هل يغفر الله البدعة؟

 يجيب عن السؤال الشيخ عبد السميع ياقتي

السؤال

هل يغفر الله البدعة؟

الجواب

الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على سيدنا محمد و على آله و صحبه أجمعين ، و بعد :

البدعة هي كل ما يخالف سنة النبي صلى الله عليه و سلم و منهجه، و هي ذنبٌ كباقي الذنوب ؛ يمكن للعبد أن يتوب و يرجع عنه إذا تحققت شروط التوبة الصحيحة، و ليستبشر بعد ذلك بمغفرة الله تعالى له و قبوله توبته ، و الله تعالى أعلم.

البيان و التفصيل:

قبل الإجابة على السؤال لا بد أن نتعرف على معنى البدعة و ما المراد منها و أنواعها، ثم نعقِّب بالكلام على قبول توبة المبتدع و رجوعه عنها و استغفاره منها.

فعَنْ أُمِّ المُؤْمِنِينَ؛ أُمِّ عَبْدِ اللهِ؛ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا؛ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيسَ مِنْهُ؛ فَهُوَ رَدٌّ». مُتَّفَقٌ عَلَيهِ (1)
وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيسَ عَلَيهِ أَمْرُنَا؛ فَهُوَ رَدٌّ».

أولاً – تَعْرِيفُ البِدْعَةِ:

أَصْلُ مَادَّةِ (بَدَعَ) في اللغة يقال: لِلِاخْتِرَاعِ عَلَى غَيرِ مِثَالٍ سَابِقٍ.
وَمِنْهُ قَولُ اللهِ تَعَالَى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [البَقَرَة: 117]، أَي: مُخْتَرِعُهُمَا مِنْ غَيرِ مِثَالٍ سَابِقٍ مُتَقَدِّمٍ، وَيُقَالُ: ابْتَدَعَ فَلَانٌ (بِدْعَةً) يَعْنِي ابْتَدَأَ طَرِيقَةً لَمْ يَسْبِقْهُ إِلَيهَا سَابِقٌ.
و على هذا بالبدعة في الاصطلاح الشرعي : هِيَ طَرِيقَةٌ فِي الدِّينِ مُخْتَرَعَةٌ تُضَاهِي الشَّرْعِيَّةَ، يُقْصَدُ بِالسُّلُوكِ عَلَيهَا المُبَالَغَةُ فِي التَّعَبُّدِ للهِ سُبْحَانَهُ (2).
قال الشاطبي – رحمه الله -: “ويُطلق – أي لقب السُّنَّة- في مقابلة البدعة فيقال: فلانٌ على سُنَّة إذا عمل على وفق ما عليه النبي – صلى الله عليه وسلم – كان ذلك مما نص عليه في الكتاب أولًا ويقال: فلان على بدعة: إذا عمل على خلاف ذلك”(3)

فالمراد بالبدعة في الشرع: هي كل ما يخالف سنة النبي صلى الله عليه و سلم هي طريقته و منهجه و هديه في الفعل و الترك و الأمر و النهي و القبول و الرد ، و هي طريقة خلفائه الذين سلكوا طريقته في الفعل و الأمر و القبول و الرد ..، كما قال الإمام عبد الله محفوظ الحداد باعلوي الحضرمي في كتابه القيم “السنة و البدعة”(4)

ثانياً – تُقْسَمُ البِدَعُ عُمُومًا إِلَى قِسْمَينِ: حسنة، وقبيحة.

كما نقل الحافظ البيهقي -في كتابه المناقب- عن الإمام الشافعي قولَه : ( المحدثات من الأمور ضربان: أحدهما ما أحدث يخالف كتاباً أو سنةً أو أثراً أو إجماعاً فهذه البدعة الضلالة. والثانية ما أحدث من الخير لا خلاف فيه لواحد من هذا وهذه محدثة غير مذمومة) (5).
فهذا هو الضابط في حسن البدعة أو قبحها كما أوضح الإمام الشافعي ، فليس كل ما تركه السلفُ مردوداً .
قال الإمام ابن دقيق العيد في شرح الأربعين النووية: (وقوله: “وإياكم ومحدثات الأمور” اعلم أن المحدث على قسمين: محدث ليس له أصل في الشريعة فهذا باطل مذموم. ومحدث بحمل النظير على النظير فهذا ليس بمذموم؛ لأن لفظ “المحدث” ولفظ “البدعة ” لا يذمان لمجرد الاسم بل لمعنى المخالفة للسنة والداعي إلى الضلالة، ولا يذم ذلك مطلقاً، فقد قال الله تعالى: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} . وقال عمر رضي الله عنه: “نعمت البدعة هذه” يعني التراويح). (6)

ثالثاً – حكم البدع من حيث قبول المغفرة و عدمه :

