كيف أوقف عمر – رضي الله عنه – حد السرقة في خلافته وهو حد من حدود الله؟

يجيب عن السؤال الشيخ الأستاذ الدكتور باسم حسين عيتانيي  

السؤال

كيف أوقف عمر – رضي الله عنه –  حد السرقة في خلافته وهو حد من حدود الله؟

الجواب

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه؛

أخي السائل المحترم وفقك الله تعالى:

لم يوقف سيدنا عمربن الخطاب – رضي الله عنه – حد السرقة الذي هو حد من حدود الله تعالى في فترة خلافته، لأن توقيف الحد بمعنى تعطيل الحد، بل وجد أن السرقة لها شروط  لم تتوفر في حالة المجاعة فلم يُقم الحد، ولا أحد من الخلفاء الراشدين – رضي الله عنهم – فعل ذلك أي التعطيل في أي حد من حدود الله تعالى، وحاشا لعمر بن الخطاب أن يفعل ذلك، وهو معروف بسيرته التاريخية  التي لا يعلو عليها غبار من الاستقامة في دين الله، وجرأته لنشر كلمة الله، وصلابته في أحكام الدين والتزامه بتطبيق الشريعة دون انحراف، وقد اشتبه على بعض الناس في هذا الموضوع إما جهلاً بأصول التشريع بما حدث في خلافته أو افتراء على هذه الشخصية العظيمة في الإسلام للتشويش على أذهان الناس.

وسأوضح لك أيها السائل ما جرى بالضبط في هذا الموضوع باختصار لرفع الجهل والافتراء في ذلك:

في زمن خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – في عام الثامن عشر الهجري هزت المدينةَ المنورة وما حولها من القرى وقوعُ مجاعة شديدة، بعد عودة الناس من الحج، فحُبِس المطرُ من السماء وأجدبت الأرض، وهلكت الماشية، حتَّى جعلت الوحوش تأوي إِلى الإِنس، وحتَّى جعل الرجل يذبح الشَّاة فيتركها لقبحها، واستمرت هذه المجاعة تسعة أشهر، حتى صارت الأرض سوداء فشبهت بالرماد، ولذا اشتهر بعام الرمادة.

وهذا يعتبر ابتلاء عاماً ومحنة عظيمة تصيب المسلمين، وهذه سُنة الله جارية في هذا العالم على الناس جميعاً كافرهم ومؤمنهم، كبقية سنن الكون من كسوف وخسوف وطوفان وزلازل وهزات وانفجارات بركانية وغيرها، قال الله تعالى : (وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا ) [الإسراء:59] فأما المؤمن إن قضى الله عليه بالموت بسبب ذلك كان نعمة له وله أجرالشهداء، وإن نجا ازداد عبرة وخوفاً وقوي إيمانه ويقينه بالله تعالى واستمرعلى الثبات إلى أن يلقى ربه، وأما الكافر إن مات على ماهوعليه بسبب تلك الآيات كان نقمة عليه ويحاسبه الله على كفره، وإن نجا واستمرعلى ماهو عليه فما ازداد إلا كفراً وإثماً وعقاباً في الآخرة، وإن آمن كان خيراً لدنياه وآخرته.

 وكان عام الرمادة تمحيص إيمان المؤمنين وصبرهم على الابتلاء من رأس الهرم وهو الخليفة إلى قاعدة الهرم وهي كل أفراد المجتمع، فأُلهم الخليفة عمر – رضي الله عنه – أن يدير الأزمة الكبيرة بروح مسؤولية عالية، وكان مثالاً ونموذجاً لكل قيادات العالم في مثل هذه المرحلة، بطريقة إدارية محترفة ومخلصة :

1- قسّم الطعام بالتساوي بين الوافدين إلى المدينة حيث بلغوا ستين ألفاً، وبين القبائل في أماكنهم، ووضع أمراء ليطوفوا عليهم ويتفقدوا أحوالهم، وكان يقوم الليل ويدعو في السَّحر، ويقول: اللَهُمَّ لا تجعل هلاك أمَّةِ محمَّد على يدي، اللَهُمَّ لا تهلكنا بالسِّنين، وارفع عنا البلاء.

2- استعان بعماله على  الأمصار :  فأرسل لهم كتباً لنجدة الناس في المدينة وماحولها فإنهم قد هلكوا،فكتب إلى عمرو بن العاص بمصر، وسعد بن أبي وقاص بالكوفة، وأبي موسى الأشعري بالبصرة، ومعاوية بن أبي سفيان بالشام، يطلب منهم أن يمدّوه بالأطعمة والأكسية، فاستجابوا فأرسلوا بالمدد من الطعام والشراب من الدقيق والشحم والزيت ومن الحيوان كالبعير وغيرها.

