هل يجوز طباعة المصحف بحروف ملونة دلالة على الأحكام التجويدية؟

يجيب عن السؤال الشيخ  أنس الموسى

السؤال

هل يجوز طباعة المصحف بحروف ملونة دلالة على الأحكام التجويدية؟

الجواب

بسم الله الرحمن الرحيم

نعم يجوز طباعة المصحف بحروف ملونة؛ دلالةً على أحكام التجويد وقواعده، كتلوين أحكام النون الساكنة بلون، وأحكام الميم الساكنة بلون، وأحكام المد بلون مختلف…وهكذا، وهو عمل مشروع لغرضٍ مشروع، مادام ليس في هذه الألوان إهانةً له، ومادام الغرض هو التيسير والتسهيل، وإتقان التلاوة، وما دام الأمر بعيداً عن اللَّبس والتَّزيُّدِ في كتاب الله عز وجل، وما دام المصحف بعيداً عن كل ما يُخرجه عن كونه  كتاباً مقدساً فيه كلام الله عز وجل، وصيرورتِه كتاباً عادياً، أو كتاباً مدرسياً!!
وقد كان السلف الصالح يفعلون شيئاً قريباً من هذا، حين كانوا يضبطون علامات الإعراب للكلمات القرآنية لتمييز الرسم من الضبط بألوان مختلفة؛ منعاً للخطأ في تلاوتها، وتفصيل ذلك كالآتي:
  1. عمد السلف الصالح رضوان الله عليهم إلى نقط حروف المصحف وإعجامها؛ فالمصحف العثماني لم يكن منقوطاً، وإعجام المصاحف لم يحدث على المشهور إلاَّ في عهد عبد الملك بن مروان؛ إذ رأى أن رقعة الإسلام قد اتسعت، واختلط العرب بالعجم، وكادت العجمة تمسُّ سلامة اللغة، وبدأ اللبس والإشكال في قراءة المصاحف يُلِحُّ بالناس، حتى لَيَشُقُّ على السوادِ منهم أن يهتدوا إلى التمييز بين حروف المصحف وكلماته وهي غير معجمة؛ فأمر الحجاج أن يُعنى بهذا الأمر الجلل، وندب الحجاجُ رجلين جليلين جمعا بين العلم والعمل، والصلاح والورع، والخبرة بأصول اللغة ووجوه قراءة القرآن، لمعالجة هذا المشكل، وهما نصر بن عاصم الليثي، ويحيى بن يعمر العدواني، وقد نجحا فيما نُدبا إليه وأعجما المصحف الشريف لأول مرة، ونَقَطَا جميع حروفه المتشابهة، والتزما ألاَّ تزيد النُّقط في أيِّ حرف على ثلاث، وشاع ذلك في الناس بَعْدُ، فكان له أثره العظيم في إزالة الإشكال واللبس عن المصحف الشريف.
  2. واتفق المؤرخون على أن العرب في عهدهم الأول، لم يكونوا يعرفون ضبط حروف الكلمات بالشكل؛ وذلك لصفاء سليقتهم وذلاقة ألسنتهم، ولكن حين دخلت الإسلامَ أممٌ جديدة؛ منهم العجم الذين لا يعرفون العربية، وبدأت العُجمة تحيف على لغة القرآن؛ بدأ ضبط الكلمات بالشكل. وقيل إن أبا الأسود الدؤلي سمع قارئاً يقرأ قوله تعالى: ﴿‌أَنَّ ‌اللَّهَ ‌بَرِيءٌ ‌مِنَ ‌الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ ﴾ [التوبة: 3] فقرأها بجر اللام من كلمة  (ورسولُه)؛ فأفزع هذا اللحنُ الشنيعُ أبا الأسود وقال: عزَّ وجه الله أن يبرأ من رسوله، ثم رجع من فوره إلى زياد (والي البصرة، وكان قد سأله أن يجعل للناس علامات يعرفون بها كتاب الله تعالى، فتباطأ في الجواب حتى راعه هذا الحادث)، فقال: يا هذا، قد أجبتك إلى مسألتك، ورأيت أن أبدأ بإعراب القرآن، فابعث إليَّ ثلاثين رجلاً، فأحضرهم زياد، فاختار منهم أبو الأسود عشرة، ثم لم يزل يختارهم حتى اختار منهم رجلاً من عبد القيس، فقال: خذ المصحف وصِبغاً يخالف لون المداد، فإذا فتحت شفتي فانقط واحدة فوق الحرف، وإذا ضممتها، فاجعل النقطة إلى جانب الحرف، فإذا كسرتها فاجعل النقطة في أسفله، فإن أتبعت شيئاً من هذه الحركات غُنَّة فانقط نقطتين (للدلالة على الحرف المشدد)، فابتدأ بالمصحف حتى أتى على آخره”. (1). وهذا الفعل يشبه إلى حد كبير تلوين بعض كلمات القرآن لبيان أحكام التجويد المعينة على حسن التلاوة.
