هل يستجاب دعاء الأنبياء دائماً؟

يجيب عن السؤال الشيخ  أنس الموسى بن محمد بشير

السؤال

هل يستجاب دعاء الأنبياء دائماً؟

الجواب

 الأنبياء عليهم الصلاة والسلام هم أفضل الخلق وأعلاهم منزلة عند الله تعالى، وأقربُهم منه، وهناك من العلماء من قال بأن دعاء الأنبياء مستجاب دائماً دون تفصيل، وهناك من فصّل في المسألة، ولعل التفصيل هو الأقرب للصواب؛ لتماشيه مع كثير من الآيات والأحاديث النبوية.
فقالوا إن المراد من استجابة الله دعاءَ أنبيائه عليهم الصلاة والسلام: رجاءَ الاستجابة لا تيقُّنَها والجزمَ بها؛ فدعاؤهم عليهم الصلاة والسلام مستجاب على وجه العموم والإجمال، وهو أمرٌ غالب، وغير لازم؛ فمن الجائز أن تَمتنع إجابة دعوة من دعواتهم لقضاء قضاه الله تعالى، بمقتضى علمه وحكمته سبحانه؛ فقد يسبق في قضاء الله تعالى خلاف ما دَعوا به.
وقد ورد في السنَّة ما يدل على أنه من الممكن ألاَّ يستجيب الله تعالى بعض دعاء أنبيائه، ومن ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “سَأَلْتُ رَبِّي ثَلَاثًا، ‌فَأَعْطَانِي ‌ثِنْتَيْنِ ‌وَمَنَعَنِي ‌وَاحِدَةً: سَأَلْتُ رَبِّي أَنْ لَا يُهْلِكَ أُمَّتِي بِالسَّنَةِ فَأَعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُهُ أَنْ لَا يُهْلِكَ أُمَّتِي بِالْغَرَقِ فَأَعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُهُ أَنْ لَا يَجْعَلَ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ فَمَنَعَنِيهَا .» (1) هذا الحديث يدل على أن بعض أدعية الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قد تُرد، وليس كل ما دَعوا به أُجيب.
ملحوظات تتعلق بدعاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام 
  • إجابة الحق سبحانه وتعالى دعاء من دعاه، سواء من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أم من غيرهم  ليست محصورةً في نفس مَطلب الداعي، بل تكون بأحد ثلاثة أمور، ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: ” ‌مَا ‌مِنْ ‌مُسْلِمٍ ‌يَدْعُو ‌بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إِثْمٌ، وَلَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ، إِلَّا أَعْطَاهُ اللهُ بِهَا إِحْدَى ثَلَاثٍ: إِمَّا أَنْ تُعَجَّلَ لَهُ دَعْوَتُهُ، وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا ” قَالُوا: إِذًا نُكْثِرُ، قَالَ: ” اللهُ أَكْثَرُ “. (2)
  •  الأنبياء عليهم السلام – مع علوِّ منزلتهم عند ربهم – ليس لهم حقٌّ على ربهم سبحانه وتعالى في أن يجابوا إلى جميع ما دَعوا به؛ فقد قال الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: ﴿‌اسْتَغْفِرْ ‌لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾ [التوبة: 80] فلو استغفر رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهو خيرُ الخلق وأعظمُهم قدراً عند الله تعالى – لأولئك المنافقين لن يُغفَرَ لهم، وذلك لوجود مانع يمنع الإجابة، وهو أن المُسْتَغْفَرَ له غيرُ مرضيٍ عنه، فشرط الرضى غير متحقق في المشفوع له؛ فلم يُجب الداعي فيما سأل، وفي الآية بيان هذا بقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ}.
  • وهذا نوح عليه السلام دعا ربه فقال: {رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ* قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود: 45، 46] فسأل نوح ربه الشفاعة في ابنه فلم يُعطَها؛ لفقد شرط الرضى على الابن، ولذا قال تعالى: {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ}، وفي قراءة الكسائي ويعقوب: {إِنَّهُ عَمِلَ غَيْرَ صَالِحٍ}. وأمثال هذا معلوم لمن تدبر القرآن والسنة، مقرَّرٌ فيهما أوضح تقرير وأبلغه. قال الحافظ ابن حجر: “وأما جزم من جزم بأن جميع أدعية الأنبياء مستجابة ففيه غفلة عن الحديث الصحيح” سألت الله ثلاثًا فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة… الحديث”. (3)
