متى يجوز الكذب؟

 يجيب عن السؤال الشيخ عبد السميع ياقتي

السؤال

متى يجوز الكذب؟

الجواب

الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على سيدنا محمد و على آله و صحبه أجمعين ، و بعد :

الكذب كبيرة من الكبائر، و علامة من علامات النفاق، و هو طريق مباشر يهدي صاحبه إلى النار و العياذ بالله تعالى، و النصوص الشرعية في تحريمه و تجريمه أكثر من أن تحصى، و لكن يجوز الكذب في بعض الحالات التي ذكرها العلماء، و التي دلت عليها النصوص و القواعد الشرعية، و منها: إذا تعيّنَ الكذب للحفاظ على المقاصد الشرعية المعتبرة أو تحصيلها للنفس أو للغير ، و كذلك في حالة الحرب و الحفاظ على قوة المسلمين و تخذيل أعدائهم ، و كذلك في حالة الحفاظ على استقرار الأسرة و سعادتها فيما يوافق الشرع ، وكذلك في الحفاظ على استقرار و سلامة المجتمع و فض المشاكل بين الناس، و الله تعالى أعلم.

البيان و التفصيل :

الكذب: هو الإخبار عن الشيء بخلاف ما هو عليه في الواقع.
يقول الإمام النووي- في كتابه الأذكار- نقلاً عن الإمام الغزالي : ( واعلم أن مذهبَ أهل السنّة أن الكذبَ هو الإخبار عن الشيء بخلاف ما هو، سواء تعمدتَ ذلك أم جهلته، لكن لا يأثمُ في الجهل، وإنما يأثمُ في العمد) (1)
و الكذب كبيرة من الكبائر، و علامة من علامات النفاق، و هو طريق مباشر يهدي صاحبه إلى النار و العياذ بالله تعالى، و قد ورد في حقه و حق صاحبه من الوعيد ما لا يمكن للمؤمن الصادق العاقل، أن يقبله أو يرضى به لنفسه أو لغيره من المؤمنين؛ فهو صفة الكافرين وحالهم، و آية المنافقين و علامتهم. يقول الله تعالى :﴿ إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ ﴾ [النحل 105]
و يقول أيضاً : ﴿وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ ﴾[النحل 116]

-وعن ابن مسعود – رضي الله عنه – قَالَ: قَالَ رسولُ اللهِ – صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى البِرِّ، وإنَّ البِرَّ يَهْدِي إِلَى الجَنَّةِ، وإنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا. وإنَّ الكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الفُجُورِ، وإنَّ الفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وإنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ كَذَّابًا». متفقٌ عَلَيْهِ.(2)

-وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: أن النَّبيّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ: «أرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ، كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ، كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ نِفاقٍ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا اؤْتُمِنَ خانَ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ». متفق عَلَيْهِ. (3)

و النصوص الشرعية الواردة في تحريم و تجريم الكذب أكثر من أن تحصى ، و لكن هناك حالات استثناها الشرع من حكم التحريم لمراعاة مصالح شرعية معتبرة،
و قد عقد الإمام النووي في كتابه رياض الصالحين باباً خاصاً سماه : باب بيان ما يجوز من الكذب.
يقول -رحمه الله -في بدايته : ( اعلَمْ أنَّ الكَذِبَ، وإنْ كَانَ أصْلُهُ مُحَرَّمًا، فَيَجُوزُ في بَعْضِ الأحْوَالِ بِشُروطٍ قَدْ أوْضَحْتُهَا في كتاب الأَذْكَارِ ….) (4). و سأذكر كلامه باختصار و تصرف.

الحالات التي يجوز فيها الكذب :