ملحوظات لها صلة بتلوين بعض آيات المصحف وكلماته
  • أجمع أهل العلم على وجوب صيانة المصحف وتعظيمه، وتحريمِ تعريضِه للامتهان والابتذال، ومظاهر تعظيم كلام الله تعالى كثيرة جداً، فمنها ما ورد عن الصحابة، ومنها ما ورد عن التابعين، ومنها ما عمل به العلماء والمسلمون من بعدهم؛ كحفظ المصحف في حقيبة من جلد أو قماش، ورفعه عن الأرض، وغير ذلك من الإجلال.
  • ولهذا تسابق المسلمون في خدمة كتاب ربهم كثيراً، ومن الخدمات التي حظي بها المصحف: كتابتُه بأجمل الخطوط، وإعجامُ حروفه، وضبطُها بالشكل؛ منعاً للخطأ المحتمل في القراءة. ومنها تحديد أماكن الوقف والابتداء؛ ليسهل على القاريء فهم المعنى، ومنعاً للوقف الخاطيء أو الابتداء الخاطئ الذي قد يؤدي لتحريف معنى كلام الله عز وجل. كما ووضع العلماء رموزاً ابتكروها لتوضيح أماكن الوقف الجائز والممنوع على كلم القرآن، كالرمز (ج) علامة للوقف الجائز، والرمز (م) علامة للوقف الواجب، وغير ذلك من الرموز التي صارت تطبع مع المصحف وتوضع في آخره تحت عنوان: علامات الضبط.
  • وفي وقتنا الحاضر كثرت الخدمات الشكلية للمصحف الشريف، وتفنن الناس في ذلك فمنهم من اهتم بطباعته أفضل الطبعات على أفضل الورق وبأجمل الزخارف والنقوش، بل وأُسست مطابع خاصة لطباعة المصحف الشريف وتوزيعِه على الناس دون أي مقابل، كما هو الحال في المطابع الموجودة في بلاد الحرمين الشريفين.
  • يدخل في جواز تلوين بعض كلمات المصحف للدلالة على أحكام التجويد، ما تفعله بعض المطابع اليوم من تلوين الآيات المتشابهة؛ لمساعدة الحفاظ على ضبطها وإتقانها ومنع الاختلاط والوهم فيها. كما يدخل فيه: تلوين الآيات التي تتحدث عن موضوع معين والإشارة باللون لهذا الموضوع، فمثلاً اللون الأزرق يدل على دلائل قدرة الله تعالى في الكون والأنفس وعظيم خلقه تعالى وفضله وإحسانه على عباده، أما اللون الأصفر فيعبر عن قصص الأنبياء وسيرتهم ومعجزاتهم وقصص الأمم السابقة، واللون الأحمر يشير إلى جهنم وأوصافها وعذاب المشركين والكافرين، وغيرها من الألوان. ويدخل فيه أيضاً: ما يفعله بعض الحفاظ من وضع ورقة لاصقة ملونة في المصحف لتحديد المتشابه من الآيات، فالحاجة قد تدعو لذلك.
  • أما ما يفعله بعض الناس من تظليل الآيات باللون الفسفوري ونحوه؛ لتذكرها أو معاودة مراجعتها، وغير ذلك من الأغراض، فالأولى والأجدر ترك ذلك؛ محافظةً على حرمة المصحف وإجلاله في النفوس؛ فإن المصحف له في نفوس المسلمين حرمةٌ عظيمة ، فينبغي المحافظة على تلك الحرمة ، وعدمُ المِساس بها ، وتظليل بعض الآيات بهذه الأقلام والألوان يُخشى منه أن يؤدي إلى إسقاط تلك الحرمة والتعظيم أو الانتقاص منها؛ حين يتوسع الناس في ذلك بالتلوين والتخطيط ، حتى يبدو المصحف في النهاية ككتاب مدرسي، أو كتاب ثقافي، فتقلُّ هيبته في النفوس، والمصلحة المرجوة من وراء هذا التظليل يمكن تحصيلها بغير ذلك وهو كثير.
  •  يجدر الانتباه ونحن نتحدث عن الخدمات الجليلة التي لقيها المصحف، أن نعلم أن إعجامَ الحروف وضبطَها بالشكل، ووضعَ رموز علامات الوقف والابتداء، وتقسيم المصحف إلى أرباع وأحزاب وأجزاء وغير ذلك، لم يكن كله موجوداً لا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا في عهد صحابته رضوان الله عليهم، بل هي أمور استحدثت بعدهم وافق عليها العلماء وقبلوها كونها تخدم كلام الله تعالى تلاوة وتدبراً وفهماً.
