ما هي الآيات التي تشير إلى أثر القرآن في تنقية النوايا وتعزيز الصدق؟

يجيب عن السؤال الشيخ أنس الموسى 

السؤال

ما هي الآيات التي تشير إلى أثر القرآن في تنقية النوايا وتعزيز الصدق؟

الجواب

 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

ومن الأمور الهامة التي أولاها القرآن أهمية بالغة مسألة الأخلاق، ومن أعظم الأخلاق التي ناقشها القرآن: موضوع الصدق، فهو من الصفات التي تقوم عليها كثيرٌ من الأخلاق.

الصدق في القرآن من الخصال المحورية التي تواتر ذكرها فيه باشتقاقات مختلفة وتصريفات متعددة، وقد ورد لفظ (الصدق) في القرآن الكريم في ثلاثة وخمسين ومائة (153) موضع.

ولقد عد المصطفى صلى الله عليه وسلم الكذب -الذي هو ضد الصدق- من علامات النفاق فقال: «آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: ‌إِذَا ‌حَدَّثَ ‌كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ». (1)  وتخبر السيدة عائشة رضي الله تعالى عنها عن رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكذب فتقول : ‌”كان أبغض ‌الخلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الكذب”. (2)

والحق أن الصدق روح الأعمال، ومحكُّ الأحوال، والحامل على اقتحام الأهوال، والباب الذي دخَل منه الواصلون إلى حضرة ذي الجلال، وهو أساس بناء الدِّين، وعمود فسطاط اليقين، ودرجةٌ تاليةٌ لدرجة النبوة التي هي أرفعُ درجات العالمين. (3)

ويكفي الصدقَ منزلةً ومكانة أنه من صفات الله سبحانه وتعالى: ﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا ﴾ [النساء: 87]، وقال تعالى أيضاً: ﴿ وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ ﴾ [آل عمران: 152]، وقال

أيضاً: ﴿ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ﴾ [الزمر: 74].
– كما أن الصدق من أعظم الصفات الواجبة في حق الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام كذلك؛ لأنهم المبلِّغون عن الله وحيَه؛ فلزم أن يكون الصدق ملازمًا لهم في الأفعال والأقوال.. وهذا ما حكاه الله تعالى عنهم بقوله: ﴿ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا ﴾ [مريم: 41]، وقال تعالى: ﴿ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا ﴾ [مريم: 54]، وقال أيضاً: ﴿ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا * وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا ﴾ [مريم: 56، 57]، وقال أيضاً: ﴿ يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [يوسف: 46]، وقال أيضاً: ﴿ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ﴾ [يوسف: 51].

 كما أن الصدق من صفات المؤمنين، وقد وصفهم الله تعالى بقوله: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا * لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [الأحزاب: 23، 24].

 كما أن القرآن يعدُّ الصدق وصفاً جامعاً لكل صفات البر؛ كما في قوله تعالى: ﴿ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 177].

 بل لقد أمر الله بالتقوى، وحض المؤمنين أن يلزموا الصادقين؛ فقال: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾ [التوبة: 119]

أما الآيات التي تتحدث عن النية وتبين أهميتها ومنزلتها فكثيرة أيضاً؛ لأن النية في حقيقتها من أعمال القلوب، وأعمال القلوب أنفع وأنجع الأعمال؛ ففيها يتحقق سر العبودية، ومنزلة النية من الأعمال منزلةَ الروح من الجسد، وقد يبلغ الإنسان بنيته مالا يبلغ بعمله؛ لهذا قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا ‌الْأَعْمَالُ ‌بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى..”. (4) فتستطيع بنيتك الصادقة أن تحصّل من الأجور ما أنت عاجز عنه؛ فقد تحصِّل أجر الصدقة وأنت لا تملك المال، وأجر المجاهد وأنت لم تذهب للجهاد، وأجر الصائم وأنت مريض عاجز عنه…؛ والعلة أن الله تعالى يرفع أصحاب النوايا الصادقة إلى ما تمنوه… فلله در النية ما أعظمها!!!

ويؤكد هذا المعنى حديث أبي كبشة الأنماري أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ” إِنَّمَا الدُّنْيَا لِأَرْبَعَةِ نَفَرٍ: عَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالًا وَعِلْمًا فَهُوَ يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ، وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ، وَيَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا، فَهَذَا بِأَفْضَلِ المَنَازِلِ، وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ عِلْمًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالًا فَهُوَ صَادِقُ النِّيَّةِ يَقُولُ: لَوْ أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلَانٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ فَأَجْرُهُمَا سَوَاءٌ”. (5)

ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم أيضاً: “مَنْ طَلَبَ الشَّهَادَةَ صَادِقًا أُعْطِيَهَا وَلَوْ لَمْ تُصِبْهُ». (6) فكل من صَدَقَ اللهَ صدقهُ الله جل في علاه، وعلى قدر النوايا تكون العطايا؛ مصداق قول الله تعالى: {إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ}[الأنفال:70]. ومصداق قوله أيضاً: {فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا}[الفتح:18، 19]. ومصداق قوله تعالى أيضاً: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأَسْمَعَهُمْ}[الأنفال:23].

وأخيراً:

لا يخفى على الله تعالى صدقُ النوايا، حتى لو خفيت على عباده؛ فالله تعالى ﴿يَعْلَمُ ‌السِّرَّ ‌وَأَخْفَى﴾ [طه: 7] ، فاصدق مع ربك ومع عباده، ولا تلتفت لمن يسيء بك الظن ما دمت صادقاً في نيتك؛ فالعاقبة للمتقين أبداً. وكذلك لا تفتش عن نوايا الناس فلا يعلم ما في القلوب إلاّ علام الغيوب، وصدق الله تعالى إذ يقول: {رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ ۚ إِن تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا}[الإسراء:25].

وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


(1): صحيح البخاري (2536).
(2): البيهقي شعب الإيمان (4477).
(3): ابن القيم: مدارج السالكين إلى منازل إياك نعبد وإياك نستعين (2/627).
(4): صحيح البخاري (1).
(5): سنن الترمذي (2325).
(6): صحيح مسلم (1908).

[الشيخ] أنس الموسى

الشيخ أنس الموسى هو الشيخ الحافظ الجامع أنس الموسى بن محمد بشير من مواليد سوريا – حماة 1974م 

تخرج في المعهد الهندسي قسم الإنشاءات العامة بدمشق، وتخرج في جامعة الأزهر كلية أصول الدين تخصص الحديث النبوي. 

قرأ على كبار علماء دمشق، منهم الشيخ عبد الرحمن الشاغوري والشيخ أديب الكلاس وغيرهم.

حفظ القرآن وأُجير به وبالقراءات العشر المتواترة،  على الشيخ بكري الطرابيشي والشيخ موفق عيون، كما وتخرج من مدرسة الحديث العراقية.

درس الكثير من المواد الشرعية في المعاهد الشرعية في سوريا وتركيا.

إمام وخطيب لمدة تزيد على 15 سنة.

مدرس للقرآن الكريم بمختلف قراءاته ورواياته.

حالياً يعمل كمدرس في مؤسسة سيكيرز، ومسؤول التوجيه الأكاديمي فيها.

أنهى مرحلة الماجستير في الحديث النبوي، وهو الآن يكمل في مرحلة الدكتوراه بنفس التخصص، متزوج ومقيم في إستانبول.