ما أهمية الاستقامة في الدين و كيف أكون مستقيماً؟

 يجيب عن السؤال الشيخ عبد السميع الياقتي  

السؤال

 ما أهمية الاستقامة في الدين و كيف أكون مستقيماً؟

الجواب

 

الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على سيد المرسلين و على آله و صحبه أجمعين، و بعد:

الاستقامة كلمة تجمع أصول هذا الدين ، و هي الترجمة الحقيقية و التطبيق العملي للإيمان كما جاء في قوله عليه الصلاة و السلام:

“قل آمنت بالله ثم استقم”

جواباً للصحابي الجليل الذي جاء يسأل عن قول جامع في الإسلام ،فاختصر له النبي صلى الله عليه و السلام الدين في هاتين الكلمتين، و من هنا ندرك أهميتها و مكانتها

و لتحقيقها لابد لنا من اتباع المنهج الذي رسمه لنا رسول الله صلى الله عليه و سلم:

“لَا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ، وَلَا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ”

فهذا صراط الله المستقيم و السبيل القويم و الله أعلم

البيان و التفصيل :

الاستقامة كلمة تجمع أصول هذا الدين، و تعني: أن يلزم المرء المنهج المستقيم، و الطريق القويم الذي تكمل به المحاسن و تزكو به النفوس و الأخلاق ؛ بفعل المأمورات و اجتناب المنهيات.

و يكفينا -في فهم حقيقتها و إدراك أهميتها في الإسلام – ما ورد في حقها، من آيات واضحة و أحاديث صحيحة و صريحة ،

من أهمها و أجمعها حديث سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللهِ الثَّقَفِيِّ رضي الله عنه ، أنه قَالَ:

« قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، قُلْ لِي فِي الْإِسْلَامِ قَوْلًا لَا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا بَعْدَكَ – وَفِي رواية: غَيْرَكَ – قَالَ:

قُلْ: آمَنْتُ بِاللهِ فَاسْتَقِمْ ».(1)

يقول الإمام النووي في شرح مسلم : (قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ رحمه الله هَذَا مِنْ جَوَامِعِ كَلِمِهِ وَهُوَ مُطَابِقٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا الله ثم استقاموا} أَيْ وَحَّدُوا اللَّهَ وَآمَنُوا بِهِ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَمْ يَحِيدُوا عَنِ التَّوْحِيدِ وَالْتَزَمُوا طَاعَتَهُ سبحانه و تعالى إِلَى أَنْ تُوُفُّوا عَلَى ذَلِكَ)(2) 

فقد جمع هذا الحديث -في هاتين الكلمتين- معاني الإسلام والإيمان كلها؛ فمعنى قوله :” قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك” ، أي : علمني قولاً جامعاً لمعاني الإسلام واضحاً في نفسه بحيث لا يحتاج إلى تفسير غيرك ؛ لكي أعمل به ، فأجابه صلى الله عليه وسلم بقوله:” قل آمنت بالله ثم استقم”.

فإنه صلى الله عليه وسلم أمر هذا الصحابي الجليل أن يجدد إيمانه بلسانه، متذكراً بقلبه، وأمره أن يستقيم على أعمال الطاعات، والانتهاء عن جميع المخالفات…

وهذا كقوله تعالى:

﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأحقاف 13-14]

و قوله تعالى:

﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنزلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾ [فصلت 30]

يقول الطبري في تفسيره :

(يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {إِنَّ اِلَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ} وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَبَرِئُوا مِنَ الْآلِهَةَ وَالْأَنْدَادِ،

{ثُمَّ اسْتَقَامُوا} عَلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ، وَلَمْ يَخْلِطُوا تَوْحِيدَ اللَّهِ بِشِرْكِ غَيْرِهِ بِهِ، وَانْتَهَوْا إِلَى طَاعَتِهِ فِيمَا أَمَرَ وَنَهَى، عَن أَنَسٍ، قَالَ: قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيه وَسَلَّم هَذِهِ الآيَةَ {الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا الله، ثُمَّ استقاموا} قَالَ: قَدْ قَالَهَا النَّاسُ، ثُمَّ كَفَرَ أَكْثَرُهُمْ فَمَنْ قَالَهَا حَتَّى يَمُوتَ عَلَيْهَا فَهُوَ مِمَّنِ اسْتَقَامَ.(3)) (4) 

و قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا تَقُولُونَ فِي هَذِهِ الآية:{إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا} قَالُوا: رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا من ذنب، فقال: لقد حملتموه عَلَى غَيْرِ الْمَحْمَلِ، {قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا}: فَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَى إِلَهٍ غَيْرِهِ. 

