هل علم أسباب النزول حقيقي؟ وكيف نعرف صحة هذه القصص؟

يجيب عن السؤال الشيخ أنس الموسى 

السؤال

 هل علم أسباب النزول حقيقي؟ وكيف نعرف صحة هذه القصص؟

الجواب

 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
نعم علم أسباب النزول واقع وثابت وحقيقي؛ لأن العلم بأسباب النزول لا يدخل في دائرة الرأي والاجتهاد، وإنما طريقه الرواية والنقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أصحابه؛ فهو ثابت بثبوت الأخبار المروية بالطرق الصحيحة. ولا نعني بهذا أن كل خبرٍ يَرِدُ مبيِّناً سبب نزول آية من الآيات يكون ثابتاً، بل ما تحققت فيه شروط القبول، كما سنوضحه بعد قليل.

المقصود بسبب النزول: هو ما نزلت الآية أو الآيات تتحدث عنه، أو تبيِّنُ حكمه أيام وقوعه.

قولنا في التعريف: (أيام وقوعه) أي الظروف التي ينزل القرآن فيها متحدثًا عن ذلك السبب، أما إخبار القرآن عن الوقائع الماضية، كقصة عاد وثمود، وبناء البيت… فهذا لا يندرج تحت أسباب نزول الآيات؛ لأنه إخبار عن تلك الأمم وتلك الأحداث، ولم ينزل القرآن بسببها، بل هي آيات نزلت ابتداء من غير سبب، فقدوم الأحباش لهدم البيت -مثلاً – ليس سبباً في نزول سورة الفيل.

ومن أمثلة أسباب النزول

” اشْتَكَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَقُمْ لَيْلَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، فَجَاءَتْهُ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: يَا مُحَمَّدُ إِنِّي أَرْجُو أَنْ يَكُونَ ‌شَيْطَانُكَ ‌قَدْ ‌تَرَكَكَ لَمْ أَرَهُ قَرِبَكَ مُنْذُ لَيْلَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿‌وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى﴾ [الضحى: 1-3] (1)
قال الإمام الواحدي في ديباجة كتابه أسباب النزول: «ولا يحل القول في أسباب نزول الكتاب إلاَّ بالرواية والسماع ممن شاهدوا التنزيل ووقفوا على الأسباب، وبحثوا عن علمها وجدّوا في الطِّلاب، وقد ورد الشرع بالوعيد للجاهل ذي العثار، في هذا العلم بالنار». (2)
كلام الواحدي السابق يبين أن سبب النزول أمرٌ واقعٌ نزلت الآية بشأنه، وأن الرأي والاجتهاد لا يمكنه الاهتداء والوقوف إلى معرفة سبب نزول الآيات، وأن طريق معرفة سبب النزول هو الرواية فقط؛ لهذا فإن الحكم على ثبوت السبب أو عدم ثبوته، إنما يتم بالنظر في ثبوت الرواية التي نَقلت هذا السبب، وهذا مرجعه علم الحديث الذي ذُكرت فيه قوانين قبول الرواية وردُّها، فكل رواية ذَكرت سبباً لنزول آية من الآيات، وتحققت فيها شروط القبول عند أهل الحديث؛ فهي رواية مقبولة؛ ويكون السبب ثابتاً يمكن الاستدلال به، وما لا فلا.

فالسبيل لمعرفة صحة القصص الواردة في سبب النزول، يكون بالرجوع لأقوال علماء الحديث؛ لهذا
كان لا بد أن يَعْرِضَ للروايات الواردة في سبب النزول ما يَعْرِضُ للروايات الحديثية من صحة وضعف، واتصال وانقطاع، وغير ذلك؛ لذلك ليس كل ما يَرِدُ في أسباب النزول يكون مقبولاً، بل منه المقبول ومنه الضعيف، ومنه المردود.
وقد تشدد السلف الصالح في البحث عن أسباب النزول، حتى قال الإمام محمد بن سيرين: سألت عَبيدة عن آية من القرآن فقال: اتق الله وقل سدادًا، ذهب الذين يعلمون فيم أَنزل الله من القرآن. (3)

ملحوظات تتعلق بمعرفة سبب النزول:

1- الروايات الواردة في أسباب النزول عن الصحابة، وتحققت فيها شروط القبول التي بيَّنها علماء الحديث، مقبولة؛ لأن قول الصحابي فيما لا مجال للاجتهاد فيه، حكمه حكم المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يَبْعُدُ كلّ البُعد أن يكون الصحابي قد قال ذلك من تلقاء نفسه، على حين أنه خبر لا مردَّ له إلا السماع والنقل أو المشاهدة والرؤية.

2- من عادة الصحابة والتابعين أن أحدهم إذا قال: “نزلت هذه الآية في كذا”، أو «في الرجل يفعل كذا» فإنه يريد بذلك بيان موضوع الآية، وأن هذه الآية تتضمن هذا الحكم، لا أنَّ هذا كان السبب في نزولها …؛ فهو من جنس الاستدلال على الحكم بالآية، لا من جنس النقل لما وقع. كقوله تعالى: ﴿وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ‌وَلَا ‌تُلْقُوا ‌بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ [البقرة: 195] قال حذيفة بعد ذكره الآية: «‌نَزَلَتْ ‌فِي ‌النَّفَقَةِ».(4) فمعنى كلام حذيفة أن الآية تفيد حكم النفقة، أو موضوع الآية هو النفقة، وليس مراده أن سبب نزولها هو النفقة. (5)

3- ليس كل القرآن نزل على أسباب؛ فمن القرآن ما نزل بسبب، ومن القرآن ما نزل دون سبب.

