كيف يصير المعنى على قراءة (لا يُهدى من يضل) في قول الله تعالى: ﴿إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ﴾؟
يجيب عن السؤال الشيخ أنس الموسى
السؤال
كيف يصير المعنى على قراءة (لا يُهدى من يضل) في قول الله تعالى: ﴿إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ﴾؟
الجواب
وقد اختلف القرَّاء في قراءة (يهدي) بين فتح الياء وضمها؛ فقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ونافع، وابن عامر، وأبو جعفر، ويعقوب: {لا يُهْدَى} بضم الياء وفتح الدال.
وقرأ عاصم وحمزة والكسائي وخلف: {لا يَهْدِي} بفتح الياء وكسر الدال، ولم يختلف القراء في قراءة {يُضِل} فالجميع قرأها مرفوعة الياء مكسورة الضاد. (1)
وبكون المعنى على قراءة (لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ): إنَّ الله لا يَهْدَي مَنْ أضلَّه في سابق علمه؛ لاستجابته الإضلال باختياره الضلالة على الهدى، فَالتَّقْدِيرُ: مَنْ يَهْدِهِ لَا يُضِلُّهُ.
أما على قراءة (لا يُهْدَى من يُضِلُّ) فالمعنى: لا يُهْدَى أحدٌ يُضِله اللَّهُ، أو مَن أضلَّه الله لا يُهدى، وهذا نظير قوله عزَّ وجلَّ: ﴿مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾ [الأعراف: 186]
ويتأيد هذا المعنى بقِرَاءَة أُبَيٍّ: «لَا هَادِيَ لِمَنْ أَضَلَّهُ اللَّهُ»، وعليه: فَاسْمُ اللَّهِ تَعَالَى هنا هو اسْمُ «إِنَّ»، وَ «يُضِلُّ» الْخَبَرُ، و (يُهْدَى) هو فعلُ ما لم يُسمَّ فاعلُه (مبني للمجهول)، و «مَنْ» نائب فاعل.
وهذا كقول الله تعالى: ﴿وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا ﴾ [النساء: 28] والتقدير: خَلقَ اللهُ الإنسانَ ضعيفاً، فـ(خُلقَ): فعل مبني لما لم يُسمَّ فاعله، برفع لفظ الجلالة على الفاعلية، ونَصْبِ الإنسان على المفعولية. فحُذِفَ الفاعلُ وهو لفظ الجلالة (الله)؛ للعلم به، وبقي الفعل بحاجة إلى ما يُسند إليه، فأقيم المفعول به مقام الفاعل في الإسناد إليه.(2)
وِقْفَات في معنى الآية
- الإضلال فِي كَلَام الْعَرَب ضدّ الهِدَاية والإرشاد. يُقَال: أَضللْتُ فلَانا، إِذا وجَّهتَه للضلال عَن الطَّرِيق، وإياه أَرَادَ لبيد: مَنْ هداه سُبُلَ الخَيْرِ اهْتَدَى … ناعِمَ البالِ وَمن شَاءَ أَضلّ (3)
- ﴿إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ﴾: أي فإن الله تعالى من شأنه أن أحداً لا يَهدي من أضلَّه، ومن كان أضلَّه الله في سابق علمه فكيف يهديه الآن؟ وإذا كان المعطي هو المانع فمن يُعْطِ؟! ولو كان الخير كلُّه في قلب عبدٍ ما قَدَرَ أن يوصِلَ إلى قلبه مِنْ قلبه ذَرَّة، ولا استطاع أن ينفع نفسه بنفسه خَردلة. (4)
- نقل الْكسَائي في معنى (فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ): وَجْهَان: الأول: أَن الله إِذا كَتب عبدًا شقيًا فَإِنَّهُ لَا يهديه كَقَوْلِه:﴿وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة: 258] وَكَانَ مُجَاهِد رَحمَه الله يَقُول: أَرْبَعَة أَشْيَاء لَا تُغيَّر: الشَّقَاء والسعادة والحياة وَالْمَوْت (أي لسبق علم الباري بها وإلاَّ انقلب العلم جهلاً). وَالْوَجْه الآخر: أَن الله جلّ وَعز من يُضِل. (5)
- لا جدوى ولا فائدة من حرص النبي صلّى الله عليه وسلّم، أو غيره على هداية أحد بجهده وتصميمه إنْ سَبَقَ في علم الله الضلالة له، فإنه تعالى لا يرشد من أضله، بعد أن ضل سواء السبيل، وليس للضالين من ناصرين ولا من شافعين، ولا من رفاق ينقذونهم من العذاب الذي استحقوه على ضلالهم وكفرهم. (6)