هناك من البدع ما يخالف العقيدة الثابتة، كبدعة التجسيم لله تعالى و مشابهة المخلوقات و غير ذلك ، و هناك بدع تخالف السنن و الأحكام الشرعية، و العياذ بالله تعالى
و حكم كل مبتدع- من حيث الكفر أو الفسق- يكون على حسب حال بدعته و اعتقاده بها، كما نقل الإمام عبد الله محفوظ الحداد باعلوي الحضرمي في كتابه “السنة و البدعة” في سياق التعليق على حديث النبي صلى الله عليه و سلم : ” فمن رغب عن سنتي فليس مني” حيث قال : ( فالرغبة عن السنة إن كان بنوع من التأويل فصاحبه معذور كما قال الحافظ [ابن حجر في فتح الباري]، و إن كان يرى أن عمله أفضل من عمل الرسول صلى الله عليه و سلم فهذا الذي تبرأ منه ؛ لأنه ضالٌ بهذا الاعتقاد لا بالعمل المشروع ..)(7)

بعد هذا البيان والتفصيل:

فإن البدعة ذنبٌ كباقي الذنوب، منها ما هو من الصغائر، و منها ما هو من الكبائر، و منها ما يُخرج عن الملة، و العياذ بالله تعالى؛ و بالتالي فإن حكمها كحكم تلك الذنوب من حيث التوبة و الاستغفار و الرجوع عنها و إصلاح اعتقاده فيها ، وهذا ما جاءت به النصوص الشرعية القطعية في القرآن والسنة.

– قال الله تعالى : ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيدًا﴾ [النساء 116]. و هذا بالنسبة للمشرك الذي مات على شركه و العياذ بالله تعالى و لم يتب أو يرجع كما ذكر المفسرون
و قال تعالى : ﴿إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ [البقرة 160]
و قال أيضاً : ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [الزمر 53]

– و عن أبي هريرة – رضي الله عنه -: أَنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ تابَ قبلَ طُلوعِ الشَّمسِ مِن مَغْربها، تابَ الله عَليهِ» . أخرجه مسلم (8)
– وعن أبي موسَى عبدِ اللهِ بنِ قَيسٍ الأشْعريِّ – رضي الله عنه – عن النَّبيّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ: «إنَّ الله تَعَالَى يَبْسُطُ يَدَهُ بالليلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، ويَبْسُطُ يَدَهُ بالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيلِ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِها». رواه مسلم (9)، و الأحاديث الصحيحة و الصريحة في ذلك كثيرة جداً
– فمن تاب و رجع عن بدعته و تحققت فيه شروط التوبة الصادقة؛ قبل الله منه كما دلت عليه النصوص الشرعية، و هذا مذهب جمهور علماء الأمة

– و هناك من قال أن المبتدع ليس له من توبة؛ وممن اختار هذا القول أبو إسحاق الشاطبي و غيره، و استدلوا بأحاديث لا تقوى على معارضة قول الجمهور ؛ إما لضعفها، أو لكونها مخصوصة بمن لم يتب و مات على بدعته. يقول الشاطبي : ( وَقَدْ جَاءَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْء} الْآيَةَ [الْأَنْعَامِ: ١٥٩] ، أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ -وَهَذَا حَدِيثُ عَائِشَةَ-، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “يَا عَائِشَةُ! إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دَيْنَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا، مَنْ هُمْ؟ “. قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: “هُمْ أَصْحَابُ الْأَهْوَاءِ وَأَصْحَابُ الْبِدَعِ، وَأَصْحَابُ الضَّلَالَةِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، يَا عَائِشَةُ! إِنَّ لِكُلِّ ذَنْبٍ تَوْبَةً؛ مَا خَلَا أَصْحَابَ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ، لَيْسَ لَهُمْ تَوْبَةٌ، وَأَنَا مِنْهُمْ بَرِيءٌ، وَهُمْ مِنِّيَ برءاء” )(10)