الحالة الأولى – إذا تعيّنَ الكذب أو كان هو الوسيلة الوحيدة إِلَى تحصيل المَقَاصِدِ الشرعية المعتبرة له أو لغيره:
يقول النووي نقلاً عن الغزالي: (فَكُلُّ مَقْصُودٍ مَحْمُودٍ يُمْكِنُ تَحْصِيلُهُ بِغَيْرِ الكَذِبِ يَحْرُمُ الكَذِبُ فِيهِ، وإنْ لَمْ يُمْكِنْ تَحْصِيلُهُ إِلَاّ بالكَذِبِ، جازَ الكَذِبُ. فإذا كَانَ تَحْصِيلُ ذَلِكَ المَقْصُودِ مُبَاحًا كَانَ الكَذِبُ مُبَاحًا، وإنْ كَانَ وَاجِبًا، كَانَ الكَذِبُ وَاجِبًا …،)
أمثلة ذلك :
– إذا اخْتَفَى مُسْلِمٌ مِنْ ظَالِمٍ يُريدُ قَتْلَهُ أَوْ أَخذَ مَالِهِ، وأخفى مالَه، وَسُئِلَ إنْسَانٌ عَنْهُ؛ وَجَبَ الكَذِبُ بإخْفَائِه.
– وكذا لو كانَ عِندَهُ وديعَةٌ لغيره، وأراد ظالمٌ أخذها، وجبَ الكذبُ بإخفائها.
– كذا لو سألَه السلطانُ أو الحاكم أو القاضي عن فاحشةٍ ارتكبها فيما بينَه وبينَ الله تعالى، و ليست من حقوق العباد، فله أن ينكرَها ويقول: ما زنيتُ، أو ما شربتُ مثلاً. وقد اشتهرتِ الأحاديث بتلقين الذين أقرّوا بالحدود الرجوع عن الإِقرار.
– أن يُسأَلَ عن سرّ أخيه فينكرَهُ.
و هنا -في هذه الحالات-ينبغي مراعاة القواعد الشرعية في جلب المصلحة و درء المفسدة، و كذلك ما يتعلق بحق نفسه أو حق غيره، فيباح له الكذب في حفظ حق نفسه -مثلاً – فهذا الأمر له أن يتساهل و يتسامح فيه، و أما حق غيره فلا يتساهل فيه؛ فيجب الكذب في حفظ حق غيره.
يقول النووي نقلاً عن الغزالي : ( وينبغي أن يُقابِلَ بين مَفسدةِ الكذب والمفسدةِ المترتبة على الصدق، فإن كانت المفسدةُ في الصدق أشدّ ضرراً، فله الكذبُ، وإن كان عكسُه، أو شكّ، حَرُمَ عليه الكذبُ ، ومتى جازَ الكذبُ، فإن كان المبيحُ غرضاً يتعلّقُ بنفسه، فيستحبّ أن لا يكذبَ، ومتى كان متعلقاً بغيره، لم تجز المسامحةُ بحقّ غيره، والحزمُ تركه في كل موضعٍ أُبيحَ، إلا إذا كان واجباً. )

الحالة الثانية – في حالة الحرب، و استكشاف المعلومات، و المحافظة على قوة المسلمين و نصرهم على أعدائهم:

-كما في غزوة بدر : عندما وقف رسول الله -صلى اللَّه عليه وسلم-عَلَى شَيْخٍ مِنَ العَرَبِ، يُقَالُ لَهُ: سُفْيَانُ الضَّمْرِيُّ، فَسَأَلهُ الرَّسُولُ -صلى الله عليه و سلم- عَنْ قُرَيْشٍ وَعَنْ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ وَمَا بَلَغَهُ عَنْهُمْ، فَقَالَ الشَّيْخُ: لَا أُخْبِرُكُمَا حَتَّى تُخْبِرَانِي مِمَّنْ أَنْتُمَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: “إِذَا أَخْبَرْتَنَا أخْبَرْنَاكَ” قَالَ: أَذَاكَ بِذَاكَ؟ قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: “نَعَمْ”.
قَالَ الشَّيْخُ: فَإِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ خَرَجُوا يَوْمَ كَذَا وَكَذَا، فَإِنْ كَانَ صَدَقَ الذِي أَخْبَرَنِي، فَهُمُ اليَوْمَ بِمَكَانِ كَذَا وَكَذَا، لِلْمَكَانِ الذِي بِهِ رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وبَلَغَنِي أَنَّ قُرَيْشًا خَرَجُوا يَوْمَ كَذَا وَكَذَا، فَإِنْ كَانَ الذِي أَخْبَرَنِي صَدَقَنِي فَهُمُ اليَوْمَ بِمَكَانِ كَذَا وَكَذَا، لِلْمَكَانِ الذِي بِهِ قُرَيْشٌ،
فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ خَبَرِهِ، قَال: مِمَّنْ أَنْتُمَا؟ فَقَال رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: “نَحْنُ مِنْ مَاءٍ” ، ثُمَّ انْصَرَفَ عَنْهُ، قَالَ الشَّيْخُ: مَا مِنْ مَاءٍ؟ أَمِنْ مَاءِ العِرَاقِ؟ ثُمَّ رَجَعَ رَسُول اللَّهِ إِلَى أَصْحَابِهِ)(5)

-و كما هو الحال في شَأْن الصحابي الجليل نُعَيْمٍ بْنَ مَسْعُودِ الغطفاني فِي تَخْذِيلِ الْمُشْرِكِينَ و اليهود عَنْ الْمُسْلِمِينَ في غزوة الخندق حيث أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي قَدْ أَسْلَمْتُ، وَإِنَّ قَوْمِي لَمْ يَعْلَمُوا بِإِسْلَامِي، فَمُرْنِي بِمَا شِئْتُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إنَّمَا أَنْتُ فِينَا رَجُلٌ وَاحِدٌ، فَخَذِّلْ عَنَّا إنْ اسْتَطَعْتُ، فَإِنَّ الْحَرْبَ خُدْعَةٌ.)(6)

الحالة الثالثة – في حالة الحفاظ على استقرار الحياة الأسرية و استمرارها و سعادتها فيما يوافق الشرع:
كما هو الحال -مثلاً- فيما بين الأزواج ، يقول الإمام النووي في شرح صحيح مسلم : ( وَأَمَّا كَذِبُهُ لِزَوْجَتِهِ وَكَذِبُهَا لَهُ فَالْمُرَادُ بِهِ فِي إِظْهَارِ الْوُدِّ وَالْوَعْدِ بِمَا لَا يَلْزَمُ وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَأَمَّا الْمُخَادَعَةُ فِي مَنْعِ مَا عَلَيْهِ أو عليها أو أخذ ماليس لَهُ أَوْ لَهَا فَهُوَ حَرَامٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ والله اعلم) (7)

