‏‏سلسلة أخلاق النبي ﷺ| المقالة الأولى| خلق الرحمة| الشيخ محمد قيلش

بسم الله الرحمن الرحيم

1 – لماذا نحتاج إلى التعرف إلى أخلاق النبي ﷺ

كلُّ إنسان عاقل عمومًا، وكل مؤمن خصوصًا يحتاج إلى التعرُّف إلى أخلاق النبيِّ ﷺ. 

أمَّا أن كلَّ إنسان عاقل يحتاج إلى التعرُّف إلى أخلاق النبي ﷺ فلأن َّالعقلاء يتطلَّعون إلى التفوُّق والترقِّي في الكمالات في شتى المجالات؛ لأن نفوسهم مولَعةٌ بالإتقان والجمال والكمال، وذلك يتطلَّب منهم أن يتعرَّفوا على أهل الكمال؛ ليستفيدوا من تجاربهم، ويقتدوا بهم في تفاعلهم مع المستجدات المشابهة. ونبيُّنا ﷺ قد حاز الكمالات من أطرافها باعتراف كثير من الفلاسفة والمفكرين في العالم على مر السنين. ومَن طالع سيرته ﷺ علم أنه تفاعل مع كلِّ الظروف على أتمِّ وجه وأحسنِه. 

  • وأمَّا أن كلَّ مؤمن يحتاج إلى ذلك فإضافة إلى ما مرَّ ذِكْره يوجد بواعث كثيرة، من أهمها ثلاثة: 
  • الأول: أنَّ غاية كل مؤمن أن يكون مرضيًا عند ربه سبحانه، ومحبوبًا لديه تعالى، وقد بيَّن لنا ربنا أن وصولنا إلى مقام المحبوبية منه سبحانه لا يكون إلا من طريق اتِّباع نبيه ﷺ، فقال: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [آل عمران: 31]، والاتِّباع يقتضي المعرفةَ بتفاصيل شمائله الحميدة وخصاله المجيدة ﷺ. كما بيَّن لنا سبحانه أن مَن يريد الفلاح والنجاح فعليه بالاقتداء برسوله ﷺ، فقال تعالى: ﴿لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ [الأحزاب:21]، ولا يكون الاقتداء إلا بعد التعرُّف على أخلاقه ﷺ.
  • الثاني: أن النبي ﷺ أخبرنا أن كمال الإيمان لا يكون حتى تكمل محبته ﷺ في قلوبنا، فقال: «لا يؤمِن أحدُكُم حتى أكون أحبَّ إليه مِن والدِه وولده والناس أجمعين» [1]

وإذا كانت جوالبُ المحبة ثلاثة: جمال وكمال ونوال فقد حاز النبي ﷺ قصب السبق في هذه الثلاثة كلِّها؛ فهو عليه الصلاة والسلام أكملُ الخلق خَلْقًا وخُلُقًا، وقد أثنى الله سبحانه على نبيه بالخلق العظيم فقال: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [ن: 4]. فالتعرف على كمالات أخلاقه ﷺ يثمر محبتَه، ومحبتُه تؤثِّر في أوصافنا وطباعنا البشرية بحيث تصير موافقة لأخلاقه صلوات ربنا وسلاماته عليه.

  • الثالث: أن حَمْل النفوس على التحلِّي بمحاسن الأخلاق والتخلِّي عن مساويها صعب شديد يحتاج إلى همةٍ عالية وحزمٍ وعزمٍ ومجاهدةٍ، إلا إن وجدت محبوبها متحليًا بتلك الكمالات؛ وذلك لأن أسهل طريقٍ وأقصرَه إلى الاتِّباع والاقتداء إنما هو المحبةُ الصادقة التي تؤثِّر في أخلاق المحبِّ، فتصيِّرها قريبة من أخلاق المحبوب بسهولةٍ وعدم معاناةِِ أو تَكلُّفِِ، فترى المحبَّ الصادق تتبدَّل طباعه وتتغيَّر سجاياه بحسب صفات محبوبه.