  • ويجدر لفت الانتباه أيضاً إلى أن العلماء في الصدر الأول كانوا يرون كراهة نقطِ المصحف وشكلِه؛ مبالغةً منهم في المحافظة على كتابة القرآن كما رُسم، وخوفاً من أن يؤدي ذلك إلى التغيير فيه. ومن ذلك ما روي عن ابن مسعود أنه قال: “جَرِّدُوا الْقُرْآنَ، وَلَا تَخْلِطُوهُ بِشَيْءٍ”. (2)  وما روي عن ابن سيرين حين سئل عَنِ الْمُصْحَفِ: يُنَقَّطُ بِالنَّحْوِ؟ قَالَ: ‌” أَخْشَى ‌أَنْ ‌يَزِيدُوا ‌فِي ‌الْحُرُوفِ “. (3) وروى ابن أبي داود السجستاني في كتابه المصاحف أنهم:«‌كَانُوا ‌يَكْرَهُونَ ‌النَّقْطَ ‌وَالتَّعْشِيرَ ‌وَإِحْصَار ‌السُّوَرِ» (4)  ولكن عند تغيَّر الزمان والأشخاص كما سبق وذكرنا، اضطر المسلمون إلى نقط حروف المصحف وشكله لنفس السبب الذي منع منه السابقون وهو خوف تحريف كلام الله تعالى، والمحافظة على أداء القرآن كما رُسم، وخوفاً من أن يؤدي تجرده عن النقط والشكل إلى التغيير فيه، فزال بذلك القول بكراهة الإعجام والشكل، وحل محلَّه القول بوجوب ذلك أو باستحبابه؛ فالحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً؛ وكراهية النقط ليست لذات النقط، وإنما بسبب الخوف من زيادة في القرآن، أو تحريفه، ويمكن القول بمثله فيما يتعلق بتلوين بعض كلمات المصحف وآياته. (5)
  •  نقل النووي أنه يستحب نقطُ المصحف وشكلُه؛ فإنه صيانةٌ من اللحن فيه، وأما كراهة الشعبي والنخعي النَّقْطَ، فإنما كرهاه في ذلك الزمان خوفاً من التغيير فيه، وقد أُمن ذلك اليومَ، فلا يمنع من ذلك لكونه محدَثاً، فإنه من المحدثات الحسنة، فلا يُمنع منه كنظائره، مثل تصنيف العلم وبناء المدارس والرباطات وغير ذلك”. (6)
  •  جرى خلاف بين أهل العلم في جواز تحلية المصاحف بالنقدين الذهب أو الفضة، فمنهم من أجاز ذلك ومنهم من كرهه، وهناك من حرمه مستدلاً بما روي عن أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ قوله: «‌إِذَا ‌حَلَّيْتُمْ ‌مَصَاحِفَكُمْ ‌وَزَوَّقْتُمْ ‌مَسَاجِدَكُمْ ‌فَعَلَيْكُمُ ‌الدِّثَارُ». (7) قال ابن الأثير: ” وأصل الدُّثورُ الدُّرُوسُ، وهو أن تَهُبَّ الرِّباحُ على المنزل فَتُغَشِّي رُسُومَه بِالْرَمْلِ وتُغطيها بالتراب… ودُرُوس النفس: سُرعةُ نِسيانِها.(8) ولعل المراد: إذا فعلتم ذلك حَلَّ عليكم دُروسُ ذكر الله وامِّحاؤهُ من قلوبكم، فنسيتم الله وهجرتم مساجده.
  • والحقيقة إن الخدمات الجليلة للمصحف الشريف لا تقف عند حد ولن تقف ، وليس تلوين الحروف لبيان أحكام التجويد آخرها، وكلَّما طال الزمان سيبتكر المسلمون ما من شأنه تعظيمَ كتاب الله وتقريبَه تلاوةً وتجويداً وفهماً، خصوصاً في عصر التطور التكنلوجي المتسارع.
وأخيراً: كل شيء يُخرِجُ القرآنَ عن التقديس والاحترام فهو منهي عنه مهما كان هذا العمل ومهما كانت غايته.
روي عن عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ أنه أُتِيَ  بِمُصْحَفٍ قَدْ زُيِّنَ وَذُهِّبَ، فَقَالَ : ‌”إِنَّ ‌أَحْسَنَ ‌مَا ‌زُيِّنَ ‌بِهِ ‌الْمُصْحَفُ ‌تِلَاوَتُهُ ‌فِي ‌الْحَقِّ”. (9)
اللهم أعنا على حسن تلاوة كتابك، وأعنا على إقامة حروفه، وإقامة حدوده… آمين
وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