4- يمكن أن تتعدد أسباب النزول والمنزّل واحد؛ وذلك بأن تقع عدة وقائع في أزمنة متقاربة فتنزل الآية لأجلها كلِّها، وذلك واقع في مواضع متعددة من القرآن، والعمدة في ذلك على صحة الروايات، فإذا صحّت الروايات بعدة أسباب، ولم يكن ثمَّة ما يدل على تباعدها؛ كان ذلك دليلاً على أن الكل سببٌ لنزول الآية أو الآيات؛ وكون الآية موجودة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في النزول الأول لا يمنع من نزولها ثانيةً؛ فالنّزول الأوّل تناول الحدث الأوّل مع الإعلام للنّبيّ صلى الله عليه وسلم بما تضمّنته الآية من عموم الحكم لنظائر تلك الواقعة وأشباهها، والنّزول الثّاني ليُعلَم أنّ الحدث الجديد مرادٌ بتلك الآية على سبيل القطع واليقين، إذ كلّ آية تنزل لسبب فإنّ إرادة السّبب بها قطعيّة. (6)
ويمثَّل لما تعدد فيه سبب النزول، ما وقع في نزول آيات اللعان، حين قَذف هلال بن أميّة امرأته بِشَرِيكِ ابْنِ سَحْمَاءَ، وحين قذف عويمر العجلانيّ امرأته برجل، وفي كلا القصّتين ما يبيّن أنّ الآيات نزلت بسببها.(7)

5- من فوائد معرفة أسباب النزول: أ- معرفة الوجه الّذي يكون عليه معنى الآية، وإزالة أي إشكال قد يرد في بيان معناها: وهذا يعني أنّ معرفة سّبب النزول أصل في تفسير الآية، ولذلك يهتدي به المفسّرون لإدراك معاني القرآن. قال ابن دقيق العيد: «بيان سبب النزول طريق قوي في فهم معاني القرآن». وقال الواحدي: لامتناع معرفةِ تفسير الآية وقصدِ سبيلِها، دون الوقوف على قصتها ‌ “. (8)

ب-إدراك حكمة التّشريع، ومعرفة مقاصد الشّريعة، وكيف أنّ الأحكام الشّرعيّة كانت تأتي مناسِبةً للواقع، ومسايرة للحدث، ومحقّقة ومستوفية حاجة المكلّف، فمن قرأ أسباب نزول آيات تحريم الخمر متدرجة واحدة بعد الأخرى، أدرك ضرورة تحريم الخمر.(9)

وأخيراً:

أنصح السائل – الراغب بمعرفة أسباب النزول – النظر في الكتب المؤلفة في هذا العلم ومنها: “أسباب النزول” لأبي الحسين علي بن أحمد النيسابوري الشهير بالواحدي. وكتاب: “لباب النقول في أسباب النزول” للإمام جلال الدين عبد الرحمن السيوطي. مع ملاحظة أنه ليس كل ما ورد في هذه الكتب مقبولٌ مطلقاً، وإن كانت مخصصة لأسباب النزول. والله تعالى أعلم

وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

(1): صحيح البخاري (4667).
(2): أبو الحسن علي بن أحمد الواحدي أسباب النزول ص10.
(3): ينظر: الواحدي أسباب النزول ص11؛ ابن حجر العسقلاني العجاب في بيان الأسباب (1/106)؛ السيوطي لباب النقول في أسباب النزول ص3؛ مقبل بن هادي الوادعي الصحيح المسند من أسباب النزول ص8.
(4): صحيح البخاري (4244).
(5): ينظر: البرهان في علوم القرآن للزركشي (1/22)؛ الإتقان في علوم القرآن للسيوطي (1/108)؛ مناهل العرفان للزرقاني (1/114)؛ علوم القرآن د. نور الدين عتر ص48.
(6): ينظر: تفسير مقاتل بن سليمان (5/145)؛ الإتقان في علوم القرآن (1/121)؛ مناهل العرفان (1/119)؛ علوم القرآن الكريم د. نور الدين عتر ص50؛ المقدمات الأساسية في علوم القرآن ص48.
(7): ينظر: قصة هلال بن أمية في صحيح البخاري (4470)، وقصة عويمر العجلاني (4471).
(8): الواحدي أسباب النزول ص8.
(9): ينظر: البرهان في علوم القرآن للزركشي (1/22)؛ الإتقان في علوم القرآن للسيوطي (1/108)؛ علوم القرآن الكريم د. نور الدين عتر ص46.

[الشيخ] أنس الموسى

الشيخ أنس الموسى هو الشيخ الحافظ الجامع أنس الموسى بن محمد بشير من مواليد سوريا – حماة 1974م 

تخرج في المعهد الهندسي قسم الإنشاءات العامة بدمشق، وتخرج في جامعة الأزهر كلية أصول الدين تخصص الحديث النبوي. 

قرأ على كبار علماء دمشق، منهم الشيخ عبد الرحمن الشاغوري والشيخ أديب الكلاس وغيرهم.

حفظ القرآن وأُجير به وبالقراءات العشر المتواترة،  على الشيخ بكري الطرابيشي والشيخ موفق عيون، كما وتخرج من مدرسة الحديث العراقية.

درس الكثير من المواد الشرعية في المعاهد الشرعية في سوريا وتركيا.

إمام وخطيب لمدة تزيد على 15 سنة.

مدرس للقرآن الكريم بمختلف قراءاته ورواياته.

حالياً يعمل كمدرس في مؤسسة سيكيرز، ومسؤول التوجيه الأكاديمي فيها.

أنهى مرحلة الماجستير في الحديث النبوي، وهو الآن يكمل في مرحلة الدكتوراه بنفس التخصص، متزوج ومقيم في إستانبول.