ما هي أهمية الإجازات في طلب العلم؟

 يجيب عن السؤال الشيخ محمد فايز عوض 

السؤال

ما هي أهمية الإجازات في طلب العلم؟

الجواب

 

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم النبيين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد:

العلمُ الشرعيُ هو ميراثُ الأنبياء الذين خلّفوه لنا وحَملَه العلماء من بعدهم يُنفون عنه تأويل الجاهلين وتحريف الغالين وانتحال المبطلين. 

 

قال ابن القيم رحمه الله:

(من طَلبَ العلم ليُحيي به الإسلام فهو من الصديقين ودرجته بعد درجة النبوّة)([1]) 

ومن تأمّل واقع الناس في العصر الحاضر رأى قلة اهتمامهم بطلب العلم الشرعي وأنّ الهمم والعزائم قد فترت عن تحصيله وأن الناس قد اشتغلوا عنه بزخارف الدنيا متعللين بأعذارٍ واهيةٍ وحججٍ باطلة .

فما هو العلم الشرعي المطلوب؟ إنّ العلم الشرعي الذي نُرغِّبُ في تحصيله هو العلم الصحيح المستمد من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ومنهج الأئمة من بعده، وهو يوصل صاحبه إلى تقوى الله ومراقبته وخشيته، وهو العلم المقصود منه العمل به لا مجرد الثقافة أو زيادة المعلومات والحصول على الشهادات و الإجازات.

ولا يعني الحث على طلب العلم الشرعي وتحصيله أن نغفل عن الجوانب الأخرى التي يكون بها تكامل الشخصية الإسلامية، بل لابد من العناية بالجوانب الأخرى كتربية النفس والإكثار من النوافل والدعوة إلى الله وقراءة القرآن والذكر، وغير ذلك. 

نريد طلبة العلم الذين يعظون الناس بحالهم قبل أن يعظوهم بمقالهم، قال الحسن البصري رحمه الله:

(كان الرجل يطلب العلم فلا يلبث إلا يسيرا ًحتى يُرى أثر العلم في صلاته وخشوعه وكلامه وسَمْته) 

قَالَ الحافظ الخطيب البغدادي رحمه الله:

(ثم إنِّي موصيك يا طالب العلم؛ بإخلاص النِّيَّة في طلبه وإجهاد النفس على العمل بموجبه، فإن العلم شجرة والعمل ثمرة، وليس يعد عالماً من لم يكن بعلمه عاملاً…فلا تأنس بالعمل ما دمتَ مستوحشاً من العلم، ولا تأنس بالعلم ما كنت مقصراً في العمل، ولكن اجمع بينهما، وإن قلَّ نصيبك منهما….والعلم يراد للعمل كما العمل يرادُ للنجاة، فإذا كان العمل قاصراً عن العلم كان العلم كَلاًّ على العالم، ونعوذ بالله من علم عادَ كَلاًّ، وأورث ذُلاًّ، وصار في رقبة صاحبه غُلاًّ…-إلى أن قال- وهل أدركَ مَنْ أدرك من السَّلف الماضين الدَّرجات العُلى إلا بإخلاص المعتقد، والعمل الصَّالح، والزهد الغالب في كلِّ ما رَاقَ من الدُّنيا… و هل جامع كُتب العلم إلا كجامع الفضة والذهب، وهل المنهوم بها إلا كالحريص الجشع عليهما، وهل المغرم بحبها إلا ككانزهما. وكما لا تنفع الأموال إلاَّ بإنفاقها، كذلك لا تنفعُ العلوم إلا لمن عمل بها، وراعى واجباتها، فلينظر امرؤٌ لنفسهِ وليغتنم وقتهُ؛ فإنَّ الثِّواء قليلٌ، والرحيل قريبٌ، والطريقُ مَخُوفٌ والاغترارُ غالبٌ، والخطر عظيمٌ، والنَّاقدُ بصيرٌ، والله تعالى بالمرصاد وإليه المرجع والمعاد {فَمَنْ يَعْمَل مِثْقَال ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرَّاً يَرَهُ}) ([2]) 

و قد تنوعت طرق تحصيل العلوم تبعا لنوعيتها و كيفية تحصيلها ولا شك أن من أعلاها الدراسة على العلماء المتقنين الثقات و ملازمتهم 

