَبَّ رَجُلاَنِ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَغَضِبَ أَحَدُهُمَا، فَاشْتَدَّ غَضَبُهُ حَتَّى انْتَفَخَ وَجْهُهُ وَتَغَيَّرَ: فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً، لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ عَنْهُ الَّذِي يَجِدُ» فَانْطَلَقَ إِلَيْهِ الرَّجُلُ فَأَخْبَرَهُ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: «تَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ» فَقَالَ: أَتُرَى بِي بَأْسٌ، أَمَجْنُونٌ أَنَا، اذْهَبْ”

ب) روى مسلم: “عَنْ أَبِي الْعَلَاءِ، أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ أَبِي الْعَاصِ، أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ حَالَ بَيْنِي وَبَيْنَ صَلَاتِي وَقِرَاءَتِي يَلْبِسُهَا عَلَيَّ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ذَاكَ شَيْطَانٌ يُقَالُ لَهُ خَنْزَبٌ، فَإِذَا أَحْسَسْتَهُ فَتَعَوَّذْ بِاللهِ مِنْهُ، وَاتْفِلْ عَلَى يَسَارِكَ ثَلَاثًا» قَالَ: فَفَعَلْتُ ذَلِكَ فَأَذْهَبَهُ اللهُ عَنِّي”.[1]

ج ) روى مسلم: عن “سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ، قال: سَمِعْتُ خَوْلَةَ بِنْتَ حَكِيمٍ السُّلَمِيَّةَ، تَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: “مَنْ نَزَلَ مَنْزِلًا ثُمَّ قَالَ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ، لَمْ يَضُرَّهُ شَيْءٌ، حَتَّى يَرْتَحِلَ مِنْ مَنْزِلِهِ ذَلِكَ”. [2]

 

المسألة التاسعة:

أجمع العلماء على أن التعوذ ليس من القرآن ولا آية منه.

 

المسألة العاشرة: القواطع عن الله تعالى وعلاجه

القواطع عن الله أربعة: الشيطان، والنفس، والدنيا، والخلق.
فعلاج الشيطان: الاستعاذة والمخالفة له.
وعلاج النفس: القهر.
وعلاج الدنيا: الزهد.
وعلاج الخلق: الانقباض والعزلة حيث لا تنفع المخالطة والصبر على أذاهم وإلا كانت أحسن.

 

 

[1]رقم (2203) باب فضل التعوذ

[2](2708) بَابٌ فِي التَّعَوُّذِ مِنْ سُوءِ الْقَضَاءِ وَدَرَكِ الشَّقَاءِ وَغَيْرِهِ