3- حث الناس على كثرة الاستغفار والتوبة والدعاء وصلاة الاستسقاء، وكان سيدنا عمر – رضي الله عنه – ينادي بالناس استغفروا ربكم، ثمَّ توبوا إليه، ويقرأ الآية: ﴿ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا﴾ [نوح: 11،10] وسلوه من فضله، واستسقوا سقيا رحمةٍ، لا سقيا عذاب،  وعندما أراد أن يستسقي ويخرجَ بالنَّاس، كتب إِلى عمّاله أن يخرجوا يوم كذا، وأن يتضرّعوا إلى ربِّهم، ويطلبوا أن يرفع هذا المَحْلَ عنهم، وخرج عمر لذلك اليوم، وعليه بردُ رسول الله – صلى الله عليه وسلم  – حتّى انتهى إلى المُصَلّى، فخطب النّاس فتضرّع… فما كان أكثر دعائه إِلا استغفارٌ؛ حتّى إذا قرب أن ينصرف؛ رفع يديه مدّاً، وحوَّل رداءه، فجعل اليمين على اليسار، ثمَّ اليسار على اليمين، ثمَّ مدَّ يديه، وجعل يلحُّ في الدُّعاء، ويبكي بكاءً طويلاً حتّى اخضلت لحيته. فلم يزل كذلك حتّى فرَّج الله ذلك.  [ينظر: أخبار عمر وأخبارعبد الله بن عمر]

لخصت لك أيها السائل عام الرمادة وهو عام فيه مخمصة ومجاعة كبيرة حتى تتصور تصوراً صحيحاً لِم لَم يُقم حدَّ السرقة سيدُنا عمر في هذه الفترة؟ فالقرار السديد الذي نطق به الخليفة الراشد عمر بن الخطاب  من عدم قطع يد السارق في عام المجاعة حيث قال : (لا يُقْطَعُ فِي عِذْقٍ –عنقود التمر- وَلَا عَامِ السَّنَةِ –زمن المجاعة-) [مصنف عبد الرزاق]

  لأن الضرورة تبيح التناول من مال الغير بقدر الحاجة فيمنع ذلك وجوب القطع ، وقد روي أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: “لَا قَطْعَ فِي زَمَنِ مَجَاعَةٍ” [ تاريخ أصبهان] لا قطع في عام السنة للضرورة والمخمصة ، وقد كان عمر – رضي الله عنه – في عام السنة يضم إلى أهل كل بيت أهل بيت آخر، ويقول لن: يهلك الناس على أنصاف بطونهم، فكيف نأمر بالقطع في ذلك. [ ينظر: السرخسي، المبسوط] فإذاً هوأظهر حكم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الذي عَلِمه منه على الأغلب في ذلك.

ولواعتبرنا أنه اجتهاد من الفاروق عمر – فرأي الصحابي ملزم عند جماهير الفقهاء، وعَلِم باجتهاده الصحابة ولم يُعلم له معارض، فدلّ أن المسألة لاخلاف فيها، وذلك يندرج في حالات الاضطرار وهو حكم مستنبط من قوله تعالى: (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [ المائدة:3] والقاعدة المشهورة : الضرورات تبيح المحظورات. ولاشك أن شبهة القطع في هذه الحالة قوية، والحدود تندريء بالشبهات. وهذا من اجتهاداته التي تدل على عبقريته في استنباط الأحكام الفقهية – رضي الله عنه –

– علي الطنطاوي، ناجي الطنطاوي، أخبار عمر وأخبار عبد الله بن عمر، المكتب الإسلامي، لبنان، ط8، (1983م) 110-116

–  الصنعاني عبد الرزاق، المصنف، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي، الناشر: المجلس العلمي- الهند، توزيع المكتب الإسلامي – بيروت الطبعة: الثانية،(1403هـ – 1983م) 242/10 ر:18990

– أبونعيم الأصبهاني، تاريخ اصبهان، تحقيق: سيد كسروي حسن، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، ( 1410 هـ -1990م)

375/1 ر:693

– السرخسي محمد بن أحمد ، المبسوط، دار المعرفة، بيروت، (1409هـ – 1989م)

الشيخ الدكتور باسم عيتاني

هو الشيخ الدكتور باسم حسين عيتاني من مواليد بيروت – لبنان عام 1965    

حاصل على الدكتوراه في الدراسات الإسلامية عام 2005

من مشايخه: الشيخ محمد طه سكر والشيخ أديب الكلاس والشيخ ملا عبد العليم الزنكي والشيخ عبد الرحمن الشاغوري والشيخ عبد الرزاق الحلبي والشيخ د. مصطفى ديب البغا والشيخ د. وهبي الزحيلي ود. محمد الزحيلي وغيرهم رحمهم الله جميعا.

 لديه العديد من الخبرات والتخصصات العلمية و الإدارية، وقد شغل مناصب علمية وإدارية في العديد من الجهات والمؤسسات العلمية والثقافية والإسلامية الحكومية وغير الحكومية في لبنان وخارجه من ذلك

 Seekers Guidance – عضو في اللجنة العلمية في مؤسسة

 التعليم المفتوح عبر الإنترنت حتى الآن

– عميد كلية الدعوة الجامعية للدراسات الإسلامية – الدراسات العليا عام 2021-2020

مدير دار إقرأ للعلوم الإسلامية 1998- 2018

مدرس للعديد من المواد و المناهج العلمية في الفقه و الأصول و العقيدة و التفسير .. ومناقش و مشرف على العديد من الرسائل

والاطاريح العلمية في الماجستير والدكتوراه في العديد من الجامعات و الكليات في لبنان له مؤلفات وأبحاث  في مجال العلوم الإسلامية

أقوال الإمام زفر المعتمدة في المذهب الحنفي – الاجتهاد الجماعي سمو فكري في القرن 21 – العرف وأثره في الفقه الإسلامي 

المشاركة في العديد من المؤتمرات والندوات العلمية داخل لبنان وخارجه

اللغات : العربية: ممتاز  الفرنسية: جيد الإنكليزية: وسط