(1): ينظر: معترك الأقران في إعجاز القرآن للسيوطي (1/55)؛ الإتقان للسيوطي (3/383).
(2): معترك الأقران للسيوطي (1/56).
(3): ينظر: البرهان في علوم القرآن للزركشي (1/173).
(4): تفسير أبو السعود (1/20)، الإتقان للسيوطي النوع الستون (3/361).
(5): صحيح مسلم (879).
(6): ينظر: التفسير المنير للزحيلي (12/200).
(7): ينظر: تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة ص67؛ المسائل والأجوبة في الحديث والتفسير لابن قتيبة ص216؛ الانتصار للقرآن للباقلاني (2/776).
(8):  ينظر: تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة ص182،ص183؛ الهداية إلى بلوغ النهاية في علم معاني القرآن وتفسيره وأحكامه وجمل من فنونه مكي بن أبي طالب (1/121).

[الشيخ] أنس الموسى

هو الشيخ الحافظ الجامع أنس الموسى بن محمد بشير من مواليد سوريا – حماة 1974م 

تخرج في المعهد الهندسي قسم الإنشاءات العامة بدمشق، وتخرج في جامعة الأزهر كلية أصول الدين تخصص الحديث النبوي. 

قرأ على كبار علماء دمشق، منهم الشيخ عبد الرحمن الشاغوري والشيخ أديب الكلاس وغيرهم.

حفظ القرآن وأُجير به وبالقراءات العشر المتواترة،  على الشيخ بكري الطرابيشي والشيخ موفق عيون، كما وتخرج من مدرسة الحديث العراقية.

درس الكثير من المواد الشرعية في المعاهد الشرعية في سوريا وتركيا.

إمام وخطيب لمدة تزيد على 15 سنة.

مدرس للقرآن الكريم بمختلف قراءاته ورواياته.

حالياً يعمل كمدرس في مؤسسة سيكيرز، ومسؤول التوجيه الأكاديمي فيها.

أنهى مرحلة الماجستير في الحديث النبوي، وهو الآن يكمل في مرحلة الدكتوراه بنفس التخصص، متزوج ومقيم في إستانبول.