كيف يمكن التمييز بين العلماء الذين يمكن أن يكونوا قدوة يحتذى بهم بعد النبي صلى الله عليه و سلم؟
يجيب عن السؤال الشيخ عبد السميع ياقتي
السؤال
كيف يمكن التمييز بين العلماء الذين يمكن أن يكونوا قدوة يحتذى بهم بعد النبي صلى الله عليه و سلم؟
الجواب
الحمدُ لِلَّهِ رب العالمين، و الصلاة و السلام على سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّدًا وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أجمعينَ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، و بعد :
هنالك معايير و صفات لا بد أن تتوفر فيمن يُتخذ قدوة و يُحتذى به من العلماء، و هذه المعايير دلت عليها نصوص شرعية كثيرة في القرآن الكريم و السنة الشريفة، و من أهم هذه المعايير: الاستقامة و الاتباع للنبي صلى الله عليه و سلم، و العلم و العمل بما يَعلم و يُعلِّم، و الحكمة، و التواضع و الرفق بالمتعلمين و غير ذلك من صفات الأنبياء و الصالحين و العلماء العاملين .
التفصيل و البيان :
لا يخفى على أحد أهمية اتخاذ القدوة في اكتساب الفضائل و الأخلاق الحميدة، و في تقويم السلوك و التزكية ، و هذا من الحكم التي بعث الله تعالى الأنبياء و الرسل لأجلها، ليكونوا الوجه العملي للشريعة فيقتدي الناس بهم ..، كما قال الله تعالى : ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾ [الأحزاب: 21 ]
و قال أيضاً: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ ﴾ [الأنعام 90]
-و قد ورد هذا المعنى أيضاً في السنة الشريفة ، لما سئلت السيدة عائشة -رضي الله عنها- عن خلق النبي -صلى الله عليه و سلم- قالت: ” فإن خلق نبي الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن “(1)
– وقد وضَّح الرسول -صلى الله عليه وسلم- مدى خطورة القدوة السيئة ، وما تحمله من أوزار على من سنها، وعلى من يتأسون ويتأثرون بها، و خاصة إذا كانت ممن ينتسب إلى العلم و الدين ،فعن جرير بن عبدالله -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: « مَنْ سَنَّ في الإِسْلاَمِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شيء، وَمَنْ سَنَّ في الإِسْلاَمِ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شيء» (2).
– و بعد هذه المقدمة الضرورية، فما هي المعايير و الصفات التي ينبغي أن تتوفر فيمن يُتخذُ قدوةً من العلماء بعد النبي صلى الله عليه و سلم ؟
– بداية لا بد أن نرسخ في أذهان شبابنا أن أول و أعظم قدوة على الإطلاق هو سيدنا محمد -صلى الله عليه و سلم- فهو الذي اختاره و ارتضاه الله تعالى لنا قدوة و أسوة، و جعل اتباعه و طاعته طريقاً و برهاناً على محبته سبحانه ، فقال:﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [ آل عمران 31 ]، وكذلك من سار على دربه و اقتدى بهديه،
– و من هذا المنطلق تبدأ عملية التمييز بين العلماء لاختيار من يصلح منهم للقدوة ، ممن تحققت فيهم المعايير و الصفات، و التي من أهمها :
أولاً – الاستقامة والاتباع لمنهج النبي صلى الله عليه وسلم:
فعَنِ عبد الله بْنِ عُمَرَ -رضي الله عنه-،عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَّ- أَنَّهُ قَالَ: «يَا ابْنَ عُمَرَ دِينُكَ دِينُكَ، إِنَّمَا هُوَ لَحْمُكَ وَدَمُكَ، فَانْظُرْ عَمَّنْ تَأْخُذُ، خُذْ عَنِ الَّذِينَ اسْتَقَامُوا، وَلَا تَأْخُذْ عَنِ الَّذِينَ مَالُوا»(3)
ويروي الإمام مسلم في صحيحه بسنده عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ أنه قَالَ: « إِنَّ هَذَا الْعِلْمَ دِينٌ فَانْظُرُوا عَمَّنْ تَأْخُذُونَ دِينَكُمْ ».وقَالَ أيضاً : « لَمْ يَكُونُوا يَسْأَلُونَ عَنِ الْإِسْنَادِ، فَلَمَّا وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ قَالُوا: سَمُّوا لَنَا رِجَالَكُمْ فَيُنْظَرُ إِلَى أَهْلِ السُّنَّةِ فَيُؤْخَذُ حَدِيثُهُمْ، وَيُنْظَرُ إِلَى أَهْلِ الْبِدَعِ فَلَا يُؤْخَذُ حَدِيثُهُمْ» (4).
ثانياً – العلم و العمل بما يَعلم و يُعلِّم و بما يأمر به أو ينهى عنه قدر استطاعته :
فعن أسامة بن زيد -رضي الله عنه- أنه قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه و سلم- يقول: «يُؤْتَى بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُلْقَى فِي النَّارِ، فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُ بَطْنِهِ ، فَيَدُورُ بِهَا كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِالرَّحَى، فَيَجْتَمِعُ إِلَيْهِ أَهْلُ النَّارِ، فَيَقُولُونَ: يَا فُلَانُ مَا لَكَ؟ أَلَمْ تَكُنْ تَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَتَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ؟ فَيَقُولُ: بَلَى، قَدْ كُنْتُ آمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا آتِيهِ، وَأَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ»متفق عليه (5)
و معنى تندلق أقتاب بطنه : أي تخرج أمعاؤه من مكانها
وقال سيدنا علي رضي الله عنه: “من نصّب نفسه للناس إماماً فعليه أن يبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره، وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه”(6)
قال الشاعر:(7)
وقال ابن رسلان – رحمه الله – (8):
وَعَالِمٌ بِعِلْمِهِ لَمْ يَعْمَلَنْ … مُعَذَّبٌ مِنْ قَبْلِ عُبَّادِ الصَّنَمْ
– وحسبنا أن النبي -صلى الله عليه و سلم- طبق بنفسه هذا الأسلوب، كما أمره ربه سبحانه و تعالى بقوله : ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [الأحزاب: 59].
