المقال الثاني من سلسلة النبوة والأنبياء للشيخ د. محمد أبوبكرباذيب

الشيخ الدكتور محمد أبو بكر باذيب المتخصص في أصول الدين يقدم هنا في ركن التوعية الأسبوعي المقالة التعريفية الثانية، وهي تنطوي على الحديث عن النبوة والأنبياء وعصمتهم، وتَظهر أهمية المقال في بدايته التي تبين أهمية كون الرسل سفراء بين الله وبين عباده، فهم الذين اختارهم الله وجعلهم على أعلى صفات الكمال البشري، ويتناول فضيلة الدكتور أهم الصفات التي تميزوا بها عن باقي البشر، ثم يتحدث عن الأخبار والقصص التي جاءت في أخبارهم والأمم السابقة، ويوضح أهمية عدم الاعتماد على الإسرائيليات التي رفضها العلماء الرفض التام.

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفؤا أحد.

والصلاة والسلام على سيد السادات، وخير البريات، سيدنا رسول الله، محمد بن عبدالله، صفوته من رسله وأنبياه. اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وصحبه، صلاة ترضيك وترضيه وترضى بها عنا يا رب العالمين، ونسألك التوفيق لشكرك.

أما بعد؛

فإن الحق تبارك وتعالى اختار أنبياءه الكرام، عليه صلاة الله وسلامه، ليكونوا سفراء بينه وبين عباده في حمل أمانة الوحي المقدس، وتبليغ رسالته للعباد. وكان من مقتضيات ذلك الاختيار والاصطفاء أن يكون أولئك المرسلون والأنبياء على أعلى صفات الكمال البشري، خلقاً، وعلماً، ونسباً، وحسباً، وقوة تحمل قلبي وبدني. لقد اختارهم الحق تعالى ورعاهم بعين عنايته سبحانه، قال جل وعلا: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا ۖ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} [الطور: ٤٨]، وقال مخاطباً نبيه موسى عليه السلام: {وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِي} [طه: ۳٩].

الأنبياء، عليهم السلام، وإن كانوا بشراً يأكلون ويشربون، إلا أنهم تعتريهم الأعراض البشرية الخفيفة، مما لا يخل بإدراكهم، فيجري عليهم المرض الخفيف، والشيخوخة وكبر السن، ثم الانتقال ومفارقة هذه الدار الدنيا. ولكنهم فارقوا سائر البشر بصفات اختصوا بها، لا يشاركهم فيها غيرهم من البشر، وقد أجملها العلامة السيد المرزوقي في منظومته «عقيدة العوام» في قوله:

أرسل أنبياء ذوي فطانة                   بالصدق والتبليغ والأمانة

وجائز في حقهم من عرض               بغير نقص كخفيف المرض

عصمتهم كسائر الملائكة                  واجبة وفاضلوا الملائكة

وأما تفصيل هذه الصفات، فهو فيما يلي:

أ) الفطانة: هي الذكاء والنباهة، فلم يبعث أحد من الأنبياء إلا وكان على جانب عظيم من النباهة، والذكاء الزائد الخارق للعادة، مع كمال الرشد والعقل. قال تعالى في وصف نبيه إبراهيم عليه السلام: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ} [الأنبياء: ٥۱]. وقصة إبراهيم عليه السلام مع قومه، تدل على ذكاء ونباهة، في تصرفه مع الصنم الأكبر لقومه، وتعليقه الفأس أو القدوم في عنقه. وكذلك في قصته مع النمرود، طاغية عصره.

ب) الصدق: وهذه الصفة الكريمة، وإن كان الاتصاف بها من سائر الناس أمراً مطلوباً، إلا أنها بالنسبة للأنبياء الكرام صفة لازمة. بل هي من الصفات الفطرية فيهم، فلا يكون النبي نبياً إلا وهو صادق اللهجة، متخلياً عن كل ما يخل بوثاقته ومروءته أمام المدعوين. فلا يصح أن يتصف نبي من الأنبياء بأي صفة قبيحة كالبخل أو الكذب أو الخيانة. قال تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة: ٤٤ – ٤٦]. وإن تخلف الوعيد الذي تضمنته هذه الآية الكريمة، دليل لا يمكن رده في دعم وإثبات صدق الأنبياء عليهم سلام الله.

ج) التبليغ: وهي صفة خاصة بالأنبياء عليهم السلام، يقصد بها: أنهم بلغوا الوحي الذي أنزل عليهم، ولم يكتموا منه شيئاً. فقد قال تعالى على لسان نوح عليه السلام: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّ} [الأعراف: ٦۲]، وقال عن صالح عليه السلام: {لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَٰكِن لَّا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف: ٧٩]، وقال عن شعيب عليه السلام: {لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ}[الأعراف: ٩۳]، عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت: من حدثك أن محمداً صلى الله عليه وسلم كتم شيئا مما أنزل الله عليه، فقد كذَب، والله يقول: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك} [المائدة: 67]، ولو كان محمد – صلى الله عليه وسلم – كاتما شيئا مما أنزل عليه لكتم هذه الآية. أخرجه البخاري تعليقاً والترمذي وقال: حديث حسن صحيح.