  • قال بعض أهل العلم: من أسباب عدم إجابة بعض أدعية الأنبياء أنهم دَعوا وشفعوا فيمن لم يرض الله قوله، أو نحو ذلك من الموانع، كما قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ * وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا ‌لِمَنِ ‌ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ﴾ [الأنبياء: 25-28]
  • قال ابن عجيبة: فإن ‌دعاء ‌الأنبياء عليهم السلام لا يجب أن يكون كلُّه مجاباً، فقد يُجابون في أشياء، ويُمنعون من أشياء، وقد سأل نبينا صلى الله عليه وسلم لأمته أشياء، فأجيب في البعض، ومُنع البعض، كما في الحديث قال صلى الله عليه وسلم: «سألت ربى ثلاثا، فأعطاني ثنتين، ومنعني واحدة…. الحديث” (4)
  • من أهل العلم من قال إن دعاء الأنبياء مستجاب أبداً، وأجابوا عن دعاء سيدنا إبراهيم حينن دعا ربه فقال: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا ‌وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ ﴾ [إبراهيم: 35] وأن من ذريته من عَبَدَ الصنمَ، من وجوه فقالوا:
    الأول: أن إبراهيم دعا لبنيه من صُلبه، ولم يَعبُد منهم أحدٌ صنمًا قط.
    الثاني: أنه أراد أولادَه، وأولادَ أولاده الموجودين حالةَ الدعاء، ولا شك أن إبراهيم عليه السلام قد أجيب فيهم.
    الثالث: قال الواحدي دعا لمن أذن الله أن يدعو له، فكأنه قال: وبَني الذين أذنت لي في الدعاء لهم؛ لأن دعاء الأنبياء مستجاب، وقد كان من بنيه من عبد الصنم، فعلى هذا الوجه يكون هذا الدعاء من العام المخصوص.
    الرابع: أن هذا مختص بالمؤمنين من أولاده، والدليل عليه أنه قال في آخر هذه الآية: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي} وذلك يفيد أن من لم يتبعه على دينه، فليس منه. (5)
  • وقَالَ الطيبي بأن جَمِيع دعوات الْأَنْبِيَاء مستجابة، وأجاب عن حديث لكل نبي دعوةٌ مستجابة، أن الْمرَاد: لكل نبي دعوة مستجابة الدُّعَاء لإهلاك قومه، وأن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم على مُضر فَلَيْسَ للإهلاك بل ليتوبوا ويرتدعوا، وأن دعاءه على قبيلتي رِعَل وذكوان فهما قبائل لَا كل الْأمة، مَعَ أنه لم يُقبل بل قيل له: (لَيْسَ لَك من الْأَمر شَيْ)”. (6)
  • مما يُستأنس به على أن دعاء الأنبياء مستجاب، أن الأنبياء يدعون بأمر الله تعالى، وأن أرجى الأمور للمؤمنين في الآخرة دعاء الأنبياء والملائكة عليهم السلام في الدنيا؛ لأنهم إنما يدعون بعد الإذن لهم بالدعاء، فلا يحتمل أن يأذن اللَّه تعالى لهم بالدعاء، ثم لا يجيب دعوتهم. (7)
  • ونقل الفخر الرازي في تفسيره قول بعض أهل العلم – وردَّ عليه – فقال: إن ‌دعاء ‌الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام لا يكون إلاَّ بعد الإذن؛ لاحتمال أن لا تكون الإجابة مصلحة، فحينئذ تصير دعوته مردودة، وذلك نقصان في منصب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، هكذا قاله المتكلمون، وعندي فيه بحث، وذلك لأنه تعالى لمَّا أَذِن في الدعاء مطلقًا، وبيَّن أنه تارة يجيب وأخرى لا يجيب، فللرسول أن يدعو كلما شاء وأراد مما لا يكون معصية، ثم إنه تعالى تارة يجيب وأخرى لا يجيب، وذلك لا يكون نقصاناً بمنصب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، لأنهم على باب رحمة الله تعالى سائلون فإن أجابهم فبفضله وإحسانه وإن لم يجبهم فَمَنِ المخلوق حتى يكونَ له مَنصِبٌ على باب الخالق؟”. (8)
  • ويستأنس بتحقق إجابة دعوة الأنبياء أيضاً، بقول الله تعالى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47]  بأن وصف الإيمان متحقِّقٌ في الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، لا شك في هذا ولا ريب، والله تعالى وعد بنصر المؤمنين، ومِن نصرهم إجابةُ ما دعوا الله تعالى به، كما أن الأنبياء تحققوا بشروط إجابة الدعاء، وتخلوا عن موانع إجابته (9)