و الأمثلة كثيرة جداً في سيرته الشريفة، كما في حمله اللَّبِن -صلى الله عليه وسلم- في بناء مسجده، والمشاركة في حفر الخندق و نقله التراب على ظهره الشريف صلى الله عليه و سلم
ثالثاً – الحكمة و مراعاة كونه متبوعاً :
فينبغي على هذا العالم القدوة، أن ينتبه إلى أقواله و أفعاله و أحواله ، حتى لو تتطلب الأمر منه ترك المباحات التي قد لا تتضح حقيقتها للناس .
فعن سيدنا عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- أنه رأى على طلحة بن عبيد الله ثوباً مصبوغاً وهو مُحْرِم، فقال عمر: ما هذا الثوب المصبوغ يا طلحة . فقال طلحة: يا أمير المؤمنين، إنما هو مدر ، فقال عمر: إِنَّكُمْ أَيُّهَا الرَّهْطُ أَئِمَّةٌ يَقْتَدِي بِكُمُ النَّاسُ . فَلَوْ أَنَّ رَجُلًا جَاهِلًا رَأَى هَذَا الثَّوْبَ ، لَقَالَ : إِنَّ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ كَانَ يَلْبَسُ الثِّيَابَ الْمُصَبَّغَةَ فِي الْإِحْرَامِ ، فَلَا تَلْبَسُوا أَيُّهَا الرَّهْطُ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الثِّيَابِ الْمُصَبَّغَةِ”(9)
رابعاً – التواضع و الرفق و المحبة للمتعلمين، و غير ذلك من مكارم الأخلاق : و النصوص الشرعية كثيرة في ذلك و لكن سأذكر حديثاً واحداً يحمل الكثير من هذه المعاني العظيمة
فعن مُعَاذ بن جبل -رضي اللَّه عنه- ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَخَذَ بِيَدِهِ يَوْمًا ثُمَّ قَالَ: «يَا مُعَاذ، وَاللهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ» فَقَالَ لَهُ مُعَاذٌ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللهِ، وَأَنَا وَاللهِ أُحِبُّكَ ، قَالَ:” أُوصِيكَ يَا مُعَاذُ لَا تَدَعَنَّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ أَنْ تَقُولَ: اللهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ »(10)
و بناءً على ما سبق :
فينبغي عليك أيها الشاب -بعد الاستعانة بالله- أن تتخير لنفسك و دينك من العلماء من تحققت فيهم هذه الصفات قدر الإمكان، ليكون لك قدوةً توصلك إلى القدوة العظمى و هي الحبيب صلى الله عليه و سلم
و لتكون أنت -فيما بعد- قدوة لغيرك كما قال الله تعالى : ﴿وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ﴾ [الفرقان: 74]
أي: أئمة نقتدي بمن قبلنا، ويَقتدي بنا مَن بعدَنا ، و الحمد لله رب العالمين
المصادر و المراجع :
1- صحيح مسلم : رقم (746)
2- صحيح مسلم : رقم (2673)
3- ينظر : كتاب الكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي صفحة (121)
و كتاب جامع الأحاديث للإمام السيوطي، رقم (25582)
4- صحيح مسلم : [1\11] الطبعة التركية
5- صحيح البخاري رقم (3267)، و صحيح مسلم رقم (2989).
6- ينظر : كتاب المستطرف في كل فن مستظرف للمؤلف شهاب الدين الأبشيهي. صفحة (27)
7- المرجع السابق ، و الشاعر هو: المتوكل الليثي من العصر الأموي ، و قيل غيره
8- ينظر : كتاب الزبد في الفقه الشافعي لابن رسلان، صفحة (4)
9- الموطأ للإمام مالك : رقم (1164)
10- سنن أبي داود : رقم (1522)، و سنن النسائي : (9857).
[الشيخ] عبد السميع ياقتي
الشيخ عبد السميع ياقتي عالم إسلامي من علماء سورية، مواليد حلب 1977م
نال الإجازة في الشريعة من كلية الشريعة جامعة دمشق، ودبلوم التأهيل التربوي من كلية التربية جامعة حلب، ودبلوم الشريعة والماجستير في الشريعة من كلية الشريعة والقانون جامعة أم درمان في السودان، وهو الآن بصدد إعداد أطروحة الدكتوراة في جامعة محمد الفاتح في إسطنبول
تتلمذ على أكابر العلماء: كالشيخ عبد الرحمن الشاغوري، والشيخ مصطفى التركماني، والشيخ الدكتور نور الدين عتر، رحمهم الله، والشيخ الدكتور محمود مصري، والعلامة الحبيب عمر بن سالم بن حفيظ و الشيخ عمر بن حسين الخطيب والشيخ محمد الأمين الشنقيطي وغيرهم من علماء الشام وحضرموت والإمارات.
عمل في مجال التدريس والتوجيه الثقافي في دار الأيتام وفي ثانويات حلب، وكان إماماً وخطيباً وقارئاً في مسجد الشيخ زايد في أبو ظبي، ومدرباً معتمداً للخطباء في برنامج تأهيل الخطباء في أبو ظبي
و يقوم بإعداد و تدريس برنامج تعليم الشباب في سيكرز عربية للعلوم الشرعية
للشيخ مؤلفات أهمها: إمام الحرمين الجويني بين علم الكلام وأصول الفقه، وبرنامج (رسول الله فينا) ﷺ