والمراد بذلك أن يتخذ الطالب شيخاً أو عالماً يلازمه ليدرس على يديه بعض الفنون في العلم الشرعي ويكون مرجعاً له في المشورة والسؤال عما يدور حول الطالب من أحداث، 

ولنا في قصة الصحابي أبي هريرة أكبر فائدة : 

عن الْأَعْرَجِ قال: أَخْبَرَنِي أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: (إِنَّكُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يُكْثِرُ الْحَدِيثَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَاللهُ الْمَوْعِدُ([3]) ، إِنِّي كُنْتُ امْرَأً مِسْكِينًا ، أَلْزَمُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مِلْءِ بَطْنِي ، وَكَانَ الْمُهَاجِرُونَ يَشْغَلُهُمُ الصَّفْقُ بِالْأَسْوَاقِ ، وَكَانَتِ الْأَنْصَارُ يَشْغَلُهُمُ الْقِيَامُ عَلَى أَمْوَالِهِمْ ، فَشَهِدْتُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ ،

وَقَالَ: “مَنْ يَبْسُطْ رِدَاءَهُ حَتَّى أَقْضِيَ مَقَالَتِي ، ثُمَّ يَقْبِضْهُ ، فَلَنْ يَنْسَى شَيْئًا سَمِعَهُ مِنِّي”

فَبَسَطْتُ بُرْدَةً كَانَتْ عَلَيَّ ، فَوَالَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ ، مَا نَسِيتُ شَيْئًا سَمِعْتُهُ مِنْهُ([4]) .

وكذلك الثمرة في ملازمة العلماء وأهل الصلاح فيما روى ابن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا عن نفسه

قَالَ : لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قُلْتُ لِرَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ : يَا فُلَانُ هَلُمَّ فَلْنَسْأَلْ أَصْحَابَ النَّبِيِّ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – ، فَإِنَّهُمُ الْيَوْمَ كَثِيرٌ ، فَقَالَ : وَا عَجَبًا لَكَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ ، أَتَرَى النَّاسَ يَحْتَاجُونَ إِلَيْكَ ، وَفِي النَّاسِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – مَنْ تَرَى ، فَتَرَكَ ذَلِكَ ، وَأَقْبَلْتُ عَلَى الْمَسْأَلَةِ ، فَإِنْ كَانَ لَيَبْلُغُنِي الْحَدِيثُ عَنِ الرَّجُلِ فَآتِيهِ وَهُوَ قَائِلٌ ، فَأَتَوَسَّدُ رِدَائِي عَلَى بَابِهِ ، فَتَسْفِي الرِّيحُ عَلَى وَجْهِي التُّرَابَ فَيَخْرُجُ فَيَرَانِي ، فَيَقُولُ : يَا ابْنَ [1/468] عَمِّ رَسُولِ اللهِ مَا جَاءَ بِكَ ؟ أَلَا أَرْسَلْتَ إِلَيَّ فَآتِيَكَ ؟ فَأَقُولُ : لَا أَنَا أَحَقُّ أَنْ آتِيَكَ ، فَأَسْأَلُهُ عَنِ الْحَدِيثِ ، قَالَ : فَبَقِيَ الرَّجُلُ حَتَّى رَآنِي ، وَقَدِ اجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَيَّ ، فَقَالَ : كَانَ هَذَا الْفَتَى أَعْقَلَ مِنِّي([5]) .فللعلماء النفع العام للأمة والنفع الخاص الذي يستفيد منه طالب العلم قال الشاعر:

 

 

 فالعالمون العاملون بعلمهم

    باقون ما بقيت هناك سماءُ

  

  لله طوعا أوقفوا أبدانهم

     ولِنشر دين الله هم أُمناء

   

 فهُمُ المصابيح التي نُبصر بها     إن داهمتنا ليلة ظلماءُ

   

 وهم الغياث لنا بكل مُلِمّةٍ

       إذ للأئِمة هُم لهم وكلاءُ

   

  إن لم تكونوا منهمُ والوهُمُ

      ولهم أجيبوا أيُها العقلاءُ

 

 