  • ذكر الآلوسي عند تفسير قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ ‌فَادْعُ ‌لَنَا ‌رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا…﴾ [البقرة: 61]
    فقال: وإنما سألوا من موسى أن يدعو لهم، لأن ‌دعاء ‌الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أقرب للإجابة من دعاء غيرهم، على أن دعاء الغير للغير مطلقاً أقرب إليها- فما ظنك بدعاء الأنبياء لأممهم؟ – ولهذا قال صلّى الله عليه وسلم لعمر رضي الله تعالى عنه: «أشركنا في دعائك» وفي الأثر «ادعوني بألسنة لم تعصوني فيها». (10)
إشكال حديث لكل نبي دعوة مستجابة والإجابة عنه
قال صلى الله عليه وسلم: “‌لِكُلِّ ‌نَبِيٍّ ‌دَعْوَةٌ ‌مُسْتَجَابَةٌ، فَتَعَجَّلَ كُلُّ نَبِيٍّ دَعْوَتَهُ، وَإِنِّي اخْتَبَأْتُ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي، فَهِيَ نَائِلَةٌ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا”. (11)
ظاهر الحديث يخبر بأن لكل نبي دعوةٌ واحدةٌ فقط مستجابة، كيف وقد ثبت أن للأنبياء دعوات مستجابات لا دعوة واحدة، ولا سيما نبينا صلى الله عليه وسلم؛  فقد دعَا على المشركينَ في قُريشٍ بأنْ يُنزِلَ عليهم سِنينَ القَحطِ، واستجابَ لدعائِه، وأيضًا عندما دَعا على صَناديدِ الكفرِ فقُتلوا يومَ بَدْرٍ، ودعا لأمته بألاَّ يسلِّط عليهم عدواً من غيرهم، وألاّ يهلكهم بسَنة عامة فأعطيهما… وغير ذلك مِنَ المَواطنِ الَّتي لا تُحصى؟
 الجواب: 
  • أن المراد بالإجابة في الدعوة المذكورة القطع بها، فالأنبياء على يقين من إجابتها، وما عدا ذلك من دعواتهم فهم على رجاء الإجابة، وحالهم عليهم السلام في ذلك بين الخوف والرجاء؛ فلكل نبي عند الله تعالى ‌من ‌رفيع ‌الدرجة ‌وكرامة ‌المنزلة أن جعل له أن يدعوه فيما أحبّ من الأمور ويبلِّغه أمنيته، فيدعو في ذلك وهو عالم بإجابة الله له، فالله تَعَالَى أوجب على نَفسه – تفضلاً – أن يستجيب لكل نَبِي دَعْوَة وَاحِدَة، وما سواهَا فإلى المشيئة، إِن شَاءَ اسْتَجَابَ وإن شَاءَ رد، فَادَّخرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم هذه الدعوةَ الَّتي يَتيقَّنُ إجابتَها إلى يَومِ القيامةِ، وآثرَ أُمَّتَه بما خصَّه اللهُ به مِن إجابةِ الدَّعوةِ بِالشَّفاعةِ لهم، ولم يَجعَلْ ذلك في خاصَّةِ نَفسِه وأهْلِ بيْتِه. (12)
  • قال القاضي عياض: “فتكون هذه الدعوة المذكورة مخصوصة بالأمة، مضمونة الإجابة، وإلاّ فقد أخبر صلى الله عليه وسلم أنه سأل لأمته أشياء من أمور الدين والدنيا، أعطي بعضها ومنع بعضها، وادخر لهم هذه الدعوة ليوم الفاقة وخاتمة المحن”. (13)
  • وقال الحافظ ابن حجر: “وقيل معنى قوله: “لكل نبي دعوة” أي أفضل دعواته ولهم دعوات أخرى، وقيل لكل منهم دعوة عامة مستجابة في أمته إما بإهلاكهم وإما بنجاتهم، وأما الدعوات الخاصة فمنهاما يستجاب ومنها مالا يستجاب. وقيل: لكل منهم دعوة تخصه لدنياه أو لنفسه كقول نوح: ﴿وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ ‌لَا ‌تَذَرْ ‌عَلَى ‌الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ﴾ [نوح: 26]
    وقول زكريا: ﴿وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا ‌فَهَبْ ‌لِي ‌مِنْ ‌لَدُنْكَ ‌وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا﴾ [مريم: 5-6]
    وقول سليمان: ﴿قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ ‌لِي ‌مُلْكًا ‌لَا ‌يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ﴾ [ص: 35]. (14)
  • وقال بعض أهل العلم: إنّ لكل نبي دعوة مستجابة فِي إهلاك كلِّ أمته، وَنَبِينَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يدعُ بِهِ؛ فعُوِّض بالشفاعة، وأن دعائه صلى الله عليه وسلم على مُضر فَلَيْسَ للإهلاك بل ليتوبوا ويرتدعوا، وأن دعاءه على قبيلتي رِعَل وذكوان فهما قبائل لَا كل الْأمة، مَعَ أنه لم يُقبل، بل قيل له: (لَيْسَ لَك من الْأَمر شَيْ).