وننظر في حديث سيدنا أنس رضي الله عنه فنرى مثالًا واضحًا جليًّا على عظم تأثير المحبة في تغيُّر الطِّباع البشرية؛ فقد ورد في الحديث «أن خَيَّاطًا دَعَا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لِطَعَامٍ صَنَعَهُ، قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: فَذَهَبْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إِلَى ذَلِكَ الطَّعَامِ، فَقَرَّبَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ خُبْزًا وَمَرَقًا فِيهِ دُبَّاءُ وَقَدِيدٌ، فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَتَتَبَّعُ الدُّبَّاءَ مِنْ حَوَالَيِ الْقَصْعَةِ، قَالَ: فَلَمْ أَزَلْ أُحِبُّ الدُّبَّاءَ مِنْ يَوْمِئِذٍ» [2]. فسبحان الله! كيف أثَّرت محبَّة أنس رضي الله عنه في طبعه فصار يحبُّ ما يحب محبوبُه ﷺ. 

وننظر أيضًا في حديث سيدنا أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه فنرى صورةً ناصعةً تمثلُ أثرَ المحبَّةِ في تغيُّر الطباع، وذلك عندما حلَّ النبي ﷺ في بيت أبي أيوب عند وصوله إلى المدينة المنورة، فَنَزَلَ النَّبِيُّ ﷺ فِي السُّفْلِ وَأَبُو أَيُّوبَ فِي الْعِلْوِ، فَانْتَبَهَ أَبُو أَيُّوبَ لَيْلَةً، فَقَالَ: نَمْشِي فَوْقَ رَأْسِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ! فَتَنَحَّوْا، فَبَاتُوا فِي جَانِبٍ، ثُمَّ ذكر ذلك لِلنَّبِيِّ ﷺ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «السُّفْلُ أَرْفَقُ، فَقَالَ: لَا أَعْلُو سَقِيفَةً أَنْتَ تَحْتَهَا، فَتَحَوَّلَ النَّبِيُّ ﷺ فِي الْعُلُوِّ، وَأَبُو أَيُّوبَ فِي السُّفْلِ، فَكَانَ يَصْنَعُ لِلنَّبِيِّ ﷺ طَعَامًا، فَإِذَا جِيءَ بِهِ إِلَيْهِ سَأَلَ عَنْ مَوْضِعِ أَصَابِعِهِ، فَيَتَتَبَّعُ مَوْضِعَ أَصَابِعِهِ، فَصَنَعَ لَهُ طَعَامًا فِيهِ ثُومٌ، فَلَمَّا رُدَّ إِلَيْهِ سَأَلَ عَنْ مَوْضِعِ أَصَابِعِ النَّبِيِّ ﷺ، فَقِيلَ لَهُ: لَمْ يَأْكُلْ، فَفَزِعَ، وَصَعِدَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: أَحَرَامٌ هُوَ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: لَا وَلَكِنِّي أَكْرَهُهُ، قَالَ أبو أيوب: فَإِنِّي أَكْرَهُ مَا تَكْرَهُ أَوْ مَا كَرِهْتَ» [3]. فانظر كيف تبدَّل طبعُ أبي أيوب رضي الله عنه، فصار يكره الثوم مباشرة بعد علمه بكراهة حبيبه ﷺ له!

________________________________________

[1] الجامع الصحيح للبخاري، كتاب الإيمان، باب حب الرسول ﷺ من الإيمان، حديث رقم 1960. والمسند الصحيح لمسلم، كتاب الأشربة، باب إباحة أكل الثوم، حديث رقم 3835.

[2] الجامع الصحيح للبخاري، كتاب البيوع، باب ذكر الخياط، حديث رقم 1960.

[3] المسند الصحيح لمسلم، كتاب الأشربة، باب إباحة أكل الثوم، حديث رقم 3835.