ومن فائدة ملازمة العلماء إضافة كونهم مرجعا للعلم والفتيا والحكمة في معرفة مآلات الأمور والأحداث فيستفاد من سمتهم وخُلُقهم والملازمة لهم أفضل سبيل لذلك، قيل إن مالك بن أنس كان من أعقل أهل زمانه، وكان يقال: إنه صار إليه عقول من جالسهم من التابعين، فجالسه يحيى بن يحيى النيسابوري، فأخذ من عقله وسمته، حتى لم يكن بخراسان مثله، فكان يقال: هذا عقل مالك وسمته. ثم جالس يحيى محمدُ بن نصر سنين، حتى أخذ من سمته وعقله، فلم ير بعد يحيى من فقهاء خراسان أعقل منه. ثم إن أبا علي الثقفي جالس محمد بن نصر أربع سنين، فلم يكن بعده أعقل منه([6])

 

ومن طرق الحصول على العلم و توثيقه الإجازة فما المراد بها ؟

الإجازة: مصطلح علمي ابتكره علماء الإسلام في بداية عصور الرواية، كان يهدف إلى توثيق العلوم المتمثلة في ذلك الوقت بالقرآن الكريم ومرويات السنة المطهرة، يحصل من خلالها الباحث على حق الرواية ، أي الإذن في الرواية والمشاركة في الساحة العلمية ، فمن نال إجازة في تلاوة القرآن الكريم أو رواية حديث أو كتاب فقد دخل صرح العلوم الشرعية ، ونال الإذن في المساهمة في نقل العلم ونشره بين الناس .

ولكن لم يرتبط ذلك بوجه من الوجوه ببيان مدى أعلمية المُجاز وأحقيته في المشاركة في العلم والمعرفة ، فالإجازة مَكسب يمكن أن يناله كل أحد ، ولكن هل يقبل أداؤه بعد ذلك أو لا يقبل ، فذلك شأن آخر تشدد فيه العلماء كثيرا ، وأقاموا لأجله الموازين العادلة التي يميَّز فيها العالِم الحق عن الدعي الدخيل الذي نال حق الإجازة عن غير جدارة ولا استحقاق ، فليس كل مُجاز أهل لتأدية العلم الذي يحمله ، وقد قال عليه الصلاة والسلام : “فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَيْسَ بِفَقِيهٍ”([7]) 

وقد اتخذت الإجازة أوجها متعددة عبر تاريخ الحضارة الإسلامية، تنحو في بعض الأحيان إلى التشدد، وفي أحيان أخرى إلى التساهل :

بدءًا من مناولة الشيخ للتلميذ بعض حديثه مكتوباً ، وإذنه له في روايته عنه ، وهذه أعلى صور الإجازة ؛ لما اشتملت عليه من مزيد التوثق ،

لذلك قال القاضي عياض:

(هي رواية صحيحة عند معظم الأئمة والمحدثين)([8]).

ومرورا بمنح الإجازة في تلاوة القرآن الكريم، وإقرائه للناس مسندا إلى النبي صلى الله عليه وسلم عن جبريل، عن رب العزة جل وعلا، 

وكذلك منح الإجازة المكتوبة في الإفتاء والتدريس ،  

أما الإجازات التي اشتهرت لدى بعض المشتغلين بالعلوم الشرعية، خاصة في علوم الحديث منها، التي يتم فيها منح حق الرواية والتدريس من غير تثبت من أهلية المجاز وتمكنه مما أجيز به ، فهي من الصور الضعيفة التي لا ينبغي التعويل عليها في توثيق حاملها والأخذ عنه ، سوى التبرك برسم الإسناد الذي هو حبل هذه الأمة الممدود عبر القرون . 

والعيب في هذه الإجازات أن الطالب يجاز بمجرد أسماء لكتب، ولا يجاز بمضمون، بل من هؤلاء المجازين من لم يطلع على مضمون، ولم ير الكتاب الذي أجيزت له روايته عمره، خصوصاً بعض الأجزاء الحديثية التي هي في عداد المفقود

لذلك يجب التنبيه إلى أن الإجازات ليست علمًا بذاتها: وهذا التنبيه مهم لبعض الطلاب والفضلاء المجتهدين في طلب الإجازات، والبحثِ عن شيوخ الإسناد والرواية والأثبات، خاصة أصحاب العلو منهم،  

والحامل عليه أن بعضهم يظن بحاصل الحال في جمع الإجازات، أنه بذلك حاز السبق، وجمع الرتب بأعالي الأسانيد، وبلغ السماء بإجازات الشيوخ والمسندين.

