ما معنى قوله تعالى: ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا﴾ [البقرة 286]؟

 يجيب عن السؤال الشيخ عبد السميع الياقتي

السؤال

ما معنى قوله تعالى: ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا﴾ [البقرة 286]؟

الجواب

الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على سيد المرسلين و على آله و صحبه أجمعين، و بعد:

 المعنى المراد من هذه الآية -كما قال المفسرون- أن الله تعالى لا يكلف نفساً و لا يتعبدها إلا بما يسعها و تسطيع فعله دون ضيق و حرج ، فلا يضيق عليها ولا يجهدها بما لا تطيق من الطاعات و العبادات، و الله أعلم.

 

البيان و التفصيل :

قبل شرح معنى هذه الآية الكريمة، لا بد أن نعرف معنى لفظ “التكليف” و “الوسع” .
فالتكليف : هو الإلزام و المحاسبة على أمر ما.
و الوسع : هو الطاقة و القدرة على فعل أمر ما ، دون أن يصيبه منه حرج أو ضيق.
و هو مأخوذ من قول القائل: “وسعني هذا الأمر فهو يسعني سعة”، ويقال: “هذا الذي أعطيتك وسعي”، أي: ما يتسع لي أن أعطيك، فلا يضيق علي إعطاؤكَه.(1)
و يقول الإمام الرازي : ( يُقَالُ: كَلَّفْتُهُ الشَّيْءَ فَتَكَلَّفَ، وَالْكَلَفُ اسْمٌ مِنْهُ، وَالْوُسْعُ مَا يَسَعُ الْإِنْسَانَ وَلَا يَضِيقُ عَلَيْهِ وَلَا يُحْرَجُ فِيهِ، قَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ اسْمٌ كَالْوُجْدِ وَالْجُهْدُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْوُسْعُ دُونَ الْمَجْهُودِ فِي الْمَشَقَّةِ، وَهُوَ مَا يَتَّسِعُ لَهُ قُدْرَةُ الْإِنْسَانِ) (2)
تفسير الآية الكريمة :

المعنى المراد – و الله أعلم- من هذه الآية كما قال الطبري في تفسير و غير ه من المفسرين : (يعني بذلك جل ثناؤه: لا يكلف الله نفسا فيتعبدها إلا بما يسعها،  فلا يضيق عليها ولا يجهدها … و عن ابن عباس في قوله تعالى : ﴿لا يكلف الله نفسا إلا وسعها﴾ قال: هم المؤمنون، وسع الله عليهم أمر دينهم، فقال الله جل ثناؤه: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ [سورة الحج: 78] ، وقال: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ [سورة البقرة: 185] ، وقال: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [سورة التغابن: 16] ) . (3)

 و قد ذكر العلماء في سبب نزول هذه الآية : أن الله تعالى لما أنزل قوله : ﴿لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾، اشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، و هذا يعني أنهم محاسبون على ما  يخطر على بالهم و يفكرون به أو ما تحدثهم به أنفسهم… و هذا مما  لا طاقة للإنسان في دفعه، فأنزل الله تعالى الآية لرفع الحرج و الإثم عما لا طاقة لهم به .(4)

– فعَنْ ‌أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أنه قَالَ: « لَمَّا نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ﴿لِلهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾، قَالَ: فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَتَوْا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ بَرَكُوا عَلَى الرُّكَبِ، فَقَالُوا: أَيْ رَسُولَ اللهِ، كُلِّفْنَا مِنَ الْأَعْمَالِ مَا نُطِيقُ: الصَّلَاةَ وَالصِّيَامَ وَالْجِهَادَ وَالصَّدَقَةَ، وَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيْكَ هَذِهِ الْآيَةُ وَلَا نُطِيقُهَا.
قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَتُرِيدُونَ أَنْ تَقُولُوا كَمَا قَالَ أَهْلُ الْكِتَابَيْنِ مِنْ قَبْلِكُمْ: سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا !؟، بَلْ قُولُوا: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ}، قَالُوا: ﴿سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾. فَلَمَّا اقْتَرَأَهَا الْقَوْمُ ذَلَّتْ بِهَا أَلْسِنَتُهُمْ، فَأَنْزَلَ اللهُ فِي إِثْرِهَا ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾.
فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ نَسَخَهَا اللهُ تَعَالَى، فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾ قَالَ -أي الله-: نَعَمْ ، و في رواية قال : قد فعلت ،﴿رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا﴾ ،قَالَ: نَعَمْ قد فعلت ﴿رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ﴾، قَالَ: نَعَمْ ، قد فعلت ﴿وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ قَالَ: نَعَمْ قد فعلت». (5)

– و قد عقد الإمام مسلم في صحيحه باباً مستقلاً بعنوان ” بَابُ تَجَاوُزِ اللهِ عَنْ حَدِيثِ النَّفْسِ وَالْخَوَاطِرِ بِالْقَلْبِ إِذَا لَمْ تَسْتَقِرَّ” بناء على سبب نزول هذه الآية ثم أور د هذا الحديث
عَنْ ‌أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « إِنَّ اللهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ يَتَكَلَّمُوا أَوْ يَعْمَلُوا بِهِ ». (6)

و لإتمام الفائدة : فقد سمعت أستاذنا الشيخ الدكتور نور الدين عتر رحمه الله تعالى يقول : ( هو سبحانه و تعالى اقتصر و اكتفى منّا على الأقلِّ من طاقتنا، و لو أراد أن يكلفنا زيادة عن طاقتنا فهذا ممكن و هذا حقُّه حتى و لو كلفنا بالعبادات و التكاليف الشرعية على مدار الأربع و العشرين ساعة ،و هذا ما يسميه علماء الأصول “بالطاقة المُمَكِّنة “، يعني أقصى ما يتحمله وسع الإنسان … و هذا ممكن و لكنه صعب ، و لكنه اكتفى بأقل من ذلك بكثير – و ذكر بعض الأمثلة كالزكاة ربع العشر و غيرها – لذلك حمد العارفون رب العالمين ، بقولهم :” و أن قبلت من طاقتي أقل من استطاعتي ” بل أقل الأقل من الاستطاعة ..) (7)

بناء على ما سبق  :

فأذكرك أخي السائل و نفسي ، بأنه ينبغي علينا أن نحمد الله تعالى دائماً و أبداً على أنه لم يكلفنا بما لا طاقة لنا به، أو بما يشق و يصعب علينا ، و علينا – كذلك – أن نحرص على ما أمرنا به من الطاعات و العبادات و التكاليف و الأحكام الشرعية ؛ فهي ضمن طاقتنا و في وسعنا،  و نسأله أن يعيننا عليها و يتقبلها منا و الحمد لله رب العالمين.

 

المصادر و المراجع :
1-تفسير الطبري المسمى : جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام أبو جعفر، محمد بن جرير الطبري [6\129] و كذلك في موضع آخر [5\45]
2- تفسير الرازي المسمى مفاتيح الغيب للإمام الفخر الرازي [7\116]
3- تفسير الطبري : [6\129]
4- تفسير ابن كثير  [1\729]
5- صحيح مسلم رقم (125 و 126) [1\80].
6- صحيح مسلم رقم (127) [1\81].
7- ذكر ذلك في كلمته في حفل عقد زواجي ،أثناء تعليقه على قوله صلى الله عليه و سلم :”و بذلك أمرت…” في دعاء التوجه. و هذه الكلمة موجودة بتمامها على صفحتي لمن أراد الاطلاع.