كيف يساهم القرآن الكريم في تطهير القلب والنفس من الأخلاق السيئة؟

يجيب عن السؤال الشيخ أنس الموسى 

السؤال

كيف يساهم القرآن الكريم في تطهير القلب والنفس من الأخلاق السيئة؟

الجواب

 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

القرآن الكريم هو دستور الأمة الذي رُسِمت فيه أسباب سعادتها في الدنيا والآخرة، وللقرآن أثره الذي لا ينكر في تطهير القلب والنفس من الأخلاق السيئة؛ ذلك أن القرآن يتضمن العديد من الآيات التي تحث على الفضائل وتحذر من الرذائل؛ كقوله تعالى: ﴿وَأَوْفُوا ‌بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا ﴾ [الإسراء: 34] وقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا ‌الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ﴾ [النساء: 58] وقوله تعالى: ﴿‌وَلَا ‌تُصَعِّرْ ‌خَدَّكَ ‌لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ﴾ [لقمان: 18] وقوله تعالى:

﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى ‌الْقُلُوبِ﴾ [الحج: 32]

وإليك بعضَ العواملِ التي يساهم القرآن في تطهير القلب والنفس من الأخلاق السيئة:

1- أن تعلَمَ وأنت تقرأ في المصحف، أنك تتلوا كلام الله تعالى، ملكِ الناس، إلهِ الناس؛ فهذا الشعور يمنح القرآن تأثيرًا فريدًا، ويخلقتواصلاً روحيًا مباشراً بين العبد وخالقه، ويعزز التأثير العميق للقرآن في تطهير النفس والقلب من سيء الأخلاق.

2- اتباع الطريقة الصحيحة في تلاوة القرآن؛ وذلك بأن تقرأ كلام ربك وكأنكَ المعنيُ بالخطاب الرباني، وكأن الله يناديك ويوجه أوامره إليك، يبشرك ببشائره، ويخوفك من بأسه وغضبه وأليم عذابه. وقد سأل رَجُلُ عَبْدَ الله ابن مَسْعُودٍ فَقَالَ: اعهدْ إِلَيَّ، فَقَالَ: إِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَكُونَ أَنْتَ الْمُحَدَّثَ، وإِذَا سَمِعْتَ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) ‌فَأَرْعِهَا ‌سَمْعَكَ، ‌فَإِنَّهُ ‌خَيْرٌ ‌يَأْمُرُ ‌بِهِ، ‌أَوْ ‌شَرٌّ ‌يَنْهَى ‌عَنْهُ. (1)

3 توقف عند الآية التي تُحدِثُ في نَفْسِك وقلبك أثراً، وكررها متفكراً في معانيها؛ أسمِعها قلبكَ مراراً، وأنفذها إلى فؤادك حتى تبلغ منتهاه، وتيقن أنك لو بقيت مع هذه الآية منتفعاً بها خيرٌ لك من قراءة سورٍ كثيرة غيرها، لأن الغاية من التلاوة هي صلاح النفس فربما كان هذا التوقف والتأمّل هو سبب نجاتك. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بن مسعود: «لَا تَهُذُّوا الْقُرْآنَ، كَهَذِّ الشِّعْرِ، ‌وَلَا ‌تَنْثُرُوهُ ‌نَثْرَ ‌الدَّقَلِ، وَقِفُوا عِنْدَ عَجَائِبِهِ، وَحَرِّكُوا بِهِ الْقُلُوبَ، ولا يَكنْ هَمُّ أَحَدِكم آخر السورة. (2) (لَا تَهُذُّوا الْقُرْآنَ): أي لَا تعجلوا فِي التِّلَاوَة. والدَّقل: هو التمر. والدقل من التَّمْر أَو أَكْثَره لَا يلصق بعضه بِبَعْض فاذا نُثر خرج سَرِيعًا وتفرق وانفردت كل تَمْرَة عَن صاحبتها، شبّه قِرَاءَته لِلْقُرْآنِ بذلك لهَذِّهِ إياه. (3)

وقال بِشْر بن السَّرِي يبين أثر التفكر في كلام الله تعالى: «‌إنما ‌الآية ‌مثل ‌التمرة؛ كلَّما مضغتها استخرجت حلاوتها». (4)

4- أن تقرأ كلام ربك سبحانه، وكأنه نزل لتوّه غضاً طرياً، أو كأنك تسمعه من فم المصطفى صلى الله عليه وسلم يتلوه عليك، وأن تتذكّر حال المصطفى صلى الله عليه وسلم، وقد أحاط به أصحابُه والقرآنُ ينزل عليه، وهو يتلوه بين أيديهم وفي الصلوات، وأن تستشعر سماعهم له وتأثرهم به، وتتذكر كيف بقي النبي صلى الله عليه وسلم يردِّدُ – ليلةً كاملة – قول الله تعالى: ﴿إن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [المائدة: 118] حتى أصبح. (5) وتتفاعل مع تلك اللحظة التي طلب فيها النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من عبد الله ابن مسعود أن يقرأ عليه القرآن فقال: ” اقْرَأْ عَلَيَّ “، قَالَ: قُلْتُ: ‌أَقْرَأُ ‌عَلَيْكَ ‌وَعَلَيْكَ ‌أُنْزِلَ؟ قَالَ: ” إِنَّنِي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي ” فَقَرَأْتُ، حَتَّى إِذَا بَلَغْتُ: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ، وَجِئْنَابِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} [النساء: 41] قَالَ: رَأَيْتُ عَيْنَيْهِ تَذْرِفَانِ دُمُوعًا. (6)

5- قف متفكراً وأنت تتلو كلام الله تعالى، وحرّك قلبك عند آيات وعده ووعيده؛ فإذا مررت بآية فيها وعدٌ من الرحمن بالمغفرة والرزق والهداية، كقوله تعالى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ‌لَهُمْ ‌مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ [المائدة: 9] فسله أن يجعلك منهم، وأن يسلُكَك في سلكهم.

وإذا مررت بآيات الجنان والنعيم المقيم؛ عِش معها وكأنك وضَعْتَ رحالك في جنتك، قد ألقيت عن كاهلك نَصَبَ الدنيا وتعبَها، وشدةَ الحساب وأهوالَه، وتخيل نفسك تعيش حقاًّ بين أشجار الجنة وظلالِها، وأنهارُها تجري بين يديك ونعيمُها العظيم قد فزت به، تذكر هذا وأنت تقرأ قول الله تعالى: ﴿‌مَثَلُ ‌الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ ﴾ [الرعد: 35] اسأل ربك أن يجعلك من أهل الجنة التي قال الله فيها: ﴿‌مَثَلُ ‌الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ﴾ [محمد: 15]

6- وإذا مررت بآيات النار والوعيد والنكال، وما في جهنم من صنوف العذاب، تذكر أن هذا التهديد من الجبار القادر على كل شيء، خلق النار للعصاة، تذكر هذا وأنت تقرأ قول الله تعالى: ﴿وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ * سَرَابِيلُهُمْ مِنْ ‌قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ * لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ [إبراهيم: 49-51] وأنت تقرأ قول الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ ‌جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ [النساء: 56] وتأمل وأنت تقرأ استغاثات من في النار وتمنيهِم أن لو ماتوا، حتى يتوقف ما هم فيه من العذاب: ﴿ ‌وَنَادَوْا ‌يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ﴾ [الزخرف: 77] واستغاثاتهم أن يخفف الله عنهم هذا العذاب المستمر ولو ليوم واحد: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ﴾ [غافر: 49] ﴿قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ﴾ [غافر: 50] فيخافُ قلبك ويرتجف فؤادك فرقاً؛ خشية أن تكون من أهلها، فتفزَعُ إلى ربك وتسأله العافية باكياً ضارعاً متذللاً.