  • أما بقية الأنبياء فسألوا دعوتهم؛ فَدَعَا نوح عَلَيْهِ السَّلَام فقال: ﴿وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ ‌مِنَ ‌الْكَافِرِينَ ‌دَيَّارًا ﴾ [نوح: 26]
    ودعا سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام فقال:  ﴿قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ ‌لِي ‌مُلْكًا ‌لَا ‌يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ﴾ [ص: 35]،ودعا إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام: ﴿رَبَّنَا إِنِّي ‌أَسْكَنْتُ ‌مِنْ ‌ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ ﴾ [إبراهيم: 37]
    ودعا إِسْمَاعِيل عَلَيْهِ السَّلَام مَعَ أَبِيه: ﴿‌رَبَّنَا ‌وَابْعَثْ ‌فِيهِمْ ‌رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [البقرة: 129]
    ودعا مُوسَى وَهَارُون عَلَيْهِمَا السَّلَام: ﴿وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ ‌رَبَّنَا ‌اطْمِسْ ‌عَلَى ‌أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ﴾ [يونس: 88] ودعا نَبينَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشْيَاء كَثِيرَة فاستجيبت لهِ بِحَمْد الله تَعَالَى الاَّ النَّوَادِر كإسلام أبي طَالب وَغَيره، لَكِن لم يدع هَذِه الدعْوَة الَّتِي قبُولهَا محتوم. (15)
استفسار والجواب عنه
قال الله تعالى للناس كافة: (ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [غافر: 60] فعمَّ كل دعاء، وهو وعد من الله تعالى الذي لا يُخلف الميعاد، وخصّ كلّ نبى بدعوة واحدة مستجابة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجابَةٌ يَدْعُو بها…. الحديث”. فاين فضل درجة النبوة؟
الجواب: لا يدل قوله تعالى: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [غافر: 60] على أن كل دعاء مستجاب لداعيه، وقد قال قتادة: إنما يستجاب من الدعاء ما وافق القدر، وليس قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: “لكل نبى دعوة مستجابة” أنه لا يستجاب للأنبياء غير دعوة واحدة، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أجيبت دعوته في المشركين حين دعا عليهم بسبع كسبع يوسف، ودعا على صناديد قريش المعاندين له، فقتلوا يوم بدر، وغير ذلك مما يكثر إحصاؤه مما أجيب من دعائه، بل لم يبلغنا أنه رُد من دعائه صلى الله عليه وسلم إلا سؤاله أن لا يجعل الله بأس أمته بينهم خاصةً، لما سبق في أم الكتاب من كون ذلك، قال تعالى: (وَلَوْ شَاء اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ) [البقرة: 253] . ومعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: “لكل نبى دعوة مستجابة” يريد أن لكل نبي عند الله من رفيع الدرجة وكرامة المنزلة أن جعل له أن يدعوه فيما أحبّ من الأمور ويبلغه أمنيته، فيدعو في ذلك وهو عالم بإجابة الله له كما ثبت عنه: “أن جبريل قال له: يا محمد، إن أردت أن يحول الله لك جبال تهامة ذهبًا فعل” . وخيَّره بين أن يكون نبيًا عبدًا وبين أن يكون نبيًا ملكًا، فاختار الآخرة على الدنيا.(16)
وأخيراً:
لاستجابة الدعاء شروط وأسباب بيّنها النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: ” مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو ‌بِدَعْوَةٍ ‌لَيْسَ ‌فِيهَا ‌إِثْمٌ، ‌وَلَا ‌قَطِيعَةُ رَحِمٍ، إِلَّا أَعْطَاهُ اللهُ بِهَا إِحْدَى ثَلَاثٍ: إِمَّا أَنْ تُعَجَّلَ لَهُ دَعْوَتُهُ، وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا ” قَالُوا: إِذًا نُكْثِرُ، قَالَ: ” اللهُ أَكْثَرُ “. (17)  فدعاء الأنبياء مستجاب بالغالب العام لأنهم حققوا هذه الشروط، وقد خصهم الله بدعوة مستجابة لكل منهم. والله تعالى أعلم.
وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


