هل يجوز فرض رسوم تأخير على العملاء في دفع الأقساط؟
يجيب عن السؤال الشيخ أحمد الأحمد
السؤال
هل يجوز فرض رسوم تأخير على العملاء في دفع الأقساط؟
الجواب
بسم الله والحمد لله والصلاة على رسول الله وبعد:
إذا تأخر المَدِينُ عن سداد دينه في وقته المحدَّد يكون قد فوَّتَ في تلك الفترة على الدائن مثل ربحه الذي حققه بتوظيف مال يساوي المال الذي ماطل فيه المدين أو يكون قد تسبَّبَ في إيقاع ضررٍ كغرامات ماليَّةٍ سَبَبُهَا شروطٌ جزائيَّةٌ مقابل إخلاله بتنفيذ التزاماتٍ عَقَدَها الدائن مع أفرادٍ أو مؤسَّساتٍ ونحوِها، فهل يُلزَمَ المماطلُ بدفع مثل هذه الأرباح المساوية لما ربحه الدائن في فترة المماطلة، أو دفعِ الضرر الماليِّ الذي وقع عليه؟ [1].
لعلَّ أوَّلَ من أثار هذه المسألة للنقاش فضيلة الشيخ مصطفى الزرقا – رحمه الله – فقد قال: (لم يعالج فقهاء المذاهب فيما أعلم قَبْلًا هذه المسألة – أعني: تعويض الدائن عن تأخير الوفاء المستحقّ في المداينات – ولم يبحثوها، مَرَدُّ ذلك في تقديري إلى ثلاثة أمور:
الأوَّل: لم يكن لهذا الأمر من الأهمية والتأثير في حركة التعامل والتجارة، كما أصبح له في العصر الحاضر.
الثاني: إن وصول الدائن إلى حقه عن طريق القضاء عند تأخير المدين ومماطلته كان ميسورًا وسريعًا، على خلاف ما هو عليه اليوم في عصرنا الحاضر.
الثالث: إن هذه المسألة فيها من الحساسية الشرعيَّة ما يمكن أن يكون من جملة العوامل في عدم بحثها، وهي خوف الوقوع في الربا) إهـ [2]
ولا ينبغي أن يُسَلَّمَ للشيخ مصطفى الزرقا أن الفقهاء لم يبحثوا هذه المسألة، بل بحثوها ولكن لم يفردوها بمباحث خاصة؛ لأنها داخلة عندهم في عموم الربا؛ لذا لم يعسر على جمهور الفقهاء المعاصرين أن يجدوا العديد من الأدلَّة التي تُدخل هذه المسألة في الربا الذي غلَّظ القرآن الكريم العقوبة لمتعاطيه.
حكم هذه المسألة:
اختلف الفقهاء المعاصرون في حكم هذه المسألة وفي عقوبة المدين المماطل بدفع غرامة ماليَّة مقابل الضرر الناتج سواء عن طريق فوات الربح، أو عن طريق وقوع الضرر؛ على ثلاثة أقوال:
القول الأوَّل:
تحريم تعويض الدائن عما فاته من ربح، أو ما وقع عليه من ضرر. وهذا قول القدماء وجمهور الفقهاء المعاصرين.
منهم الدكتور وهبة الزحيلي في كتابه، (المعاملات المالية المعاصرة)، ونزيه حماد في كتابه، (دراسات في أصول المداينات)، والعثماني في كتابه، (بحوث في قضايا فقهية معاصرة)، وعثمان شبير في كتابه، (صيانة المديونيات ومعالجتها من التعثر في الفقه الإسلامي)، ومحمد الأشقر في (بحوث فقهية في قضايا اقتصادية معاصرة) وآخرون
كعجيل النشمي، والسعيدي، وحسن الأمين، وابن بَيَّه، ورفيق المصري، ومحمد القري وآخرين، في أبحاث لهم.
ويحرم على المدين المليء أن يماطل في أداء ما حَّل وقت دفعه من الأقساط، ومع ذلك لا يجوز شرعًا اشتراطُ التعويض في حالة التأخُّرِ عن الأداء”[3].
مستدلين بالأدلِّة التالية:
فالآية دلَّتْ على تحريم الربا وإبطاله، وهو زيادة في الدَّيْنِ مقابل الأجل [4]، وتغريمُ المَدِينِ ما حصل من الضرر في مدة المماطلة فالغرامة في الحقيقة إنما هي زيادة في دين ثابت مقابل الأجل، وهو عين الربا الذي نزلت الآيات بإبطاله، واختلاف الألفاظ لا يغير في الحقائق شيئاً [5].
فالآية الكريمة دلَّت على أنَّ للدائن رأسَ ماله فقط، ولم تفرق بين مَدِينٍ مُعْسِرٍ ومَدِينٍ مُماطِلٍ، فالزيادة على رأس المال ربًا، وإن كان المماطل ظالمًا بمَطْلِهِ، فإنّه لا يجوز دَفْعُ الظلم بظلم آخر [6].
فالمطل كان موجودًا في عصر النبي – صلى الله عليه وسلم – ونَصَّ النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – أنَّ المَطْلَ يُحِلُّ عرض المماطِل وعقوبتَه، ولم يقل: يُحِلُّ مالَه، ولو كان جائزًا لبيَّنه النبي – صلى الله عليه وسلم -؛ لمسيس الحاجة إليه، والسكوتُ في وقت الحاجة بيانٌ [8].
الدليل الرابع: أن مسألة المماطلة ليست مسألةَ نازلةٍ تحتاج إلى اجتهاد جديد، بل هي من المسائل القديمة التي يكثر وقوعها، ولم يُنقل عن أحد من الفقهاء قبل هذا العصر أنه أفتى بجواز تغريم المماطل غرامةً ماليَّةً لمصلحة الدائن؛ مما يَدُلُّ على أنها عندهم من الربا المُحَرَّم [9].