د) الأمانة: وهي صفة حميدة، تقابلها وتضادها صفة الخيانة. وقد شهد الحق تعالى لرسله جميعاً بالأمانة على الوحي المقدس، قال تعالى: {الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحداً إلا الله وكفى بالله حسيبا}. وقال سبحانه: {وما هو على الغيب بضنين} أي: ليس بمتهم على الوحي والغيب.

ه) السلامة من العيوب المنفرة: فجميع أنبياء الله عليهم السلام مبرَّؤون عن العيوب والتشوهات الخلْقية والخلُقية. فهم وإن كانوا من البشر، تصيبهم العوارض المتنوعة، إلا أن المولى تعالى قد صان أنبياءه عن العوارض المنفرة، وسلمهم من الأمراض التي تشينهم. من برص، وجذام، وعرج، وحول، وغير ذلك.

 

قصة أيوب عليه السلام

كثير من كتب التفسير، ولاسيما تفاسير المتقدمين، محشوة بأخبار وقصص عن الأمم السابقة، يدخل أكثرها في عداد الإسرائيليات التي يتسامح في نقلها، ولا يثرب على من حكاها أو نقلها، ولكن عامة الناس تتعلق بها، وتظنها من صحاح الأخبار، وتعلق في أذهانهم على أنها حقائق ثابتة، مع أن كثيراً منها يصادم العقيدة ونصوص الكتاب والسنة.

فمن ذلك: ما رويَ أنّ نبي الله أيوب، عليه السلام، تساقط لحمه من شدة المرض، حتى أصبح الدود يخرج من جسمه، فاستقذره القريب والبعيد، ولم يصبر عليه إلا امرأته، وأنه عظم بلاؤه حتى أخرج من بيته، وألقي على كُناسة (مزبلة)!! إلى آخر ما هنالك من حكايات مكذوبة وقصص إسرائيلية تلقّفها بعض القُصّاص، ودخلت إلى بعض كتب التفسير، وهي تنافي (عصمة الأنبياء). نكتفي في هذا الصدد بكلام المفسِّر القرطبي.

فقد نقل القرطبيُّ في «تفسيره» [15/ 210-211] عن القاضي أبي بكر ابن العربي، رحمه الله، أنه قال: «لم يصحَّ عن أيوبَ في أمره، إلا ما أخبرنا الله عنه في كتابه، في آيتين: الأولى في قوله تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرّ} والثانية في (ص): {أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ}. وأما النبي صلى الله عليه وسلم فلم يصحَّ عنه أنه ذكره بحرفٍ واحدٍ، إلا قوله: «بينما أيوب يغتسل، إذ خرَّ عليه رجلٌ من جرادٍ من ذهب»، الحديث. وإذا لم يصحَّ فيه قرآن ولا سنة إلا ما ذكرنا؛ فمَن الذي يوصل السامعَ إلى أيوب خبره، أم على أيِّ لسَان سمعه!!

والإسرائيلياتُ مرفوضةٌ عند العلماء على البتات، فأعرضْ عن سطورها بصرَك، وأصمَّ عن سماعها أذنيك؛ فإنها لا تعطي فكركَ إلا خيالاً، ولا تزيد فؤادكَ إلا خبالاً.

وفي «الصحيح»، واللفظ للبخاريّ: أن ابنَ عباس قال: يا معشر المسلمين، تسألون أهل الكتاب! وكتابكم الذي أنزل على نبيكم أحدثُ الأخبار بالله، تقرؤونه محضاً لم يشَبْ، وقد حدثكُم أن أهلَ الكتاب قد بدلوا من كتب الله، وغيروا وكتبوا بأيديهم الكتب! فقالوا: هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً. ألا ينهاكم ما جاءكمُ من العلم عن مساءلتهم، فلا والله ما رأينا رجلاً منهم يسألكم عن الذي أنزل َعليكم! وقد أنكر النبيُّ صلى الله عليه وسلم في حديث (الموطأ) على عُمَر قراءته التوراة»، انتهى كلامه.

ومن العيوب المنفرة: الخرَف والفنَدُ، فهذا لا يصيب الأنبياء ولا الرسل، مهما بلغوا من العمر وكبر السن، فإنهم يظلون مكتملي القوى العقلية، والتفنيد ذكر في القرآن الكريم في قوله تعالى حكايةً عن نبي الله يعقوب عليه السلام: {إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون}. الفنَد، بالتحريك، أي: فتح النون، وهو الخرَفُ ونقصانُ العقلِ، وفسادُ الرأي من هرَمٍ. وجواب {لَوْلَا} محذوف تقديره: لولا تفنيدكُم إياي موجودٌ؛ لصدقتموني فيما أقول لكُم، كذا قدره الزمخشري. قال شيخنا الأمين الهرري في «حدائق الروح» [14/ 117]: «أي: امتنعَ تصدِيقكم لي لوجُود تفنيدكُم لي».

و) العصمة: وهذه سوف نتناولها في مقالة مستقلة، لكثرة مسائلها وتفصيلها.

والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل