لماذا انقسمت السور إلى مكية ومدنية وكيف أدرك ذلك وما هي فوائده؟

يجيب عن السؤال الشيخ أنس الموسى 

السؤال

لماذا انقسمت السور إلى مكية ومدنية وكيف أدرك ذلك وما هي فوائده؟

الجواب

بسم الله الرحمن الرحيم,

من المعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قضى فترةً من حياته في مكة قبل البعثة وبعدها، ثم هاجر إلى المدينة النبوية وأقام فيها إلى وفاته صلى الله عليه وسلم. ومن المعلوم أيضاً أن القرآن الكريم قد بدأ نزوله في مكة، واستمر نزوله من بداية بعثة النبي صلى الله عليه وسلم حتى وفاته، مدةَ ثلاثة وعشرين عامًا تقريبًا، وهذه المدة تنقسم إلى قسمين: مدة إقامة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في مكة قبل الهجرة، ومدة إقامته في المدينة بعد الهجرة،ومن هنا تنوّع القرآن في مجموعه إلى قرآن مكي وقرآن مدني.

وقد كان القرآن الكريم ينزل على المصطفى صلى الله عليه وسلم في المواطن التي يحِلُّ بها، في الأمصار والقرى والجبال والوهاد والأودية والسفوح والدور والبراري، وفي أوقات مختلفة في الليل والنهار، والسفر، والحضر، والصيف، والشتاء، والسِّلم، والحرب. وقد لحظ العلماء هذا فاعتنوا عناية فائقة في معرفة مكان نزول القرآن وزمن نزوله؛ لما في معرفة ذلك من فوائد عديدة لفهم النصوص القرآنية واستيفاء معانيها واستقصاء مدلولاتها.

وعندما كان القرآن ينزل في مكة أول البعثة كان المسلمون قلةً، والمشركون كثرة، وللحديث مع الكفار أسلوبه، ولخطاب المسلمين طريقته؛ فالقرآن في مكة يدافع عن القلَّة المسلمة، ويرفق بهم وينافح عنهم وسط هذه البيئة من الأعداء المشركين، وهم بحاجة إلى من يأخذ بأيديهم ويثبِّت قلوبهم، وكان القرآن في مكة يقارع الخصوم ويَحْطِمُ معتقداتهم الزائفة بالحجة والدليل ويدفع الشبهات، ويُبطل الخرافات، ويكشف الأباطيل والترهات، وكانوا أهل لجاج وعِناد، وإصرار واستكبار، وهكذا ظل القرآن ينافحهم، حتى أقام الحجة عليهم وأنشأ جماعة إسلامية كانت نواة الدولة المسلمة.

وبعد أن هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة، والتقى بجماعة أخرى من المسلمين في المدينة وآخى بين الجماعتين ومزج بينهما مزجًا كان نتاجه نشأة الدولة الإسلامية الصالحة والمؤهلة لتلقي ما بقي من قواعد الإسلام وأحكام التشريع.

واستمر نزول القرآن على المسلمين في المدينة يبسط أحكام الدين، ويُرسي قواعده ويبني المجتمع الإسلامي ويؤسس صرح الدولة، ولا ريب فإن معرفة ما نزل بمكة في تلك الظروف ولتلك الأهداف والأغراض، ومعرفة ما نزل في المدينة، كذلك يعطى منهجًا سليمًا للدعوة الإسلامية ودروسا للدعاة في مختلف العصور والأمكنة.

وقد عني العلماء بتمييز القرآن المكي عن القرآن المدني، واستخراج خصائص كلٍّ منهما، وذلك لفوائد تشريعية وتاريخية سنذكرها بعد قليل؛ فهذا ابن مسعود رضي الله عنه يقول: «وَاللهِ الَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مِنْ كِتَابِ اللهِ: ‌إِلَّا ‌أَنَا ‌أَعْلَمُ ‌أَيْنَ ‌أُنْزِلَتْ، وَلَا أُنْزِلَتْ آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللهِ، إِلَّا أَنَا أَعْلَمُ فِيمَ أُنْزِلَتْ، وَلَوْ أَعْلَمُ أَحَدًا أَعْلَمَ مِنِّي بِكِتَابِ اللهِ، تَبْلُغُهُ الْإِبِلُ، لَرَكِبْتُ إِلَيْهِ». (1)

وللعلماء في معرفة القرآن المكي والمدني ثلاثة اصطلاحات، لكن سنقتصر في هذه الإجابة على القول الراجح منها، وهو الذي اتفقت عليه كلمة علماء القرآن.

القرآن المكي: ما نزل قبل هجرته صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وإن كان نزوله بغير مكة.

 القرآن المدني: ما نزل بعد الهجرة وإن كان نزوله بمكة.

وهذا الاصطلاح هو أصوب وأشهر الاصطلاحات في تحديد المكي والمدني، وأَولاها بالقبول؛ لانضباطه واطراده، كما أنه تعريف جامع مانع، روعي فيه زمان النزول، وهو أولى من رعاية المكان؛ لأن معرفة التدرج في التشريع ومعرفة الناسخ والمنسوخ، وغير ذلك من فوائد معرفة المكي والمدني، متوقف على معرفة المتقدِّم والمتأخِّر في الزمان؛ لهذا كان هذا التعريف هو المعتمد عند أكثر أهل العلم، فهو يأخذ في اعتباره تاريخ النزول، ولهذا أهميته في معرفة الناسخ والمنسوخ واستنباط الأحكام. وعليه فآية: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً)[المائدة: 3] مدنية، مع أنها نزلت يوم الجمعة بعرفة في حجة الوداع.

وكذلك آية: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) [النساء: 58] مدنية، مع أنها نزلت بمكة في جوف الكعبة بعد الهجرة عام الفتح الأعظم. وكذلك الحال فيما نزل بأسفاره عليه الصلاة والسلام؛ كفاتحة سورة الأنفال، وقد نزلت ببدر، فإنها مدنية لا مكية على هذا الاصطلاح المشهور. (2)
أما عدد السور المدنية والمكية: فقد اختلف العلماء في تحديد ذلك، وقد نقل السيوطي عن ابن الحصار أن المدني عشرون سورة، والمختلف فيه اثنتا عشرة سورة وما عدا ذلك مكي. (3)

أما السور المدنية فعددها عشرون سورة هي:

1- البقرة. 2- آل عمران. 3- النساء 4- المائدة. 5- الأنفال. 6- التوبة. 7- النور. 8- الأحزاب. 9- محمد.
10- الفتح. 11- الحجرات. 12- الحديد 13- المجادلة. 14- الحشر. 15- الممتحنة. 16- الجمعة. 17- المنافقون. 18- الطلاق. 19- التحريم. 20- النصر.

واختلفوا في اثنتي عشرة سورة هي:

1- الفاتحة. 2- الرعد. 3- الرحمن. 4- الصف. 5- التغابن. 6- المطففين. 7- القدر. 8- البينة.
9- الزلزلة. 10- الإخلاص. 11- الفلق. 12- الناس.

أما عدد السور المكية: فهي ما عدا السور المدنية المذكورة، وعددها اثنتان وثمانون سورة.

طريق معرفة المكي والمدني: فلم يرد عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في بيان ذلك شيء؛ لأن هذا مما يشاهده ويحضره الصحابة رضي الله عنهم فكيف يخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء يعلمونه، إذاً فالمكي والمدني يعرف بغير نصٍّ من الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فلم يبق إلا واحد من طريقين:

الأوّل: النقلي السماعي: أي النّقل عن الصّحابة رضوان الله عليهم، فالصحابة الذين شهدوا التنزيل، اعتنوا بالقرآن عناية فائقة؛ فكانوا يحفظون مشاهداتهم لنزول الوحي ويؤرّخون كلّ آية بوقت ومكان نزولها، فقد كانوا يعلمون وقائعه وأحواله وأزمانه، وإن لم نجد الخبر عن الصحابة بذلك ووجدنا النّقل الثّابت عن التّابعين، خاصّةً من كانت له عناية بالتّفسير كمجاهد مثلاً، فلا بأس من اعتماد قولهم فيه إن سَلِم من المعارض الأصحّ.

والثّاني: القياسي الاجتهادي: أي الاجتهاد عند عدم النّقل؛ فقد نظر العلماء في الآيات والسور التي عرفوا أنها مكية أو مدنية بالطريق الأول “السماعي النقلي” واستنبطوا خصائص وضوابط للسور المكية وخصائص وضوابط للسور المدنية، ثم نظروا في السور التي لم يرد نصوص في بيان مكان نزولها، فإن وجدوا فيها خصائص السور المكية قالوا إنها مكية، وإن وجدوا فيها خصائص السورة المدنية قالوا: إنها مدنية، وهذا يكون بالاستقراء والاجتهاد، وبذلك تتميز‌‌ خصائص المكّيّ والمدنيّ وإلحاق ما لم يرد النّقل به أنّه مكّيّ أو مدنيّ، بجامع تلك الخصائص. (4)
وقد ذكر العلماء ضوابط نعرف من خلالها السور المكية، وضوابط للسور المدنية، كما ذكروا مميزات أسلوب القرآن المكي ومميزات أسلوب القرآن المدني.

فمن‌‌ ضوابط السور المكية:

1- كل سورة فيها “كلا” فهي مكية.

2- كل سورة فيها سجدة تلاوة فهي مكية.

3- كل سورة مبدوءة بقسم.

4- كل سورة مفتتحة بأحرف التهجي مثل “الم” “حم” وغيرها سوى البقرة وآل عمران، فإنها مدنيتان بالإجماع وفي سورة الرعد خلاف.

5- كل سورة فيها يأيها الناس وليست فيها يأيها الذين آمنوا فهي مكية إلا سورة الحج فإنها مكية مع أن في آخرها يأيها الذين آمنوا.

‌‌ومن مميزات السور المكية من خلال موضوع الآيات:

1- تقريره أصول العقائد الإيمانية، بدعوة الخلق إلى توحيد الله تعالى وإفراده بالعبادة، والإيمان باليوم الآخر وما يتبع ذلك من الجزاء والجنة والنار.

2- حملة القرآن المكي التي شنَّها على الشرك والوثنية، وإقامة الحجج والبراهين الدامغة على بطلان عقائدهم، وضرب لذلك الأمثال بالذباب تارة وبالعنكبوت تارة أخرى، كما في سورة الحج.

3- اعتناء القرآن المكي بقصص الأنبياء مع أقوامهم، فقلَّما تُذكر قَصص الأنبياء في السور المدنية؛ حتى صار هذا سمةً تميز القرآن المكي، كما في سورة الأعراف وهود والقصص وغيرها.

4- شرحَ القرآنُ المكي أصول الأخلاق، كالصدق، والبرّ، والصلة، وبرّ الوالدين، وإكرام الجار، وطهارة القلب واللسان، كما في سورة الإسراء المكية، حين بيَّنت الوصايا الأخلاقية العشر.

فإذا وجدنا أحد هذه المواضيع السابقة في سورة أو آية، فإن الغالب أن تكون مكية، إلاَّ ما استثني منها، فمثلاً سورة البقرة مدنية مع أنها تشتمل على قصص الأنبياء، فاليُتنبَّه لذلك.(5)

ضوابط السور المدنية:

1- كل سورة فيها يأيها الذين آمنوا وليس فيها يأيها الناس فهي مدنية.

2- كل سورة فيها ذكر للمنافقين فمدنية سوى أول العنكبوت الذي ورد فيه ذكر المنافقين مدني.

3- كل سورة ورد فيها حد أو بيان فريضة، فهي مدنية.

‌‌مميزات السور المدنية من خلال موضوع الآيات:

1- الغالب تقرير الأحكام التشريعية للعبادات والمعاملات والحدود والفرائض، وأحكام الجهاد وغيرها.

2- الحديث عن طبائع المنافقين وهتك أستارهم، وبيان خطرهم على الإسلام والمسلمين وكشف وسائلهم ومكائدهم وخباياهم ومخططاتهم للكيد للمسلمين، فلم يكن في مكة نفاق لأن المسلمين كانوا قلة مستضعفين فكان الكفار يحاربونهم جهاراً.

3- الغالب على الآيات والسور المدنية طول المقاطع والسور لبسط العقائد الإسلامية والأحكام التشريعية. (6)

أما فوائد معرفة المكّي والمدني فهي كثيرة منها:

1 – تمييز الناسخ من المنسوخ، لنأخذ بالحكم الناسخ ونترك الحكم المنسوخ.

2- معرفة تاريخ التشريع الإسلامي، وتدرّج المشرِّع الحكيم في نقل الناس إلى المنهج الإسلامي المتكامل.

3 – الثقة بالقرآن وبطريقة وصوله إلينا سالمًا من التحريف، ويدلّ على ذلك اهتمام المسلمين به حيث عرفوا تاريخ نزوله، وسجلوا دقائق نزوله الزمانية والمكانية، ونقلوها بكل أمانة وضبط.

4 – يساعد في فهم الآية وبيان معناها؛ فعندما نقرأ سورة الكافرون مثلاً ونعلم أنها مكية، فقد نزلت عند ما قال بعض زعماء المشركين للنبي صلّى الله عليه وسلّم: نعبد إلهك سنة وتعبد آلهتنا سنة أخرى، فإن هذا العلم بمكان النزول وزمانه وسببه يحجز عن الخطأ في تفسيرها وفهمها.(7)

وأخيراً:

إن معرفة القرآن المكي أو المدني هو تعرُّفٌ على الأحوال التي احتفَّت بنزول القرآن، ولهذا كبير الأثر في فهمه وتفسيره، حتى صرَّحوا بأنه لا يَحل لمن ابتعد عن علمها أن يتكلم في تفسير القرآن الكريم.

وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


(1):صحيح البخاري (5002).
(2):ينظر: معجم علوم القرآن إبراهيم الجرمي ص217؛ دراسات في علوم القرآن محمد بكر إسماعيل ص44؛ دراسات في علوم القرآن فهد الرومي ص123.
(3): الإتقان في علوم القرآن للسيوطي (1/44) (1/11)؛ دراسات في علوم القرآن فهد الرومي ص125.
(4): البرهان في علوم القرآن للزركشي (1/189)؛ الإتقان في علوم القرآن للسيوطي (1/17)؛ دراسات في علوم القرآن فهد الرومي ص126؛ الواضح في علوم القرآن مصطفى البغا ص64؛ المقدمات الأساسية في علوم القرآن ص58.
(5): ينظر: البرهان في علوم القرآن للزركشي (1/189)؛ الإتقان في علوم القرآن للسيوطي (1/68)؛ مناهل العرفان للزرقاني (1/196)؛ المحرر في علوم القرآن د. مساعد الطيار ص113؛ علوم القرآن الكريم د. نور الدين عتر ص60؛ دراسات في علوم القرآن فهد الرومي ص131.
(6): ينظر: علوم القرآن نور الدين عتر ص65؛ دراسات في علوم القرآن فهد الرومي ص133.
(7):دراسات في علوم القرآن فهد الرومي ص133.

[الشيخ] أنس الموسى

الشيخ أنس الموسى هو الشيخ الحافظ الجامع أنس الموسى بن محمد بشير من مواليد سوريا – حماة 1974م

تخرج في المعهد الهندسي قسم الإنشاءات العامة بدمشق، وتخرج في جامعة الأزهر كلية أصول الدين تخصص الحديث النبوي.

قرأ على كبار علماء دمشق، منهم الشيخ عبد الرحمن الشاغوري والشيخ أديب الكلاس وغيرهم.

حفظ القرآن وأُجير به وبالقراءات العشر المتواترة،  على الشيخ بكري الطرابيشي والشيخ موفق عيون، كما وتخرج من مدرسة الحديث العراقية.

درس الكثير من المواد الشرعية في المعاهد الشرعية في سوريا وتركيا.

إمام وخطيب لمدة تزيد على 15 سنة.

مدرس للقرآن الكريم بمختلف قراءاته ورواياته.

حالياً يعمل كمدرس في مؤسسة سيكيرز، ومسؤول التوجيه الأكاديمي فيها.

أنهى مرحلة الماجستير في الحديث النبوي، وهو الآن يكمل في مرحلة الدكتوراه بنفس التخصص، متزوج ومقيم في إستانبول.