ما واجب الأبناء تجاه آبائهم الكفار بعد موتهم؟

يجيب عن السؤال الشيخ محمد أبو بكر باذيب

السؤال

توفي رجل كافر وأبناؤه مسلمون، وكان يعيش بعيداً عنهم، واتصلت بهم جهة رسمية أن يأتوا ليستلموا جثته، وإلا فسوف يقومون من جهتهم بحرقها إذا تأخر أو امتنع الأبناء عن الاستلام. علماً أن استلام الجثة وإجراءات الدفن ستكلفهم ما يقرب من ثمانية آلاف دولار وهم لا يملكون هذا المبلغ، فما هو الواجب عليهم في هذه الحالة، هل يتركونه للحرق؟ أم يستدينون المبلغ أو يطلبون مساعدة من الناس لجمع المبلغ؟

الجواب

الحمدلله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، محمد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد؛
فإن بر الوالدين من الأعمال العظيمة، وقد قرن الحق تبارك وتعالى طاعته مع طاعة الوالدين،
قال تعالى:
{وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما} [الإسراء: 23].
وقال تعالى:
﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا ۖ وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ۚ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [العنكبوت: 8].
وقال تعالى:
{وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ۖ وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ۖ وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ۚ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تعْمَلُونَ} [لقمان: 15].
فهذه الآيات الكريمة تدل على وجوب بر الوالدين وجوباً عينياً كما قال به بعض أهل العلم، والبر ليس من شروطه إٍسلام الأبوين أو أحدهما، لأن سببه الولادة لا الدين، فوجوب البر لا ينفك بانفكاك جهة الدين بين الأبوين أو أحدهما وبين الأبناء.
وعن خصوص مسألة السؤال، ننقل طائفة من كلام أهل العلم في الباب، قال الإمام أبو منصور الماتريدي (ت 333هـ) في «تفسيره: تأويلات أهل السنة»:
“وقالوا أيضا: إن مات أحدهما تولى دفنه، وذلك من حسن الصحبة والمعروف. رُويَ: أن أبا طالب لما مات قال رسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ لعليٍّ: ” اذْهَبْ فَوَارِهِ”(1). وقال الإمام الجصاص الحنفي (ت 370هـ) في (أحكام القرآن): “وقال أصحابنا في المسلم يموت أبواه وهما كافران: إنه يغسلهما ويتبعهما ويدفنهما; لأن ذلك من الصحبة بالمعروف التي أمره الله بها”(2).
والمذهب عند الشافعية هو ما قرره الإمام النووي في «المجموع»، قال رحمه الله:
«وأجمعوا على تحريم الصلاة على الكافر، ويجوزُ: غسله، وتكفينه، ودفنه»(3).

أي أن الدفن والتكفين جائز لا واجب، وإذا كان الأمر الجائز متصلاً ببر الوالدين لاشك أن الحكم يرتقي من الجواز الى درجة أعلى منه.

ومن الأدلة في خصوص المسألة: ما أخرجه أبو داود والنسائي وأحمد وغيرهما، عن سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: إن عمك الشيخ الضال قد مات، قال: «اذهب فوار أباك، ثم لا تحدثن شيئا، حتى تأتيني» فذهبت فواريته وجئته فأمرني فاغتسلت ودعا لي(4).

قال الإمام ابن رسلان الشافعي في شرح هذا الحديث:
«فيه: دليل على: (1) وجوب دفن الذمي خصوصاً إذا كان قريبا، وكذا تكفينه في الأصح؛ لأنه -عليه السلام- أمر بإلقاء قتلى بدر في القليب على هيئاتهم وأمر عليا بمواراة أبيه. (2) والثاني، هو المذهب الذي قطع به الجمهُور: أنه لا يجب»(5). وقال الإمام البدر العيني الحنفي: «وبه استدل أصحابنا على أن المسلم إذا مات له قريبٌ كافرٌ يغسله ويدفنه. وقال صاحب “الهداية”: وإن مات الكافر وله وليّ مسلمٌ يغسله ويكفنه ويدفنه، بذلك أمِرَ علي رضي الله عنه في حق أبيه أبي طالب»(6).

