كيف أتأدب مع المصحف عند قراءته؟

يجيب عن السؤال الشيخ عبد السميع الياقتي  

السؤال

كيف أتأدب مع المصحف عند قراءته؟

الجواب

 

الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على سيدنا محمد الأمين و على آله و صحبه أجمعين و بعد :

“القرآن الكريم هو رسائل ربنا إلينا” و من هذا المنطلق شُرعت لنا أحكامٌ ، و سُنَّت لنا سنن و آداب في كيفية تعاملنا معه؛ فهو ليس كغيره من الكتب ,, و من أهم هذه الآداب : إخلاص النية لله تعالى في قراءته و حفظه و إبداء كل مظاهر الاحترام و التعظيم المادية و المعنوية
فالمادية:  كالتطهر و التطيب و تحسين الهيئة و ستر العورة و السواك و استقبال القبلة و مراعاة أحكام التجويد و نطق الحروف و تحسين الصوت به و الاجتماع على قراءته و تدارسه و وضعه في غلاف و مكان يليق به و تقبيله و غير ذلك
و أما المعنوية : فكتدبره و التفكر فيه و العمل بأحكامه و الوقوف عند حدوده و استشعار عظمته و قدسيته ، و تطبيق أخلاقه  كما كان حال نبينا صلى الله عليه و سلم

البيان و التفصيل :

تلاوة القرآن سنَّة من أعظم سنن الإسلام والإكثار منها  مستحبٌ، لأنها وسيلة إلى فهم كتاب الله والعمل به، وفضلها ثابت في القرآن الكريم والسنة الشريفة ,

قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ) [فاطر: 29-30].

وروى مسلم عن أبي أمامه رضي الله عنه أنَّ رسول الله صل الله عليه و سلم قال:

« اقْرَؤُوا القُرْآنَ؛ فَإنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ القِيَامَةِ شَفِيعًا لأَصْحَابِهِ »(1).

وروى أبو داود والترمذي، عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال :

« يُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ: اقْرَأْ وَارْتَقِ وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ في الدُّنْيَا، فَإنَّ مَنْزِلَتَكَ عِنْدَ آخِرِ آية تَقْرَؤُهَا »(2).

والتلاوة مع إخلاص النية عبادة يؤجر عليها المسلم، وتقربه من خالقه؛ روى الترمذي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، أنه قَالَ: قَالَ رسولُ اللهِ – صلى الله عليه وسلم:

«مَنْ قَرَأ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللهِ فَلَهُ حَسَنَةٌ، وَالحَسَنَةُ بِعَشْرِ أمْثَالِهَا، لَا أقول: ألم ، حَرفٌ، وَلكِنْ: ألِفٌ حَرْفٌ، وَلَامٌ حَرْفٌ، وَمِيمٌ حَرْفٌ»(3).

وروى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قَالَ رسول الله – صلى الله عليه وسلم:

«الَّذِي يَقْرَأُ القُرْآنَ وَهُوَ مَاهِرٌ بِهِ مَعَ السَّفَرَةِ الكِرَامِ البَرَرَةِ، وَالَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيَتَعْتَعُ  فِيهِ وَهُوَ عَلَيْهِ شَاقٌّ لَهُ أجْرَانِ» (4).

وكان الصحابة رضوان الله عليهم يحافظون على تلاوة القرآن، ومنهم من كان يختم في اليوم والليلة، ومنهم من كان يختم في أكثر؛

روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمرو قال:

« قال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم : اقرأ القرآن في شهر، قلت: إني أجدُ قوة، قال: اقرأه في عشر، قلت إني أجد قوة، قال: اقرأه في سبع ولا تزد على ذلك»(5).

