من أين عرفنا أحكام التجويد التي نقرأ بها القرآن؟ هل كانت العرب تتكلم بها؟
يجيب عن السؤال الشيخ أنس الموسى
السؤال
من أين عرفنا أحكام التجويد التي نقرأ بها القرآن؟ هل كانت العرب تتكلم بها؟
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
القرآن الكريم نزل بلسان العرب، وأحكام التجويد (أحكام النطق السليم لحروف القرآن وكلماته) التي نؤديه بها كانت موجودة في لسانهم أيضاً؛ فكان العرب يتحدثون العربية بطبيعتها وفطرتها، ويتقيدون بقواعد النطق دون تكلف، يخرجون الحروف من مخارجها الصحيحة، ويمدون الحروف الواجب مدها، ويدغمون الحروف الواجب إدغامها، ويفخمون الحروف المستعلية، ويرققون الحروف المستفلة.. وغير ذلك من قواعد التجويد التي سطِّرت اليوم في كتب أحكام التجويد.
– ولم يكن العرب بحاجة لتعلم أحكام النطق الصحيح (أحكام التجويد)؛ لأنها كانت جزءاً من لغتهم التي يتكلمون بها، وهذه الأحكام التي وضعها المتأخرون على شكل قواعد للنطق السليم (أحكام التجويد)، إنما وضعوها حين دخل كثير من الأعاجم الإسلام؛ فكان من الضروري إرشادهم إلى طريق النطق السليم وقواعده، تلك القواعد التي اختصرها الإمام ابن الجزري – في منظومته المقدمة فيما يجب على قارئ القرآن أن يعلمه – فقال:
وَهُوَ: إِعْطَاءُ الحُرُوفِ حَقَّهَا … مِنْ صِفَةٍ لَهَا وَمُسْتَحَقَّهَا
وَرَدُّ كُلِّ وَاحِدٍ لِأَصْلِهِ … وَاللَّفْظُ فِي نَظِيرِهِ كَمِثْلِهِ
مُكَمَّلاً مِنْ غَيْرِ مَا تَكَلُّفِ … بِاللُّطْفِ فِي النُّطْقِ بِلَا تَعَسُّفِ
– لقد كان جبريل عليه السلام يؤدي القرآن للنبي ﷺ مجوداً، ويؤديه المصطفى ﷺ كما تحمله من جبريل عليه السلام؛ استجابة لأمر الله سبحانه وتعالى: (فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) [القيامة:18] قال ابن كثير في تفسير الآية السابقة: ” أي: إذا تلاه عليك الملك عن الله (فاتبع قرآنه) أي: فاستمع له، ثم اقرأه كما أقرأك”. (1)
– ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعاهد أصحابه رضي الله عنهم بتعليمهم القرآن، وعلى هذا مشى أصحابه رضي الله تعالى عنهم من بعده. ويؤيد هذا ما جاء عن ابْنُ مَسْعُودٍ أنه كان يُقْرِئُ الْقُرْآنَ رَجُلًا فَقَرَأَ الرَّجُلُ: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ) [التوبة: 60] مُرْسَلَةً (بدون مد) فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: ” مَا هَكَذَا أَقْرَأَنِيهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أَقْرَأَنِيهَا: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ) [التوبة: 60] فَمَدَّدَها “. (2)
وعن قتادة قال: سُئِلَ أَنسٌ رضي الله عنه كَيفَ كَانَت قِرَاءَةُ النبِيِّ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَ: كَانَت مَدا ثُم قَرَأَ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} يمد ببسم اللهِ، وَيمُد بِالرحمَنِ، وَيمُد بِالرحِيمِ”. (3)
وتصف حفصة أم المؤمنين قراءة رسول الله ﷺ فتقول: ” وَكَانَ يَقْرَأُ بِالسُّورَةِ فَيُرَتِّلُهَا حَتَّى تَكُونَ أَطْوَلَ مِنْ أَطْوَلَ مِنْهَا”. (4)
– وإذا تأملنا عرضَ النبي صلى الله عليه وسلم القرآن على جبريل عليه السلام – كما تروي السيدة عائشة، ما أخبرتها به السيدة فاطمة رضي الله عنها: ” ….أَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يُعَارِضُهُ بِالْقُرْآنِ كُلَّ سَنَةٍ مَرَّةً وَإِنَّهُ قَدْ عَارَضَنِي بِهِ الْعَامَ مَرَّتَيْنِ، وَلَا أُرَى الْأَجَلَ إِلَّا قَدِ اقْتَرَبَ…”. (5) – مع ما روي من قراءته صلى الله عليه وسلم القرآن على أبي بن كعب، مما يروي أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: ” إِنَّ اللهَ أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا} [البينة: 1] ” قَالَ: وَسَمَّانِي لَكَ؟ قَالَ: ” نَعَمْ ” فَبَكَى”. (6) لَتَوَضَّح لنا أن القراءة كانت سنةً متبعة؛ لهذا حرصِ العلماء على أخذ القراءة عن الشيوخ المؤهلين، وأخذ الألفاظ عنهم بطريق المشافهة؛ فهو صلى الله عليه وسلم إنما قرأ على أبي بن كعب؛ ليعلِّمه طريق التلاوة وترتيلها، وعلى أي صفة تكون قراءةُ القرآن، لكون ذلك سنةً في الإقراء والتعليم، وقد وقع الأمر كذلك مع الصحابة – الآخذين للقرآن عنه صلى الله عليه وسلم – فقد عَرَضَ بعضهم على بعض القرآن، ثم وقع كذلك للتابعين وأتباعهم، حتى اتصل الأمر إلينا مسلسلاً متواترًا. (7)
– ويؤكد هذا ما رواه شَقِيقُ بْنُ سَلَمَةَ، قَالَ: خَطَبَنَا عَبْدُ اللهِ بن مسعود فَقَالَ: «وَاللهِ لَقَدْ أَخَذْتُ مِنْ فِي رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِضْعًا وَسَبْعِينَ سُورَةً…”. (8) كل هذا يدل على أن القراءة سنة متبعة.