- دعاءُ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام واستغفارُهم وشفاعتُهم هو سبب ينفع إذا جعل الله تعالى المحل قابلاً له، وإلاَّ فلو استغفر النبي للكفار والمنافقين لم يُغفر لهم كما قال الله تعالى: ﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ [المنافقون: 6]
- ذكر ابن عجيبة في تفسيره لهذه الآية فقال: ” نهى نبيه عن الحرص عليهم فقال: إِنْ تَحْرِصْ يا محمد عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ أي: من يريد إضلاله وقضى بشقائه، وهو الذي حقَّت عليه الضلالة. وقال بأن قراءة ضم الياء (يُهْدَى) أبلغ، وأن المعنى: فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي من يُضِلُّه، أي: لا يَهْدِي غيرُ الله من يريد اللهُ إضلاله. (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ): أي ليس لهم من ينصرهم ويدفع العذاب عنهم. (7)
وأخيراً: هذه الآية فيها مواساة ومؤانسة من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم، عمَّا يقابَل به من جحود قومه، فقال له: (إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُهْدَى مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) أي: إن حرصك يا محمد على هداية قومك لا ينفع، فإنها أمور محتومة، ولا يفيدهم حرصك إذا كان الله تعالى قد أراد إضلالهم بسوء اختيارهم، والله لا يهدي من قضى بإضلاله، وأساء الاختيار، وليس لمن اختاروا الضلالة ناصرون ينقذونهم من عذاب الله وعقابه لأن أساس الحساب على الإيمان والكفر هو الاختيار، لا الإكراه والإلجاء. (8) والله تعالى أعلم
(1):ينظر: السبعة في القراءات أبو بكر ابن مجاهد ص372؛ المبسوط في القراءات العشر أحمد بن الحسين بن مهران النيسابوري ص263.
(2): ينظر: إعراب القراءات السبع وعللها لابن خالويه ص260؛ الحجة في القراءات السبع لابن خالويه ص210؛ معاني القراءات للأزهري (2/79)؛ معانى القرآن للفراء: (2/ 99)؛ حجة القراءات عبد الرحمن بن زنجلة ص389؛ القراءات وأثرها في علوم العربية محمد محمد محيسن (1/352).
(3): تهذيب اللغة للأزهري (11/319).
(4):قوت القلوب في معاملة المحبوب ووصف طريق المريد إلى مقام التوحيد لأبي طالب المكي (1/218).
(5):ينظر: حجة القراءات لابن زنجلة ص389.
(6):التفسير المنير وهبة الزحيلي (14/136).
(7): تفسير البحر المديد لابن عجيبة (3/126).
(8): التفسير الوسيط للزحيلي (2/1261).
[الشيخ] أنس الموسى
هو الشيخ الحافظ الجامع أنس الموسى بن محمد بشير من مواليد سوريا – حماة 1974م
تخرج في المعهد الهندسي قسم الإنشاءات العامة بدمشق، وتخرج في جامعة الأزهر كلية أصول الدين تخصص الحديث النبوي.
قرأ على كبار علماء دمشق، منهم الشيخ عبد الرحمن الشاغوري والشيخ أديب الكلاس وغيرهم.
حفظ القرآن وأُجير به وبالقراءات العشر المتواترة، على الشيخ بكري الطرابيشي والشيخ موفق عيون، كما وتخرج من مدرسة الحديث العراقية.
درس الكثير من المواد الشرعية في المعاهد الشرعية في سوريا وتركيا.
إمام وخطيب لمدة تزيد على 15 سنة.
مدرس للقرآن الكريم بمختلف قراءاته ورواياته.
حالياً يعمل كمدرس في مؤسسة سيكيرز، ومسؤول التوجيه الأكاديمي فيها.
أنهى مرحلة الماجستير في الحديث النبوي، وهو الآن يكمل في مرحلة الدكتوراه بنفس التخصص، متزوج ومقيم في إستانبول.