وأما القدر الذي ينبغي للمسلم أن يقرأه ليختم القرآن، فيختلف باختلاف الأشخاص ، و لكن لا أقل من أن يقرأ المسلم جزءاً كل يوم و أن يكون ذلك له وردٌ يحافظ عليه

بعد بيان فضل تلاوة القرآن الكريم نعود لذكر أهم الآداب التي ينبغي على قارئ القرآن أن يحافظ عليها وقد أولى العلماء هذا الموضوع عناية فائقةً و ألفوا في ذلك الكتب

و من أهمها كتاب التبيان في آداب حملة القرآن للإمام النووي و أنصح كل طالب علم أو حافظ أو قارئ أو من يريد أن يتعلم القرآن أن يطلع على هذا الكتاب و سنعتمد عليه و على  غيره من الكتب في ذكر آداب تلاوة القرآن الكريم .

و قبل أن نذكر أهم هذه الآداب لابد أن نؤكِّدَ على أمرٍ مهم و هو : أن الاحترام الحقيقي للقرآن الكريم إنما يكون بالإكثار من تلاوته، وإتقان حفظه، والعمل بما جاء في آياته، وما طواه في صفحاته من امتثال أوامره واجتناب نواهيه، ووقوف عند حدوده، وتأدّب بآدابه كما كان حال نبينا صلى الله عليه و سلم فقد كان خلقه القرآن كما وصفته السيدة عائشة رضي الله عنها

 

 من آداب التلاوة :

 

  • 1- إخلاص النية لله والتجُّرد عن الأهواء والرغبات والأغراض الدنيوية الزائلة
 يقول النووي في كتاب التبيان: ( فأول ذلك يجب على القارئ : الإخلاص -كما قدمناه- ومراعاة الأدب مع القرآن، فينبغي أن يستحضر في نفسه أنه يناجي الله تعالى ويقرأ على حالِ مَنْ يرى الله تعالى ، فإنه إن لم يكن يراه فإن الله تعالى يراه)(6)
و حسبنا في ذلك أن من أول من تسعر بهم النار يوم القيامة قارئ القرآن الذي قرأه ليقال عنه قارئ .. فعن أَبِي هُرَيْرَةَ، رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (أَوَّلُ النَّاسِ قَضَاءً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَلَاثَةٌ: … وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ، وَقَرَأَ الْقُرْآنَ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ قَالَ: كَذَبْتَ وَلَكِنْ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ عَالِمٌ وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ قَارِئٌ فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحَبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ،..)(7)

 

  • 2- تحسين الهيئة، والتطهر والتطيّب، وتنظيف الفم بالسِّواك، وترك العبث أو الالتفات.
و لهذا قال العلماء بوجوب الطهارة عند مسّ القرآن، قال تعالى:﴿لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ﴾ [الواقعة: 79] ، و قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يمسّ القرآن إلا طاهر» (8)

 

  • 3- استقبال القبلة.
يقول الإمام النووي في كتاب التبيان : ( يستحب للقارئ في غير الصلاة أن يستقبل القبلة فقد جاء في الحديث” خير المجالس ما استقبل به القبلة ويجلس متخشعاً بسكينة ووقار مطرقاً رأسه ويكون جلوسه وحده في تحسين أدبه وخضوعه كجلوسه بين يدي معلمه فهذا هو الأكمل، ولو قرأ قائماً أو مضطجعاً أو في فراشه أو على غير ذلك من الأحوال جاز  و له أجر  و لكن دون الأول قال الله عز وجل (إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض)
وثبت في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم: يتكئ في حجري وأنا حائض ويقرأ القرآن رواه البخاري ومسلم وفي رواية “يقرأ القرآن ورأسه في حجري ” )(9)

 

  • 4- الاستعاذة: عند ابتداء القراءة؛ لقوله تعالى : ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾ [النحل: 98]. و البسملة كذلك في بداية كل السور ما عدا (براءة)

 

  • 5- الخشوع والتدبُّر في معاني القرآن، و الوقوف على كل عبرة ومعنى والتأثر بكل وعد ووعيد؛ قال تعالى :( أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً ) [النساء: 82].
    وقال سبحانه: ( وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً ) [الإسراء: 109].

 

  • 6- تحسين الصوت بالقرآن، وتجويده وترتيله ترتيلاً حسناً؛ قال تعالى: ( أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً ) [المزمل: 4]. و عن البراء بن عازب – رضي الله عنه -: أَنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: «زَيِّنُوا الْقُرآنَ بأصواتكم» (10)

 

  • 7- الاجتماع لقراءة القرآن و مدارسته؛لما روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :«وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ، وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ»(11).