وإذا لم يتحرك قلبك بعد كل هذه الأهوال والشدائد، والوصف الدقيق لصنوف العذاب، فابك على نفسك أسفاً وحسرة.

ملحوظات تتعلق بتأثير القرآن في تطهير النفس والقلب

– هجر القرآن وترك قراءته، والتفاعل مع آياته، لهو من أكبر الأسباب التي تحول بين القلب وتأثره المباشر بالقرآن، فهجر القرآن يبلِّدُ القلبَ ويجعله أقلَّ استعدادًا لاستقبال الهداية والتأثير فيه.
فالرجوع إلى قراءة القرآن من أسس التفاعل مع القرآن، فعليك أن تعيد فتح صفحاته وتقضي وقتاً في قراءة آياته؛ فهذا سيتيح للكلمات الإلهية فرصةً للتأثير في قلبك.

– الجهل بمعاني كلام الله تعالى، وترك الاهتمام بتفسير الآيات؛ عائق كبير أمام القلب وتأثُّرِه بالقرآن. فكيف يتأثر القلب بكلامٍ غير مفهوم له؟! فتدبُّر القرآن، وفهمُ المعاني والدروس الرسائل العميقة التي يحملها، يحفِّز القلب على التأثر بالقرآن.

– تشتت الذهن أثناء القراءة قد يجعلك تمرُّ على الدروس والعبر دون أن تتنبَّه لها، ويمكن أن يعالَج هذا التشتت، باختيار الأوقات الخالية عن الانشغالات لتلاوة كتاب الله تعالى، كما أن القراءة بصوت مرتفع يمكن أن تزيد من تأثير القرآن في القلب، حيث تعزز الأمواج الصوتية القوة العاطفية والروحية للنصوص القرآنية، وإيجاد تواصلٍ أعمق مع المضمون.

وأخيراً

إن تعزيز التأثير الإيجابي للقرآن في طهارة قلوبنا ونفوسنا، يحتاج منا اللجوء إلى الله تعالى أن يفتح مغاليق هذه القلوب لاستقبال هداياته، كما يتطلب منا العودة إلى قراءته بتأمل، وتنظيف قلوبنا من دنس الذنوب، وتحسين فهمنا للمعاني القرآنية، وتخصيص وقتٍ للاستماع والتفكير في آياته.

وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


(1): أبو نعيم الأصبهاني: حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (1/130).
(2): ابن أبي شيبة: المصنف (5/420)؛ البيهقي: شعب الإيمان (2/360).
(3):  ابن قتيبة: غريب الحديث (2/254).
(4): الزركشي: البرهان في علوم القرآن (1/471).
(5): مسند أحمد (21388)؛ سنن ابن ماجه (1350).
(6): مسند أحمد (3606).

[الشيخ] أنس الموسى

الشيخ أنس الموسى هو الشيخ الحافظ الجامع أنس الموسى بن محمد بشير من مواليد سوريا – حماة 1974م 

تخرج في المعهد الهندسي قسم الإنشاءات العامة بدمشق، وتخرج في جامعة الأزهر كلية أصول الدين تخصص الحديث النبوي. 

قرأ على كبار علماء دمشق، منهم الشيخ عبد الرحمن الشاغوري والشيخ أديب الكلاس وغيرهم.

حفظ القرآن وأُجير به وبالقراءات العشر المتواترة،  على الشيخ بكري الطرابيشي والشيخ موفق عيون، كما وتخرج من مدرسة الحديث العراقية.

درس الكثير من المواد الشرعية في المعاهد الشرعية في سوريا وتركيا.

إمام وخطيب لمدة تزيد على 15 سنة.

مدرس للقرآن الكريم بمختلف قراءاته ورواياته.

حالياً يعمل كمدرس في مؤسسة سيكيرز، ومسؤول التوجيه الأكاديمي فيها.

أنهى مرحلة الماجستير في الحديث النبوي، وهو الآن يكمل في مرحلة الدكتوراه بنفس التخصص، متزوج ومقيم في إستانبول.