– وقال النووي في شرح حديث أُبي بن كعب السابق: واختلفوا في الحكمة في قراءته صلى الله عليه وسلم على أُبيّ، والمختار أن سببها أن تستنَّ الأمة بذلك في القراءة على أهل الإتقان والفضل ويتعلموا آداب القراءة ولا يأنف أحدٌ من ذلك”. (9) أي ليكون سنةً في حق الأمة، لتجويد التلامذة على الشيوخ قراءتهم، وتصحيحِ إخراجِ الحروف من مخارجها وكيفية النطق بها، وغير ذلك.
ولقد أرشد رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأخذ القراءة عن أهل الأداء الصحيح؛ فقال: ” مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ غَضًّا كَمَا أُنْزِلَ، فَلْيَقْرَأْهُ عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ “. (10) يعني عبدَ الله بن مسعود. وصدق الله إذ يقول: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ [البقرة: 121]
– وبناء على كل ما سبق؛ عدّ العلماء القراءة بغير تجويد لحنًا (خطأً) كما قسَّموا اللحن إلى: لحنٍ جليّ، ولحنٍ خفي؛ فاللحن الخفي: خلل يطرأ على الألفاظ فيخلُّ بها، ويختص بمعرفته علماء القراءة، وأئمة الأداء الذين تلقوه من أفواه العلماء، وضبطوه من ألفاظ أهل الأداء.
أما اللحن الجلىّ: فهو ما يخلُّ إخلالاً ظاهرًا يشترك في معرفته علماء القراءة وغيرهم.
والله تعالى أعلم.
وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
(1): تفسير ابن كثير (8/278).
(2): المعجم الكبير للطبراني (8677)؛ النشر في القراءات العشر لابن الجزري (1/316).
(3): البخاري في كتاب: باب: مد القراءة (5046)
(4): صحيح مسلم (733).
(5): صحيح البخاري (5928).
(6): صحيح البخاري (3809)؛ مسند أحمد (12320).
(7): ينظر: القاضي عياض: إكمال المعلم بفوائد مسلم (3/168)؛ ابن الملقن: التوضيح لشرح الجامع الصحيح (20/415)؛ عقيلة: الزيادة والإحسان في علوم القرآن (3/ 295).
(8): صحيح البخاري (5000).
(9): النووي: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج (6/ 86).
(10): مسند أحمد (18457) .
[الشيخ] أنس الموسى
الشيخ أنس الموسى هو الشيخ الحافظ الجامع أنس الموسى بن محمد بشير من مواليد سوريا – حماة 1974م
تخرج في المعهد الهندسي قسم الإنشاءات العامة بدمشق، وتخرج في جامعة الأزهر كلية أصول الدين تخصص الحديث النبوي.
قرأ على كبار علماء دمشق، منهم الشيخ عبد الرحمن الشاغوري والشيخ أديب الكلاس وغيرهم.
حفظ القرآن وأُجير به وبالقراءات العشر المتواترة، على الشيخ بكري الطرابيشي والشيخ موفق عيون، كما وتخرج من مدرسة الحديث العراقية.
درس الكثير من المواد الشرعية في المعاهد الشرعية في سوريا وتركيا.
إمام وخطيب لمدة تزيد على 15 سنة.
مدرس للقرآن الكريم بمختلف قراءاته ورواياته.
حالياً يعمل كمدرس في مؤسسة سيكيرز، ومسؤول التوجيه الأكاديمي فيها.
أنهى مرحلة الماجستير في الحديث النبوي، وهو الآن يكمل في مرحلة الدكتوراه بنفس التخصص، متزوج ومقيم في إستانبول.