(1): صحيح مسلم (2890).
(2): مسند أحمد (11133).
(3): فتح الباري لابن حجر العسقلاني (11/97).
(4): تفسير البحر المديد لابن عجيبة (3/65).
(5):  ينظر: تفسير الخازن (3/40)؛ تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن محمد الأمين الهرري (14/420)؛ التفسير البسيط للنيسابوري (12/484).
(6): ينظر: شرح سنن ابن ماجه للسيوطي وغيره ص319.
(7): ينظر: تفسير الماتريدي (10/237)؛  تفسير الحداد (2/378).
(8): التفسير الكبير للفخر الرازي (8/209)؛ تفسير النيسابوري (2/153).
(9):  من عجائب الدعاء خالد بن سليمان بن علي الربعي ص9 ص10.
(10): ينظر: تفسير الآلوسي (1/274)؛ تفسير المراغي (1/131).
(11):  ينظر: صحيح البخاري (5945)؛ صحيح مسلم (338)؛ سنن ابن ماجه (4307) واللفظ له.
(12): ينظر: شرح صحيح البخاري لابن بطال (10/74)؛ فتح الباري لابن حجر (11/96)؛ الكواكب الدراري شرح صحيح البخاري للكرماني (22/122)، التوضيح لشرح الجامع الصحيح لابن الملقن (29/181)؛ الاجوبة المرضية فيما سئل عنه السخاوي من الأحاديث النبوية (3/1122).
(13): ينظر: الشفا بتعريف حقوق المصطفى للقاضي عياض (محذوف الأسانيد) (1/433)؛ طرح التثريب في شرح التقريب للعراقي (3/118)؛ فتح الباري شرح صحيح البخاري (11/96)؛ إرشاد الساري للقسطلاني (9/173)؛ المفهم لما اشكل من تلخيص كتاب مسلم (1/453)؛ شرح النووي على صحيح مسلم (3/75).
(14): فتح الباري لابن حجر (11/97).
(15):  ينظر: شرح سنن ابن ماجة للسيوطي وغيره ص319.
(16):  ينظر: شرح صحيح البخاري لابن بطال (10/74)؛ تفسير يحيى بن سلام (2/ 665).
(17): مسند أحمد (11133).

الشيخ أنس الموسى

هو الشيخ الحافظ الجامع أنس الموسى بن محمد بشير من مواليد سوريا – حماة 1974م 

تخرج في المعهد الهندسي قسم الإنشاءات العامة بدمشق، وتخرج في جامعة الأزهر كلية أصول الدين تخصص الحديث النبوي. 

قرأ على كبار علماء دمشق، منهم الشيخ عبد الرحمن الشاغوري والشيخ أديب الكلاس وغيرهم.

حفظ القرآن وأُجير به وبالقراءات العشر المتواترة،  على الشيخ بكري الطرابيشي والشيخ موفق عيون، كما وتخرج من مدرسة الحديث العراقية.

درس الكثير من المواد الشرعية في المعاهد الشرعية في سوريا وتركيا.

إمام وخطيب لمدة تزيد على 15 سنة.

مدرس للقرآن الكريم بمختلف قراءاته ورواياته.

حالياً يعمل كمدرس في مؤسسة سيكيرز، ومسؤول التوجيه الأكاديمي فيها.

أنهى مرحلة الماجستير في الحديث النبوي، وهو الآن يكمل في مرحلة الدكتوراه بنفس التخصص، متزوج ومقيم في إستانبول.