الدليل الخامس: إنَّ تغريم المماطِل بغرامة ماليَّةٍ إنْ لم يكن ربًا في ذاته، فهو ذريعة موصِلَةٌ إليه، ومن القواعد الفقهية قاعدة: “سد الذرائع”[10]، والقول به يفتح باب الربا، كما حصل للنصارى [11] فقد استحلوا الربا المحرم في شريعتهم بسبب دعوى التعويض عن الضرر [12].
القول الثاني:
جواز تعويض الدائن عمَّا فاته من ربح، أو ما وقع عليه من خسائر وأضرار. وهو قولٌ لبعض الفقهاء المعاصرين منهم: الدكتور مصطفى الزرقا وقد ذَكَرَ ذلك في بحثه: (حول جواز إلزام المدين المُماطِل بتعويض الدائن)، والشيخ عبدالله بن منيع، ذَكَرَ ذلك في بحثه (مطل الغني ظلم وأنه يحل عرضه وعقوبته)، والدكتور محمد الأمين الضرير، والدكتور عبدالحميد السائح ذَكَرَ ذلك في (أعمال الندوة الفقهية الرابعة لبيت التمويل الكويتي)، والدكتور عبدالحميد البعلي ذَكَرَ ذلك في كتابه (أساسيات العمل المصرفي الإسلامي الواقع والآفاق).
قول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ [المائدة: 1].
وقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾ [النساء: 58].
وقوله تعالى: ﴿وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا﴾ [الإسراء: 34].
وقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ﴾ [النحل: 90].
فالملاحَظُ من الآيات أن الله تعالى أمر بالوفاء بالعقود، وأداء الأمانة، والعدل، وأَمْرُ اللهِ واجبُ الامتثالِ، ومن حاد عن العدل كان ظالمًا، والظالم إذا أدى ظلمُه إلى إلحاق الضرر بالغير، فهو مسؤول عن ذلك، ولا شكَّ أن المدين المماطل ظالم، وقد حَرَمَ الدائنَ من الانتفاع بماله، مما يوجب مسؤوليته عن ذلك، فتغريمه غرامة مالية مقابل الضرر الذي لحق الدائن من العدل الذي أمر الله به [13].
فالنبي صلى الله عليه وسلم نصَّ في هذا الحديث على تحريم الضرر وأمر بإزالته، ولا يزول الضرر الواقع على الدائن إلا بتعويضه ماليًّا عن فوات منافع ماله مدَّةَ المماطلة، ومعاقبةُ المدين المماطل بغير الغرامة الماليَّة لا يفيد الدائن شيئًا، فلا يزول ضرره إلا بالتعويض الماليِّ [15].
فالحديث دلَّ على أنَّ المماطل يستحقُّ العقوبة، ومن أنواع العقوبة التعزير بالمال، وهي مشروعة كما قرر ذلك المحقِّقون من أهل العلم كأبي يوسف من الحنفية، وابن فرحون من المالكية، وابن تيمية، وابن القَيِّم من الحنابلة [17].
الدليل الرابع: أنَّ الأصل في الشروط الصحة واللزوم، واشتراط تغريم المدين المماطل شرط صحيح؛ لأنه يتفق مع قواعد الشريعة، ولم يَرِدْ نهيٌ عنه بخصوصه [18].
الدليل الخامس: أنَّ من المصلحة تغريم المدين المماطل؛ لأن هذا يَحمِلُه على الوفاء بالدين، وألا يتأخَّرَ في التسديد [19].
الدليل السادس: أن من أُسس الشريعة ومقاصدها العامة عدم المساواة بين الشخص العَدْلِ والشخص الظالم، ولا شك أن مماطلة المدين ظلم بشهادة النصوص الشرعية، وفيه ضرر لصاحب الحق بحرمانه من منافع ماله مدة التأخير التي قد تطول كثيرًا، فإذا لم يغرم المدين المماطل، كانت النتيجة أن هذا الظالم العاصي يتساوى مع العدل المطيع، وهذا يشجع كل مدين على المماطلة وتأخير الحقوق، وهذا خلاف مقاصد الشريعة وسياستها الحكيمة قطعًا [20].
القول الثالث:
عدم جواز تعويض الدائن عما فاته من ربح، وجواز تعويضه عما وقع عليه من أضرار، وهو قولٌ لبعض الفقهاء المعاصرين. منهم: الدكتور زكي الدين شعبان كما في تعليقه على (بحث الدكتور الزرقا في مجلة جامعة الملك عبد العزيز)، والدكتور محمد زكي عبد البر، كما في تعليقه على رأي (الضرير في مجلة جامعة الملك عبد العزيز)، والدكتور سليمان التركي، كما في كتابه (بيع التقسيط وأحكامُه) [21].
أدلة أصحاب القول الثالث لا تخرج عن أدلة القول الثاني، إلا أنهم اشترطوا أن يكون التعويض عن ضرر الخسائر الواقعة فعلًا بسبب مماطلة المدين، وليس عن ضرر محتمل، أو ربح متوقع، أو محقق الوقوع.
الترجيح:
ملحوظة: أخي السائل اعلم أنه إذا دار الأمر بين مُحَلِّلٍ ومُحَرِّمٍ فينبغي أن تحتاط لأمر دينك وتأخذ بقول المحرِّم استبراء لدينك وعرضك.
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
……………………………………..
(13)انظر: حول جواز إلزام المدين المماطل بتعويض للدائن، للزرقا 13-14.