لماذا لم يُكتب القرآن كلُّه بين دفتين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم؟

يجيب عن السؤال الشيخ أنس الموسى

السؤال

لماذا لم يُكتب القرآن كلُّه بين دفتين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم؟

الجواب

      بسم الله الرحمن الرحيم
لقد كان القرآن كلُّه مكتوباً على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولم ينقضِ عهد النبوة السعيد إلاَّ وهو مجموع في الصدور والسطور، بيدَ أنه لم يُجمع في مصحفٍ واحد، أو صحائف مجتمعة، بل كان متفرّقاً منشوراً بين الرقاع وغيرها، وكان مِن قدر الله تعالى أن يُتوفَّى النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولا يُجمع القرآن في مصحفٍ واحدٍ، وهذا ما يشهد له الواقع التاريخي لكتابة القرآن في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم، فالمعلوم أن القرآن أول ما جُمع بين دفتين كان في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه. (1)

 ويعود عدم جمع القرآن بين دفتين في عهده صلى الله عليه وسلم لأسباب كثيرة منها:

1 – أن الحاجة لم تدع إلى  كتابته في مصحفٍ واحدٍ أو مصاحف، ولم يقع ما يوجب العمل بهذا الضبط الكتابي المجموع للقرآن الكريم، فلم توجد تلك الأحداث التي ظهرت في عهد أبي بكر حتى كَتَبَهُ في صحف، ولا مثلُ ما وُجِد على عهد عثمان حتى نسخَه في مصاحف؛ فالمسلمون وقتئذ بخير والقراء كثيرون، والإسلام لم يستبحر عمرانه بعد، والفتنة مأمونة، والتعويل لا يزال على الحفظ أكثر من الكتابة كما أن أدوات الكتابة لم تكن ميسورة وقتئذ، ولو كانت  الأمة آنذاك تحتاج إليه لوجب العمل عليه؛ إذ لا يجوز ترك ما الأمة بحاجة إليه.

2- أن  القرآن لم ينزل دفعةً واحدة بل نزل منجماً في مدى عشرين سنة أو أكثر؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم كان بصدد أن ينزل عليه الوحي بنسخ ما شاء الله من آيه؛ فكتابة القرآن مجموعاً في مصحف إنما يَصلح لشيءٍ قد انتهى نزوله واستقرَّ، أما الحال بالنسبة للوحي فلم يكن كذلك، إذ قد ينْزل جزءٌ من السورة، ثم ينْزل الجزء الآخر منها فيما بعد، فيُلحق بها، كما أنه قد يُنسخ بعض النازل، فلا يقرأ به، فلو كان مجموعاً في مصحف لتعسَّر ذلك الأمر من جهة الإضافة والإزالة، بخلاف الحال التي هو عليها من كتابته متفرقاً، ومحفوظاً في الصدور.
قال الخطابي: “إنما لم يجمع القرآن في المصحف، لِما كان يترقبه من ورود ناسخ لبعض أحكامه أو تلاوته فلمَّا انقضى نزوله بوفاته ألْهَمَ اللهُ الخلفاء الراشدين ذلك وفاء بوعده الصادق بضمان حفظه على هذه الأمة فكان ابتداء ذلك على يد الصديق بمشورة عمر رضي الله تعالى عنهم”. (2)
نقل الطبري عن ابن عباس قال: “آخر آية نزلت من القرآن: ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا ‌تُرْجَعُونَ ‌فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ [البقرة: 281] قال ابن جريج: يقولون إن النبي صلى الله عليه وسلم ‌مكث ‌بعدها ‌تسع ‌ليال. (3) وهذا يدل على احتمال نزول آيات جديدة إلى قبيل وفاته صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن تكون آياتٌ ناسخةٌ لغيرها.

3- وأخيراً: لما استقر الأمر بختام التنزيل، ووفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأُمن النسخُ، وتقرر الترتيب، ووجد من الدواعي ما يقتضي نسخَه في صحف أو مصاحف، وفَّق اللهُ الخلفاء الراشدين فقاموا بهذا الواجب حفظا للقرآن وحياطةً لأصل التشريع الأول، مصداقاً لقوله سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (4)
وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


(1):ينظر: المحرر في علوم القرآن مساعد الطيار ص151؛ الواضح في علوم القرآن مصطفى البغا و محي الدين مستو ص81.
(2): الإتقان للسوطي (1/202).
(3): تفسير جامع البيان للطبري (6/41).
(4):ينظر: الإتقان في علوم القرآن (1/202)؛ مناهل العرفان للزرقاني (1/248)؛ المحرر في علوم القرآن مساعد الطيار ص151