هل أشجع ولدي ليكون عالما أو أتركه يفعل ما يريد في حياته؟

 يجيب عن السؤال الشيخ عبد السميع الياقتي  

السؤال

هل أشجع ولدي ليكون عالما أو أتركه يفعل ما يريد في حياته؟

الجواب

 

الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على سيد المرسلين و على آله و صحبه أجمعين، و بعد:

 

العلم الشرعي هو أفضل العلوم ؛ و لذلك كان العلماء ورثة الأنبياء، و هم الذين أراد الله بهم خيراً ففقههم في الدين ؛ فكانوا خيرَ الأمةِ بمنهجهم القائم على التعلم و التعليم، و هذا ما أوصى به النبي الكريم صلى الله عليه و سلم كما ورد بذلك كثير من الأحادي

 

و من هذا المنطلق ينبغي علينا تشجيع أولادنا و شبابنا – و خاصةً المتميزين – على التعلم و التمكُّن ليكونوا من هؤلاء العلماء العاملين، الذين يبلغون عن النبي صلى الله عليه و سلم رسالته إلى الناس

 

فإن وافق ذلك رغبةً عندهم ؛ فهذا خيرٌ و أفضل ، و إلا ؛ فلا ينبغي إكراههم عليه؛ بل نراعي رغبتهم و اختيارهم لمسلك حياتهم بما يوافق الشرع، من العلوم و الأعمال و التخصصات و غير ذلك.


مع ضرورة تعليمهم أمورَ دينهم ، و ما هم بحاجةٍ إليه في عباداتهم و معاملاتهم و أخلاقهم،
و كذلك توجيههم إلى تحسين نيتهم و قصدهم و إخلاصهم لله تعالى فيما يختارونه، و بذلك يكونون أيضاً دعاة إلى هذا الدين و ينالوا رضى و محبة رب العالمين ، و الله أعلم

البيان و التفصيل :

يقول الله تعالى : ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ [فاطر: 28]؛  فهم و رثة الأنبياء ، و هم الذين قال الله تعالى فيهم : ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ [المجادلة: 11] ،

 

و قال فيهم النَّبِيُ صلى الله عليه و سلم : «خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ»(1)

 

و قال: “مَنْ يُرِد اللَّه بِهِ خيْراً يُفَقِّهْهُ في الدِّينِ” متفقٌ عليه(2). و بناءً على ذلك فـــ ﴿هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾ [الزمر: ٩].

 

و لذلك جاء الأمر -صراحةً- من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه و سلم بطلب الزيادة من العلم، فقَالَ له : ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ [طه: ١١٤]

 

ثم نقل النبي صلى الله عليه و سلم هذا الأمر إلى أمته ،فقَالَ:

«بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ.» (3)

 

والكلام عن أهمية طلب العلم في الإسلام و مسالك تحصيله ، و بيان مكانته و فضله و فضل العلماء العاملين الصادقين لا ينتهي ، و النصوص الشرعية في ذلك أكثر من أن تحصى، و لكن سأذكر حديثاً واحداً جمع كثيراً من هذه المعاني. 

 

فعن سيدنا أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :

“من سلك طريقًا يطلُبُ فيه عِلمًا، سلك اللهُ به طريقًا من طرُقِ الجنَّةِ، والملائكةُ تضعُ أجنحتَها رضًا لطالبِ العلمِ، وإنّ العالِمَ ليستغفرُ له من في السَّماواتِ ومن في الأرضِ، والِحيتانُ في الماءِ، وفضلُ العالِمِ على العابدِ كفضلِ القمرِ ليلةَ البدرِ على سائرِ الكواكبِ، إنّ العلماءَ ورثةُ الأنبياءِ، إنّ الأنبياءَ لم يُورِّثوا دينارًا ولا درهمًا، وأَوْرثوا العلمَ، فمن أخذه أخذ بحظٍّ وافرٍ”(4).

 

 – بعد عرض كل هذه النصوص أقول : لا بد أن نشجع أولادنا و شبابنا على سلوك مسلك تحصيل العلم الشرعي و من ثمَّ تعليمه و نشره ؛ فلا ينبغي أن يخلو حال شبابنا اليوم عن أحد هذين المسارين: إما التعلم أو التعليم. 