 

  • 8- تقبيل المصحف : تَكْرِيمًا لَهُ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ: كَانَ يَأْخُذُ الْمُصْحَفَ كُل غَدَاةٍ وَيُقَبِّلُهُ، وَيَقُول: عَهْدُ رَبِّي وَمَنْشُورُ رَبِّي عَزَّ وَجَل، وَكَانَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُقَبِّل الْمُصْحَفَ وَيَمْسَحُهُ عَلَى وَجْهِهِ. (12)

وَقَال النَّوَوِيُّ فِي التِّبْيَانِ: رَوَيْنَا فِي مُسْنَدِ الدَّارِمِيِّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّ عِكْرِمَةَ بْنَ أَبِي جَهْلٍ كَانَ يَضَعُ الْمُصْحَفَ عَلَى وَجْهِهِ وَيَقُول: (كِتَابُ رَبِّي كِتَابُ رَبِّي). (13) و ذكر ذلك ابن كثير  في البداية و النهاية عند ترجمته.(14)

 

  • 9- وجوب حفظ كتاب الله في غلاف خاص مناسب ، والحرص على نظافته، ووضعه في مكان لائق، وعدم إلقائه على الأرض.
بعض الصور من أحوال السلف مع القرآن :

وقد ورد عن سلفنا الصالح ما يدلّ على تعظيمهم لكتاب الله وإجلالهم له بأقوالهم وأفعالهم؛ قال قتادة رضي الله عنه: ما أكلت الكرّاث منذ قرأت القرآن.
وقال يزيد بن أبي مالك: ( إنّ أفواهكم طرق من طرق القرآن فطهّروها ونظّفوها ما استطعتم. وقال الراوي الذي يحدث عنه: فما أكل البصل منذ قرأ القرآن.
وقال مجاهد: إذا تثاءبت وأنت تقرأ القرآن فأمسك عن القرآن حتى يذهب تثاؤبك.
وقال النووي: ويستحب أن يقوم للمصحف إذا قدم به عليه؛ لأن القيام يستحب للعلماء والأخيار، فالمصحف أولى.(15)

بناء على ما سبق :
فهذا هو حال المسلم مع القرآن، فينبغي علينا أن نتخذ ورداُ يومياً لقراءته و ختمه  على الأقل مرة في كل شهر ، و وضع برنامجاً لتعلمه و تعليمه ، و المحافظة على كل الآداب و الأحكام التي ذكرناها عسى أن نكون من ” أهل القرآن هم أهل الله و خاصته ” – كما جاء  في الحديث- اللهم اجعلنا منهم أجمعين و الحمد لله رب العالمين

 

 

 


المصادر و المراجع :
1- صحيح مسلم : [2\197] ، رقم  (804) (252)
2- سنن أبي داود : (1464)، و سنن الترمذي (2914).
3- سنن الترمذي : رقم (2910) وقال: «حديث حسن صحيح غريب».
4- صحيح البخاري : [6\206] رقم (4937)، و صحيح مسلم : [2\195] رقم (798) (244).
5- صحيح البخاري : [6\196] (5052)، و صحيح مسلم : (1159).
6- كتاب التبيان في آداب حملة القرآن للإمام النووي : صفحة (70) و ما بعدها
7- السنن الكبرى للنسائي : [2\285] ، رقم (4330)
8- التبيان في آداب حملة القرآن للنووي : صفحة (196)
9- التبيان للنووي : صفحة (80) و ما بعدها
10- سنن أبي داود : رقم (1468) ، و سنن النسائي (180)
11- صحيح مسلم : [8\71] ، رقم (2699)
12- كتاب شرح سنن ابن ماجه للسيوطي : صفحة (263)
13- التبيان للنووي : صفحة (191)
14- ابن كثير  في البداية و النهاية : [9\610]
15- الواضح في علوم القرآن للدكتور مصطفى ديب البغا : صفحة (37)