ما المقصود بالنقط الثلاثة الموجودة فوق بعض كلمات القرآن؟

يجيب عن السؤال الشيخ  أنس الموسى بن محمد بشير

السؤال

ما المقصود بالنقط الثلاثة الموجودة فوق بعض كلمات القرآن؟

الجواب

الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على سيدنا محمد و على آله و صحبه أجمعين ، و بعد :

النقط الثلاثة  الموجودة فوق بعض كلمات القرآن هي أحد مصطلحات الوقف والابتداء، وهي تشير وترمز لنوع من الوقف يسمى بوقف التعانق، أو وقف المعانقة، أو وقف المراقبة، أو وقف التجاذب، وهو أن يتعانق الوقفان باجتماعهما في محل واحد، فلا يجوز للقارئ أن يقف على كلٍّ منهما، بل إذا وقف على أحدهما امتنع الوقف على الآخر، لئلا يضطرب المعنى أو يُبهم المراد، كقوله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ* فِيهِ* هُدَىً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2]. (1)
ولهذا النوع من الوقف ارتباط وثيق بالمعنى؛ فبمعرفة مواطن الوقف والابتداء تُتَبَيَّن معاني القرآن وتُعرف فوائدُه ومقاصدُه كما وصف عبد الله ابن عمر رضي الله تعالى عنهما فقال: ‌”لَقَدْ ‌عِشْنَا ‌بُرْهَةً ‌مِنْ ‌دَهْرِنَا، وَأَحَدُنَا يُؤْتَى الْإِيمَانَ قَبْلَ الْقُرْآنِ، وَتَنْزِلُ السُّورَةُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَتَعَلَّمُ حَلَالَهَا وَحَرَامَهَا، وَآمِرَهَا وَزَاجِرَهَا، وَمَا يَنْبَغِي أَنْ يَقِفَ عِنْدَهُ مِنْهَا، كَمَا تَعَلَّمُونَ أَنْتُمُ الْيَوْمَ الْقُرْآنَ، ثُمَّ لَقَدْ رَأَيْتُ الْيَوْمَ رِجَالًا يُؤْتَى أَحَدُهُمُ الْقُرْآنَ قَبْلَ الْإِيمَانِ، فَيَقْرَأُ مَا بَيْنَ فَاتِحَتِهِ إِلَى خَاتِمَتِهِ مَا يَدْرِي مَا آمِرُهُ وَلَا زَاجِرُهُ، وَلَا مَا يَنْبَغِي أَنْ يَقِفَ عِنْدَهُ مِنْهُ، فَيَنْثُرَهُ نَثْرَ الدَّقَلِ”. (2)
وقد وردت تسمية هذا الوقف في كثير من المصادر وخصوصاً كتب الوقف والتفسير وعلوم القرآن.
تعريف وقف التعانق أو المعانقة أو التجاذب أو المراقبة:
عُرِّفَ هذا الوقفُ بتعريفات كثيرة منها: 
  • أن يكون للكلام مقطعان إذا وُقِف على أحدهما وُصِل في الآخر.
  • أو هو أن يكون لفظ صالح للوقف عليه أو على ما قبله، ولا يتم المعنى باستقلاله.
  • وعرَّفه أبو العلاء الهمذاني (ت 569هـ)، فقال: «المراقبة بين الوقفين: أن لا يَثبتا معًا، ولا يَسقطا معًا، بل يُوقف على أحدهما».
  •  هو الذي يكون فيه وقفان متغايران في المعنى، بحيث إذا وُقِف على الموضع الأول أعطى معنى غير المعنى الذي يكون على الوقف في الموضع الثاني، وعلامته (. . .) فالكلمة التي تكون بين هذه النقاط الثلاثة هي التي يقع عليها التعانق، مثل كلمة (فيه) من قوله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ* فِيهِ* هُدَىً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2](3)
  سبب تسميته بوقف التعانق أو المعانقة: سبق وذكرنا ارتباط الوقف في القرآن الكريم بالمعنى؛ فسمي متعانقاً لمعانقة كل من الكلمتين للأخرى، واجتماعهما في موضع واحد. (4)
وسبب تسميته بوقف المراقبة: لأن القارئ يراقب الموضع الذي اجتمعت فيه هاتان الكلمتان ليقف على أحدهما، أو لأن السامع يرقُب القارئ  حين قراءته ليعرف الكلمة التي يقف عليها، أو لأن الواجب على القارئ أن يراقب النص القرآني بشكل دقيق ويتأمله بعمق . (5)
وسبب تسميته بوقف التجاذب: لأن محل الوقف تتجاذبه جملتان. (6)
ملحوظة: يرمز لوقف التعانق في القرآن الكريم بنقط ثلاثة، وفي آخر المصحف المطبوع في مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف عند ذكر علامات الوقف قالوا: * * علامة تعانق الوقف بحيث إذا وقف على أحد الموضعين لا يصح الوقف على الآخر.
أمثلة وقف المعانقة في القرآن الكريم
المثال الأول: قوله تعالى: ﴿‌ذَلِكَ ‌الْكِتَابُ لَا رَيْبَ* فِيهِ* هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [البقرة: 2] في كلمة (لا ريب)، وكلمة (فيه) تعانق وقف.