و هذه وصية النبي صلى الله عليه و سلم -كما يروي سيدنا أبو هريرةرضي الله عنه- عندما قال :

“الدّنيا ملعونة، ملعون ما فيها، إلّا ذكر الله، وما والاه، أو عالماً أو متعلّماً”(5)

 

وعَنْ سيدنا عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: “اغْدُ عَالِمًا، أَوْ مُتَعَلِّمًا، وَلَا تَغْدُ إِمَّعَةً فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ”(6)

 

– و إلا كانت العاقبة ضياعَ الأمة و ضلالَها ؛ بفقد علمائها أو قلتهم أو انشغالهم عن العلم و التعليم. و هذا ما حذر منه صلى الله عليه و سلم و بينه صراحةً ؛ فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ:

(إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ الْعِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا، اتَّخَذَ النَّاسُ رؤوسا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا، فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا)(7) 

 

 

تنبيه :

و لكن لا يعني ذلك إكراه أولادنا و إجبارهم على أن يكونوا علماء دين أو مشايخ ؛ فهذا -غالباً – لا يحقق النتيجة التي نريدها ؛ بل لابد أن يكون اختيارهم لمسلك العلم و التعليم نابعاً من محبة و رغبة صادقة من أنفسهم و اقتناع، و هنا يكمن دور الآباء و الأمهات و المربين بأن يغرسوا في قلوب أبنائهم هذا المنهج و يوضحوا لهم فضله و الغاية منه و غير ذلك.

فإن استجابوا فبها و نعمت ؛ و إلا فلا مانع من أن يختاروا المسلك أو الطريق العلمي أو العملي الذي يختارونه لحياتهم، و لكن بشرط أن يكون متوافقاً مع الشرع ، و يحقق النفع و الخير لهم أو لأمتهم في أي مجال أو تخصص. 

 

فالأمة كما هي بحاجة إلى علماء الشرع و الدين؛ فهي بحاجة -أيضاً- إلى الطبيب و المهندس و العامل و الموظف و المزارع و التاجر ، و غير ذلك من الأعمال و المهن الشريفة، خاصة إذا اقترنت بالنوايا الحسنة.

 

 

و هنا لا بد أن ننبه -أيضاً – على أمرين مهمين :

الأول : لا بد من تعليم أبنائنا – في كل الأحوال- أمورَ دينهم، التي بها تستقيم عباداتهم و حياتهم، كقراءة القرآن و أحكام الحلال و الحرام و أحكام الطهارة و الصلاة و غير ذلك من العبادات و المعاملات و الأخلاق ، فهذه أمور أساسية و ضرورية لكل مسلم سواء أصبح عالماً أم لا .

الثاني : أن نغرس فيهم المنهج الدعوي لهذا الدين ،و إخلاص النية لله، و إرادة النفع و الخير لأنفسهم و مجتمعهم ؛ فالعامل أو الموظف المخلص و المتقن لعمله هو داعية لهذا الدين ، و التاجر الأمين الصادق هو داعية لهذا الدين ، و المسؤول عن أمر من أمور المسلمين القائم بحق المسؤولية هو داعية لهذا الدين، و هكذا كل الأعمال و الفئات المجتمعية الأخرى.

 

 

بناءً على ما سبق :

 فإنه ينبغي علينا أن نشجع أبناءنا و شبابنا -و خاصةً المتميّزين منهم – على التعلم و التعليم دون إكراه أو إجبار، و بذلك يفشو العلم و ينتشر و يزداد، و يُتوارث فهو ميراث الأنبياء.

 يقول سيدنا عمر بن عبد العزيز- رحمه الله تعالى- في كتابه إلى أبي بكر بن حزم: «انظر ما كان من حديث رسولِ الله – صلى الله عليه وسلم- فَاكْتُبْه ، فإني خِفْتُ دُرُوسَ العلم، وذهابَ العلماء، …، ولْيُفْشُوا العلم، ولْيَجْلِسوا حتى يعلَّم من لا يَعلَم، فإن العلم لا يَهْلِكُ حتى يكون سِرّاً» (8)

فإن استجابوا فهذا هو المطلوب ، و إن أرادوا غير ذلك؛ فلا مانع من مراعاة اختياراتهم و رغباتهم فيما يتوافق مع الشرع، و يحقق النفع و الخير لهم و لأمتهم، و كما قال صلى الله عليه و سلم :

“اعملوا، فكلٌّ مُيسَّرٌ لما خُلِقَ له” (9) ،

و الحمد لله رب العالمين.

 

 

 




المصادر و المراجع :

1-صحيح البخاري : رقم (5027)، [6\192]

2- صحيح البخاري : رقم (71)، و صحيح مسلم : رقم (1037) .

3- صحيح البخاري : رقم (3461).

4- رواه أبو داود : برقم (3641) ، والترمذي : رقم (3683) و غيرهم من أصحاب السنن.

5- أخرجه الترمذي برقم (2322) وقال: حسن غريب. وابن ماجة برقم (4112)

6- كتاب شرح مشكل الآثار للإمام الطحاوي .صفحة (407)

7- صحيح البخاري : رقم (100)، [1\50] ، و صحيح مسلم : رقم (2673) [8\60]

8- جامع الأصول لابن الأثير  رقم ( 5873) [8\37]

9- صحيح البخاري : رقم (4949)، و صحيح مسلم : رقم (2647)