و يلخص الإمام السفارييني المسألة بقوله : ( فَأَمَّا الْبِدْعَةُ فَالتَّوْبَةُ مِنْهَا بِالِاعْتِرَافِ بِهَا، وَالرُّجُوعِ عَنْهَا، وَاعْتِقَادِ ضِدِّ مَا كَانَ يَعْتَقِدُ مِنْهَا…. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي الرَّجُلِ يُشْهَدُ عَلَيْهِ بِالْبِدْعَةِ فَيَجْحَدُ: لَيْسَتْ لَهُ تَوْبَةٌ، إنَّمَا التَّوْبَةُ لِمَنْ اعْتَرَفَ فَأَمَّا مَنْ جَحَدَ فَلَا تَوْبَةَ لَهُ.
وَفِي إرْشَادِ ابْنِ عَقِيلٍ: الرَّجُلُ إذَا دَعَا إلَى بِدْعَةٍ ثُمَّ نَدِمَ عَلَى مَا كَانَ، وَقَدْ ضَلَّ بِهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ وَتَفَرَّقُوا فِي الْبِلَادِ وَمَاتُوا؛ فَإِنَّ تَوْبَتَهُ صَحِيحَةٌ إذَا وُجِدَتْ الشَّرَائِطُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُ وَيَقْبَلَ تَوْبَتَهُ وَيُسْقِطَ ذَنْبَ مَنْ ضَلَّ بِهِ بِأَنْ يَرْحَمَهُ وَيَرْحَمَهُمْ، وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ خِلَافًا لِبَعْضِ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَهُوَ أَبُو إِسْحَاقَ بْنُ شَاقِلَا، وَهُوَ مَذْهَبُ الرَّبِيعِ بْنِ نَافِعٍ، وَأَنَّهَا لَا تُقْبَلُ، ثُمَّ احْتَجَّ بِالْأَثَرِ الْإِسْرَائِيلِيِّ الَّذِي فِيهِ ” فَكَيْفَ مَنْ أَضْلَلْت ” …، وَبِمَا رَوَى أَبُو حَفْصٍ الْعُكْبَرِيُّ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا، «إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ احْتَجَبَ التَّوْبَةَ عَنْ كُلِّ صَاحِبِ بِدْعَةٍ») (11)

و بناء على ما سبق :

أدعوك أخي السائل الكريم إلى تحري سنة النبي صلى الله عليه و سلم و اتباع ما يوافق منهجه و ترك كل ما يخالفه، و في حال وقع أحدنا في شيء من هذه المخالفات فليرجع و ليتب و ليستغفر، و سيجد الله غفوراً رحيماً، حفظنا الله و إياكم من البدع و أهلها و العمل بها، و الحمد لله رب العالمين.

المصادر و المراجع :

1- صحيح البُخاريُّ: رقم (2697) ، و صحيح مُسْلِم : رقم (1718)
2- كتاب الاعتصام، للشاطبي [1\50]
3- الموافقات، للشاطبي [4\4]
4- كتاب السنة و البدعة للإمام عبد الله محفوظ الحداد باعلوي الحضرمي ، صفحة (6).
5- مناقب الشافعي، للبيهقي [1/469]
6- شرح الأربعين النووية ،ابن دقيق العيد صفحة (98ـ) مؤسسة الريان الطبعة: السادسة
7- كتاب السنة و البدعة للإمام عبد الله محفوظ الحداد باعلوي الحضرمي ، صفحة (184).
8- صحيح مُسْلِم : رقم (2703)
9- صحيح مُسْلِم : رقم (2759)
10-الموافقات، للشاطبي : [5\154] و الاعتصام للشاطبي أيضاً :[1/ 86]
11- غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب ، المؤلف : شمس الدين محمد بن أحمد بن سالم السفاريني الحنبلي، مؤسسة قرطبة – مصر ، الطبعة : الثانية ،[2\581]

[الشيخ] عبد السميع ياقتي

الشيخ عبد السميع ياقتي عالم إسلامي من علماء سورية، مواليد حلب 1977م

نال الإجازة في الشريعة من كلية الشريعة جامعة دمشق، ودبلوم التأهيل التربوي من كلية التربية جامعة حلب، ودبلوم الشريعة والماجستير في الشريعة من كلية الشريعة والقانون جامعة أم درمان في السودان، وهو الآن بصدد إعداد أطروحة الدكتوراة في جامعة محمد الفاتح في إسطنبول

تتلمذ على أكابر العلماء: كالشيخ عبد الرحمن الشاغوري، والشيخ مصطفى التركماني، والشيخ الدكتور نور الدين عتر، رحمهم الله، والشيخ الدكتور محمود مصري، والعلامة الحبيب عمر بن سالم بن حفيظ و الشيخ عمر بن حسين الخطيب والشيخ محمد الأمين الشنقيطي وغيرهم من علماء الشام وحضرموت والإمارات.

عمل في مجال التدريس والتوجيه الثقافي في دار الأيتام وفي ثانويات حلب، وكان إماماً وخطيباً وقارئاً في مسجد الشيخ زايد في أبو ظبي، ومدرباً معتمداً للخطباء في برنامج تأهيل الخطباء في أبو ظبي

و يقوم بإعداد و تدريس برنامج تعليم الشباب في سيكرز عربية للعلوم الشرعية

للشيخ مؤلفات أهمها: إمام الحرمين الجويني بين علم الكلام وأصول الفقه، وبرنامج (رسول الله فينا) ﷺ