وَ سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : أَيُّ آيَةٍ في كتاب الله تبارك وتعالى أرخص؟ قال قَوْلِهِ تَعَالَى:

{إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا} عَلَيَّ شَهَادَةَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ.

وَقَالَ الزهري: تلا عمر رضي الله عنه هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى الْمِنْبَرِ ثُمَّ قَالَ : اسْتَقَامُوا وَاللَّهِ لِلَّهِ بِطَاعَتِهِ وَلَمْ يَرُوغُوا رَوَغَانَ الثَّعَالِبِ.

 وَقَالَ أبو العالية ثُمَّ اسْتَقامُوا أخلصوا له الدين والعمل.(5) 

 فالاستقامة تتعلق -إذاً- بالأقوال و الأفعال و القلب:

فالاستقامة باللسان : تعني المداومة على كلمة التوحيد و قول الحق و النصح للعباد ، و ترك الأقوال القبيحة و المحرمة كالغيبة و النميمة و غيرها

و الاستقامة بالأفعال : تعني المداومة على العبادات و الطاعات و محاسن الأخلاق

و الاستقامة بالقلب : فتعني المداومة على صدق الإرادة و العزيمة على الخير و طهارة النفس من الكبر و العجب و الرياء

بعد أن عرفنا معنى الاستقامة و حقيقتها و أهميتها؛ نعود للإجابة على الشقِّ الآخر من السؤال :
كيف أكون مستقيماً؟

نقول – و بالله التوفيق – : إن تحقيق الاستقامة يحتاج إلى جدٍّ و اجتهاد و مجاهدة للنفس و الشيطان ، و صبر و مصابرة على فعل الطاعات و ترك المنهيات، و حفظ القلب من سوء النيات و الخطرات، و الجوارح من ارتكاب المخالفات، مع الدعاء و التضرع إلى الله بالحفظ و الثبات ،و  استحضار مراقبة الله تعالى في كل الأحوال كما في قوله صلى الله عليه و سلم عن الإحسان “أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك”

و قد وضَّح لنا رسول الله صلى الله عليه و سلم سبيل الاستقامة و رسم لنا خطةً ، و وضع لنا منهجاً لتحقيقها

فعن سيدنا أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “لَا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ، وَلَا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ، وَلَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ رَجُلٌ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ”(6)

و عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه أنه قَالَ: ( كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ فَخَطَّ خَطًّا هَكَذَا أَمَامَهُ، فَقَالَ: “هَذَا سَبِيلُ اللهِ”، وَخَطَّيْنِ عَنْ يَمِينِهِ، وَخَطَّيْنِ عَنْ شِمَالِهِ قَالَ: “هَذِهِ سَبِيلُ الشَّيْطَانِ”، ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ فِي الْخَطِّ الْأَوْسَطِ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ، وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ، فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ، وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153] ). (7)

بناءً على ما سبق :

فأوصيك أخي المسلم و نفسي بما أوصى به النبي صلى الله عليه و سلم الصحابة بتحقيق الإيمان،

 و العمل بموجبه بالجوارح و الأركان ، و اتباع الصراط المستقيم الذي رسمه لنا و البعد عن سبيل الشيطان ، 

و المحافظة على الدعاء و طلب الهداية و الثبات عليها ؛ فالقلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن، 

و الله أعلم.



 

 

المصادر و المراجع :

1-صحيح مسلم : رقم (38) [1\165]

2-شرح صحيح مسلم للنووي : [2\9]

3- مسند البزار : رقم (6885)، [13\298]

4- تفسير الطبري المسمى : جامع البيان عن تأويل آي القرآن، [20\421]

5- ينظر : تفسير ابن كثير : [7\161] ،و تفسير البغوي :[2\468]

6- مسند أحمد : رقم (13048) ، [20\343] ، و البيهقي في شعب الإيمان : رقم (8) [1\98] .

7- مسند أحمد : رقم (15277) ، [23\417] ، و ابن ماجه : رقم (11) [1\6]