الحالة الرابعة – في الإصلاح بين الناس و فضِّ المشاكل المجتمعية :

وَاسْتَدَل العُلَمَاءُ بِجَوازِ الكَذِبِ في هَذَه الحَالات بِحَديثِ أُمِّ كُلْثُومٍ رَضِيَ اللهُ عنها، أنها سمعتْ رسُولَ الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: «لَيْسَ الكَذَّابُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ، فَيَنْمِي خَيْرًا أَوْ يَقُولُ خَيْرًا». متفق عَلَيْهِ. (8)
وزاد مسلم في رواية: قالت أُمُّ كُلْثُومٍ: « وَلَمْ أسْمَعْهُ يُرَخِّصُ في شَيْءٍ مِمَّا يَقُولُ النَّاسُ إِلَاّ في ثَلَاثٍ، تَعْنِي: الحَرْبَ، والإصْلَاحَ بَيْنَ النَّاسِ، وَحَديثَ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ، وَحديثَ المَرْأَةِ زَوْجَهَا».(9)

وَالأحْوَطُ في هَذَا كُلِّهِ أن يُوَرِّيَ. ومعْنَى التَّوْرِيَةِ: ( أَنْ يَقْصِدَ بِعِبَارَتِهِ مَقْصُودًا صَحيحًا لَيْسَ هُوَ كَاذِبًا بالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ، وإنْ كَانَ كَاذِبًا في ظَاهِرِ اللَّفْظِ وبالنِّسْبَةِ إِلَى مَا يَفْهَمُهُ المُخَاطَبُ، وَلَوْ تَرَكَ التَّوْرِيَةَ وَأطْلَقَ عِبَارَةَ الكَذِبِ، فَلَيْسَ بِحَرَامٍ في هَذَا الحَالِ.) (10)

و بناء على ما سبق :

أدعوك أخي السائل الكريم إلى تحري الصدق دائماً و أبداً ، و إذا دعتك الحاجة إلى الكذب في بعض الحالات التي ذكرناها؛ فاعمد -أولاً-إلى التورية إن استطعت، و إلا فلا مانع من الكذب مع مراعاة قواعد الشريعة في دفع الضرر و جلب المصالح و درء المفاسد و حرمة حقوق العباد و عدم التساهل فيها و غير ذلك، و الله أعلم .

المصادر و المراجع :

1- كتاب الأذكار للإمام النووي : صفحة (378)
2- صحيح البُخاريُّ: رقم (6094) ، و صحيح مُسْلِم : رقم (2607)
3- صحيح البُخاريُّ: رقم (34) ، و صحيح مُسْلِم : رقم (58)
4- كتاب رياض الصالحين للإمام النووي : صفحة (433)، و الأذكار للإمام النووي: صفحة (377)
5- سيرة ابن هشام: [2\194]، و البداية و النهاية، لابن كثير : [3\263]
6- سيرة ابن هشام: [2\229].
7- شرح صحيح مسلم للإمام النووي : [16\158]
8- صحيح البُخاريُّ: رقم (2692) ، و صحيح مُسْلِم : رقم (2605)
9- صحيح مُسْلِم : رقم (2605)
10- كتاب الأذكار للإمام النووي : صفحة (378)

[الشيخ] عبد السميع ياقتي

الشيخ عبد السميع ياقتي عالم إسلامي من علماء سورية، مواليد حلب 1977م

نال الإجازة في الشريعة من كلية الشريعة جامعة دمشق، ودبلوم التأهيل التربوي من كلية التربية جامعة حلب، ودبلوم الشريعة والماجستير في الشريعة من كلية الشريعة والقانون جامعة أم درمان في السودان، وهو الآن بصدد إعداد أطروحة الدكتوراة في جامعة محمد الفاتح في إسطنبول

تتلمذ على أكابر العلماء: كالشيخ عبد الرحمن الشاغوري، والشيخ مصطفى التركماني، والشيخ الدكتور نور الدين عتر، رحمهم الله، والشيخ الدكتور محمود مصري، والعلامة الحبيب عمر بن سالم بن حفيظ و الشيخ عمر بن حسين الخطيب والشيخ محمد الأمين الشنقيطي وغيرهم من علماء الشام وحضرموت والإمارات.

عمل في مجال التدريس والتوجيه الثقافي في دار الأيتام وفي ثانويات حلب، وكان إماماً وخطيباً وقارئاً في مسجد الشيخ زايد في أبو ظبي، ومدرباً معتمداً للخطباء في برنامج تأهيل الخطباء في أبو ظبي

و يقوم بإعداد و تدريس برنامج تعليم الشباب في سيكرز عربية للعلوم الشرعية

للشيخ مؤلفات أهمها: إمام الحرمين الجويني بين علم الكلام وأصول الفقه، وبرنامج (رسول الله فينا) ﷺ