الوقف الأول: أن تقف على جملة {ذَلِكَ ‌الْكِتَابُ لَا رَيْبَ}، ثم تبتدئ بـ {فِيهِ هُدَىً لِلْمُتَّقِينَ} فصار الكلام على هذا منصبٌّ على القرآن كله أي: لا شك ولا شبهة أن القرآن من عند الله تعالى، إذ كله حق وصدق وهدى لا يقدر عليه البشر، فلا ينبغي لأحد أن يرتاب في كونه وحياً من عند الله تعالى بالغاً حد الإعجاز.
الوقف الثاني: أن تقف على {لَا رَيْبَ فِيهِ}، ثم تبتدئ بـ {هُدَىً لِلْمُتَّقِينَ} فالمعنى: لا شك في آياته وعباراته وكلماته وحروفه ولا في شأنه، فالوقف على {فِيهِ} يجعل جملة {هُدَىً لِلْمُتَّقِينَ} مستقلة بمعنى جديد أبلغ مما لو كانت {فِيهِ} بعضاً من الجملة، وهذا المعنى هو كون القرآن كله هدى. (7)
المثال الثاني: قوله تعالى: ﴿قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ* أَرْبَعِينَ سَنَةً* ‌يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ﴾ [المائدة: 26] التعانق يقع على لفظ {أَرْبَعِينَ سَنَةً}.
الوقف الأول: الوقف على قوله: {قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ}، ثم تبتدئ بـ {أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ}، ويكون المعنى على ذلك: أن التحريم أبديٌّ وليس أربعون سنة، ويلزم من هذا أن يكون كل من عاشوا في التيه ماتوا ـ ولم يدخل أحد منهم الأرض المقدسة، وعليه يكون الظرف: {أَرْبَعِينَ سَنَةً} منصوباً بقوله تعالى: {يَتِيهُونَ}.
الوقف الثاني: الوقف على قوله تعالى: {قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً}، ثم يجوز له الوصل أو الاستئناف بجملة {يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ}، ويكون المعنى على ذلك: أن التحريم إنما هو لمدة أربعين سنة، وأنهم في هذه الأربعين يكونون في تيه، وبناء عليه يكون قوله تعالى: {أَرْبَعِينَ سَنَةً} متعلق بلفظ: {مُحَرَّمَةٌ}. (8)
ملحوظة:
الوقف والابتداء علم اجتهادي، فلا يوجد في القرآن موضعٌ واجبٌ للوقف، إلاَّ ما أوهم معنى خلاف المراد، أو يترتب عليه انتقاص لله تعالى ونحو ذلك، فتحديد موضع الوقف مبني على الاجتهاد في تحقق المعاني الصحيحة؛ لهذا نجد علماء الوقف والتفسير والنحو والإعراب ولجانِ تدقيق المصحف الشريف يختلفون في تحديد أماكن الوقف وتحديد نوع هذا الوقف؛ لاختلاف ذلك بحسب دلالات المعنى وسياق الآيات القرآنية، حتى الوقف على رؤوس الآي لم يَعُدَّه بعض العلماء مسنوناً، فابن كثير المكي يرى الوقف حيث ينقطع نَفَسُ القارئ، وروي عنه أنه كان يراعي الوقف على رؤوس الآي مطلقاً، وأبو عمرو البصري كان يتعمد الوقف على رءوس الآي… وهكذا.
فلو عمل إنسانٌ لنفسه وقوفًا خاصة به لرأيٍ رآه، واجتهادٍ اجتهده مبنيٍ على علم وفهم ومعرفة، فإنه لا يثرَّب عليه؛ لأن أصل المسألة كلِّه مبناه الاجتهاد.
ومن أمثلة الاجتهاد الخاطئ في تحديد الوقف ما يفعله بعض الناس عند قراءة قوله تعالى: {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} [البروج: 15]، ثم يستأنف قائلاً: {الْمَجِيدُ} {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج: 15، 16] فوقفه صحيح بلا ريب، لكن ابتداءه غلط واضحٌ، إذ فيه إخلال بنظم القرآن. (9)
          وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
الشيخ أنس الموسى بن محمد بشير

(1):معجم علوم القرآن للجرمي ص335.
(2):السنن الكبرى للبيهقي (5290).
(3):ينظر لكل ما سبق: البرهان في علوم القرآن للزركشي (1/365)؛ وقف التعانق في القرآن قيس عبد الله ص32؛ المحرر في علوم القرآن مساعد الطيار ص260؛ لقاءات ملتقى أهل الحديث بالعلماء (13/16)؛ معجم علوم القرآن إبراهيم محمد الجرمي ص335.
(4): ينظر: وقف التعانق في القرآن قيس عبد الله ص32.
(5):ينظر: النشر في القراءات العشر لابن الجزري (1/237)؛ وقف التعانق في القرآن قيس عبد الله ص32.
(6):وقف التعانق في القرآن قيس عبد الله ص33.
(7):ينظر: وقف التعانق في القرآن قيس عبد الله ص58؛ المحرر في علوم القرآن ص262.
(8):المحرر في علوم القرآن ص262.
(9):ينظر: النشر في القراءات العشر لابن الجزري (1/238)؛ وقف التعانق في القرآن الكريم د. قيس عبد الله محمد ص27؛  لقاءات ملتقى أهل الحديث بالعلماء (13/16)؛ المحرر في علوم القرآن ص264.