وفصل الإمام العمراني الشافعي (ت 558هـ) في كتابه «البيان» الكلام في هذه المسألة، قال رحمه الله:

«وإن مات كافر جاز غسله لأن النبي – صلى الله عليه وسلم – أمر عليا – رضي الله عنه – أن يغسل أباه» ، ولو لم يكن جائزاً لما أمره بغسله. فإن كان له قرابة مسلمون، وقرابة كفار، وتنازعوا في غسله … فالكفار أولى؛ لأنه لا موالاة بينه وبين المسلمين.  فإن لم يغسله الكافر، أو لم يكن له ولي كافر، جاز لوليه المسلم غسله، وكفنه، ودفنه، ولا يجوز له الصلاة عليه. وقال مالك رحمة الله عليه: لا يجوز له غسله، ولا يجوز الصلاة عليه.
دليلنا: ما روي: «أن النبي – صلى الله عليه وسلم – أمر عليا أن يغسل أباه» ، ولو لم يجز له غسله، لما أمره به. ولأن الله تعالى قال: {وصاحبهما في الدنيا معروفا} [لقمان: 15] [لقمان: 15]. ومن المعروف غسله إذا مات، ويخالف الصلاة، فإن القصد بها الترحم عليه، والترحم عليه لا يجوز، والقصد بالغسل التنظيف، وذلك يحصل بغسله»(7).

أما جواب الشق الثاني من السؤال، وهو هل يجوز الاستدانة أو طلب المساعدة من الغير لمؤن التجهيز؟

فالجواب أن معتمد المذهب عند الشافعية في تكفين الكافر الذمي أنه من فروض الكفايات،
قال الإمام الغزالي:
«لكن تكفين الذمي ودفنَه: من فروض الكفايات، وفاءً بذمته»(8)،
وقال الإمام النووي في «المنهاج»:
«وتجوز على الجنائز صلاةٌ، وتحرم على الكافِر، ولا يجب غسله. والأصحّ: وجوبُ تكفين الذمي ودفنه»(9).
وعليه، فإذا عجز الأبناء عن دفع مؤن تجهيز أبيهم، ولم يكن له مال، فالظاهر أنه يجوز لهم الاستدانة لذلك الأمر قياماً بحق أبوته وهو من البر به بعد موته، فإن عجزوا عنها فلا بأس عليهم أن يطلبوا من إخوانهم المسلمين المعونة على ذلك، هذ، والله أعلم، ونسأل الله تعالى أن يسترنا بستره الجميل، وأن يغفر لنا، وأن يوفقنا لبر آبائنا، والله سبحانه أعلم.

الهوامش:
1- الماتريدي، الإمام أبو منصور، تفسير الماتريدي المسمى تأويلات أهل السنة: 3/ 171.
2- الجصاص، أحكام القرآن: 3/156.
3- النووي، شرح المهذب: 5/ 258.
4- سنن أبي داود: 3/ 214، رقم 3214؛ سنن النسائي: 4/ 79، رقم 2006؛ مسند أحمد: 2/ 332، رقم 1093؛ والحديث أخرجه ابن سعد في «الطبقات»: 1/124؛ والنسائي في الكبرى: رقم 195؛ وفي خصائص علي: رقم 149؛ والدارقطني في العلل: 4/146، والبيهقي في السنن: 3/398، وفي دلاثل النبوة: 2/348-349. قال الإمام النووي في «المجموع» (5/ 185): “وأما حديث علي رضي الله عنه أنه غسل أباه أبا طالب فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يغتسل فرواه البيهقي من طرق، وقال: هو حديث باطل، وأسانيده كلها ضعيفة، وبعضها منكر»، انتهى.
5- ابن رسلان، شرح سنن أبي داود: 13/ 522.
6- العينيـ نخب الأفكار: 7/ 264.
7- العمراني، البيان: 3/ 24.
8- الرافعي، العزيز: 2/ 421.
9- النووي، منهاج الطالبين: ص 60.