هل كُتب القرآنُ كلُّه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم؟

 يجيب عن السؤال الشيخ أنس الموسى

السؤال

هل كُتب القرآنُ كلُّه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم؟

الجواب

                                         بسم الله الرحمن الرحيم
نعم كُتِبَ القرآنُ كلُّه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فبالإضافة إلى أن الله تعالى قد جَمَعَ القرآنَ في صدر النبي صلى الله عليه وسلم، كما وَصف ذلك بقوله: ﴿لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا ‌جَمْعَهُ ‌وَقُرْآنَهُ ﴾ [القيامة: 16-17] كان أصحاب المصطفى صلى الله عليه وسلم يجمعون القرآن في صدورهم، ويؤكد هذا وصية النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: ” ‌خُذُوا ‌الْقُرْآنَ مِنْ أَرْبَعَةٍ: مِنَ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَسَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ “. (1)
لكن الاعتماد على صّدور الصحابة وحدهم لم يكن كافيًا لحفظ الكتاب الّذي أراد الله تعالى له أن يكون دستوراً للبشرية إلى قيام السّاعة؛ لأنّ حفظ الصّدر – لغير النبي صلى الله عليه وسلم – قابلٌ لأن يعتريه بعض العوارض البشرية كالنّسيان والوهم، كما أنَّ بناء الثّقة في الدّين على الحفظ مجرّداً غير ممكن؛ لذلك كانت الكتابة ضرورةً لا بدّ منها لحفظ كلام الله تعالى وإبقاء قدسيّته؛ فالكتابة لونٌ من الحفظ يدوم مع الزمان، ولا يذهب بذهاب الإنسان.
و قد أَشْعَرَ القرآنُ نفسُه بضرورة الكتابة في مواضع كثيرة منه؛ حين سماه (كتاباً)، كقوله تعالى: ﴿ذَلِكَ ‌الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [البقرة: 2] ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ‌الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ [البقرة: 121] وهذا يقتضي أن يكون مكتوبًا.
وفي سبيل هذا فإن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قد اتّخذ جماعةً مأمونةً من أصحابه ممّن كان
يَعْرِفُ الكتابة، ليكتبوا عنه ما كان ينزل عليه من الوحي، ومنهم: عليّ بن أبي طالب، وزيد بن ثابت، وأبيّ بن كعب، ومعاوية بن أبي سفيان، رضي الله عنهم.
كما أذن النبي صلى الله عليه وسلم إذناً عامًّا لكلّ من شاء أن يكتب القرآن الذي كان ينزل عليه صلى الله عليه وسلم. وحتى لا يختلط القرآن بما ليس منه أوصاهم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لهم: ” لَا تَكْتُبُوا عَنِّي شَيْئًا غَيْرَ الْقُرْآنِ، فَمَنْ كَتَبَ عَنِّي شَيْئًا ‌غَيْرَ ‌الْقُرْآنِ، ‌فَلْيَمْحُهُ “. (2)
ومن الأدلة التي تؤكد تدوين القرآن في عهده صلى الله عليه وسلم قوله: “‌لَا ‌تُسَافِرُوا ‌بِالْقُرْآنِ. فَإِنِّي لَا آمَنُ أَنْ يَنَالَهُ الْعَدُوُّ”. (3) ومنها كتابه صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم: “أَنْ ‌لا ‌يَمَسَّ ‌الْقُرْآنَ إِلَّا طَاهِرٌ”. (4)  وكل هذا يدل بشكل واضح على وجود المصاحف عندهم مجموعة.
وأخيراً: همة المصطفى صلى الله عليه وسلم وأصحابُه كان منصرفةً أول الأمر إلى جمع القرآن في القلوب بحفظه واستظهاره؛ فالنبي أمي بعثه الله في الأميين، كما أن أدوات الكتابة لم تكن ميسورة لديهم في ذلك العهد؛ فكان التعويل على الحفظ في الصدور، وكان هذا النوع من الحفظ يفوق الحفظ في السطور، على عادة العرب الذين جعلوا من صفحات صدورهم وقلوبهم دواوين لأشعارهم وأنسابهم ومفاخرهم. لكن عناية النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابِه بحفظ القرآن واستظهاره  لم تصرفهم عن عنايتهم بكتابته ونقشه، وإن كان بالمقدار الذي سمحت به وسائل الكتابة وأدواتُها في عصرهم.
وهكذا لم يلتحق المصطفى بالرفيق الأعلى إلاَّ والقرآن مجموعٌ في صدور عدد كبير من أصحابه، بالإضافة إلى أنه كان مكتوباً كلُّه في حياته وبإشرافه صلى الله عليه وسلم.
وصدق الله تعالى إذ يقول: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ ‌لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9] (3)
وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


(1):صحيح البخاري (3597)؛ صحيح مسلم (2464).
(2):صحيح مسلم (3004)؛ مسند أحمد (11536) واللفظ له.
(3):صحيح مسلم (1868)؛ مسند أحمد (4507).
(4):موطأ مالك برواية أبي مصعب الزهري (234).
(5): ينظر: الإتقان في علوم القرآن للسيوطي (1/202)؛ مناهل العرفان للزرقاني (1/246)؛ علوم القرآن د. عتر ص161؛ المحرر في علوم القرآن د. مساعد الطيار ص150.