والحق أن بعضهم لا يحسن قراءة الفاتحة ضبطًا وأداءًا، ولا يحسن التجويد فنًا وإتقانًا، ولم يجمع من العلم في فنونه كالعقيدة والفقه و أصوله والتفسير واللغة، ما يجمعه المبتدئون في الطلب ، ثم هو مع ذلك يفخر بأسانيده، على أقرانه وزملائه. وربما انتقص بها من الفضلاء من شيوخه وعلمائه، وحسب المسكين أنه من الكبار المسندين، والعظماء الفاتحين، وهذا من تلبيس إبليس، وهوى النفس بالتلبيس.

والحق أن الإجازات مهمة لطلب الرواية والاتصال والعلو، إلا أنها لا تنفع صاحبها قط، إلا إذا سلك السبيل في طلب العلوم مذاكرة وفهمًا وتلقينًا، وجالس العلماء والأكابر في فنونهم وعلومهم مدارسة واستماعًا، وجثى على ركبتيه السنين الطوال، والأوقات الغوالي، ونحن نتكلم هنا على طالب العلم ، لا على صحة الرواية في العموم،

قال الإمام الحافظ الذهبي في تذكرة الحفاظ: 

(فطلب الحديث اسم عرفي لأمور زائدة على تحصيل ماهية الحديث؛ وكثير منها مراق إلى العلم؛ وأكثرها أمور يشغف بها المحدث، من تحصيل النسخ المليحة، وتطلُّب الإسناد العالي، وتكثير الشيوخ، والفرح بالألقاب والثناء، وتمني العمر الطويل ليروي، وحب التفرد؛ إلى أمور عديدة لازمة للأغراض النفسانية لا الأعمال الربانية. فإذا كان طلبك الحديث النبوي محفوفاً بهذه الآفات فمتى خلاصك منها إلى الإخلاص؟!

وإذا كان علم الآثار مدخولاً فما ظنك بعلم المنطق والجدل وحكمة الأوائل التي تسلب الإيمان وتورث الشكوك والحيرة التي لم تكن واللهِ من علم الصحابة ولا التابعين، ولا من علم الأوزاعي والثوري ومالك وأبي حنيفة وابن أبي ذئب وشعبة؛ ولا والله عرفها ابن المبارك ولا أبو يوسف القائل: من طلب الدين بالكلام تزندق، ولا وكيع ولا ابن مهدي ولا ابن وهْب ولا الشافعي ولا عفان ولا أبو عبيد ولا ابن المديني وأحمد وأبو ثور والمزني والبخاري والأثرم ومسلم والنسائي وابن خزيمة وابن سريج وابن المنذر وأمثاله؛ بل كانت علومهم القرآن والحديث والفقه والنحو وشبه ذلك. 

نعم، وقال سفيان أيضاً فيما سمعه منه الفريابي: ما من عمل أفضل من طلب الحديث إذا صحت النية فيه)([9])

 

نسأل الله أن يكرمنا بالعلم النافع مع العمل الصالح إنه سميع قريب مجيب 

 

 

 

 

([1]) مفتاح دار السعادة(1/185)

([2])اقتضاء العلم العمل (ص14-16):

([3]) ( وَاللَّهُ الْمَوْعِدُ ) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَفِيهِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ وَعِنْدَ اللَّهِ الْمَوْعِدُ ، لِأَنَّ الْمَوْعِدَ إِمَّا مَصْدَرٌ وَإِمَّا ظَرْفُ زَمَانٍ أَوْ ظَرْفُ مَكَانٍ وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يُخْبَرُ بِهِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَمُرَادُهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحَاسِبُنِي إِنْ تَعَمَّدْتُ كَذِبًا وَيُحَاسِبُ مَنْ ظَنَّ بِي ظَنَّ السَّوْءِ ،

([4])البخاري (118) ومسلم (2492) 

([5])الحاكم (363) والدارمي (590) و الطبراني (10592)

([6]) تاريخ الإسلام للذهبي (6 / 1046 – 1047).

([7])ابن حبان (67) والنسائي (5816) وأبو داود (3660) والترمذي (2656))

([8]) شرح التبصرة والتذكرة للعراقي 1/439

([9]) تذكرة الحفاظ للذهبي (1/ 204 – 205)