ما هو حكم التدخين؟

 يجيب عن السؤال الشيخ عبد السميع ياقتي

السؤال

ما هو حكم التدخين؟

الجواب

الحمد لله و الصلاة و السلام على سيدنا محمد رسول الله و على آله و صحبه و من والاه ، و بعد :

جاءت الشريعة لحفظ المصالح أو المقاصد الخمسة وَهِيَ: حَفِظُ الدِّينِ، وَالنَّفْسِ، وَالْعَقْلِ، وَالنَّسْلِ، وَالْمَالِ. و بالتالي كل ما يؤدي إلى فسادها أو إهلاكها يدخل في حيز النهي و التحريم ؛ و هذا ينطبق تماماً على حكم التدخين خاصةً في عصرنا و قد ثبت ضرره -يقيناً- على النفس و العقل و المال و المجتمع و غير ذلك من أنواع و ألوان الضرر مما لا يدع مجالاً للاختلاف في حرمته بالإضافة إلى الأدلة و النصوص الشرعية التي تدل على ذلك، و الله أعلم

البيان و التفصيل :

جاءت هذه الشريعة لحفظ المصالح أو المقاصد الخمسة وَهِيَ: حَفِظُ الدِّينِ، وَالنَّفْسِ، وَالْعَقْلِ، وَالنَّسْلِ، وَالْمَالِ، – و بالتالي – فكل ما يؤدي إلى فسادها أو إهلاكها يدخل في حيز النهي و التحريم، سواء وردت في ذلك النصوص الشرعية -كتحريم القتل و الخمر و السرقة و الزنى و غير ذلك من الأحكام- أو لم يرد فيها نص شرعي ؛ بسبب كونها أموراً مستحدثة و جديدة لم تكن موجودة في زمن التشريع ؛ إلا أنها تشترك مع هذه النصوص في علة الحكم، كتحريم المخدرات و أنواع المسكرات و كل أنواع و أشكال الجرائم الحديثة، التي فيها اعتداء على الدين أو النفس أو العقل أو العرض أو المال ، أو كل التصرفات و الأفعال التي فيها إلحاق الأذى و الضرر بها.

– و من هذا المنطلق سندرس حكم التدخين ، و لكن قبل ذلك سنأخذ فكرة عن تعريفه و المراد منه و ما يُلحق به

– فلفظ “التَّبَغُ “: لَفْظٌ أَجْنَبِيٌّ دَخَل الْعَرَبِيَّةَ دُونَ تَغْيِيرٍ، وَقَدْ أَقَرَّهُ مَجْمَعُ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ. وَهُوَ نَبَاتٌ مِنَ الْفَصِيلَةِ الْبَاذِنْجَانِيَّة يُسْتَعْمَل تَدْخِينًا وَسَعُوطًا وَمَضْغًا، وَمِنْهُ نَوْعٌ يُزْرَعُ لِلزِّينَةِ، وَهُوَ مِنْ أَصْلٍ أَمْرِيكِيٍّ، وَلَمْ يَعْرِفْهُ الْعَرَبُ الْقُدَمَاءُ ، وَمِنْ أَسْمَائِهِ: الدُّخَانُ، وَالتُّتُنُ، وَالتُّنْبَاكُ.
لَكِنَّ الْغَالِبَ إِطْلاَقُ ” التنباك” عَلَى نَوْعٍ خَاصٍّ مِنَ التَّبَغِ كَثِيفٍ يُدَخَّنُ بِالنَّارَجِيلَةِ لاَ بِاللَّفَائِفِ.

– و قد ظهر  فِي أَوَاخِرِ الْقَرْنِ الْعَاشِرِ الْهِجْرِيِّ وَأَوَائِل الْقَرْنِ الْحَادِيَ عَشَرَ، وَأَوَّل مَنْ جَلَبَهُ لأَرْضِ الرُّومِ -أَيِ الأَتْرَاكِ الْعُثْمَانِيِّينَ- الإِنْكِلِيزُ، وَلأَرْضِ الْمَغْرِبِ يَهُودِيٌّ زَعَمَ أَنَّهُ حَكِيمٌ، ثُمَّ جُلِبَ إِلَى مِصْرَ، وَالْحِجَازِ، وَالْهِنْدِ، وَغَالِبِ بِلاَدِ الإِسْلاَمِ. (1)

– حكم التدخين :

 مُنْذُ ظُهُورِ الدُّخَّانِ وَالْفُقَهَاءُ -قديماً- يَخْتَلِفُونَ فِي حُكْمِ اسْتِعْمَالِهِ، بناءً على تصورهم له و  بِسَبَبِ الاِخْتِلاَفِ فِي تَحَقُّقِ الضَّرَرِ مِنَ اسْتِعْمَالِهِ، وَفِي الأَدِلَّةِ الَّتِي تَنْطَبِقُ عَلَيْهِ، قِيَاسًا عَلَى غَيْرِهِ، إِذْ لاَ نَصَّ فِي شَأْنِهِ .

– و قد ذَهَبَ إِلَى الْقَوْل بِتَحْرِيمِ شُرْبِ الدُّخَّانِ جمهور العلماء ، منهم مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: نَجْمُ الدِّينِ الْغَزِّيُّ، وَالْقَلْيُوبِيُّ، وَابْنُ عَلاَّنَ، وَغَيْرُهُمْ. و ألَّفوا كتباً في ذلك (2)

– وقد ذكروا سبعة عشر دليلاً على تحريم الدخان، و سنذكر بعض هذه الأدلة بإيجاز و تصرف :(3)

1- الدخان من الخبائث المحرمة بنص الكتاب، والخبائث: كل ما تستكرهه النفوس وتنفر منه.يقول تعالى : ﴿ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ ﴾ [الأعراف 157]

2-الدخان مضرّ بالأبدان ضرراً بيِّناً لا شك فيه، ولا شبهة الآن عند الحكماء وهو من أهم أسباب سرطان الرئة والقلب وغير ذلك من الأمراض الخطيرة أو المنتنة.
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ» حَدِيثٌ حَسَنٌ, راه ابنُ ماجه, والدارقطني ،(4)

3- الدخان مؤذ بدخانه الخبيث ورائحته المنتنة لمن لا يتعاطاه من زوجة أو زوج أو أولاد أو صاحب أو في الأماكن المغلقة و المرافق العامة و غير ذلك ، و هذا ما يُسمى حديثاً بــ ” التدخين السلبي”

4- الدخان مؤذ برائحته ونتنه للحفظة الكرام الكاتبين وغيرهم من الملائكة المكرمين ، قياساً على الثوم و البصل ، بل هو أشدّ منهما

5- الدخان فيه إفساد للجسم والبدن وتخدير له وتفتير بالتجربة والمشاهدة.

6- الدخان مع كونه مفتراً، أي مخدراً للجفون والأطراف، قد يحصل الإسكار منه لبعض الناس في ابتداء التعاطي، وقد نهى النبي صلّى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتِّر. فعن أُمُّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا أنها قالت :” نَهَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كُل مُسْكِرٍ وَمُفَتِّرٍ”(5)
قَال الْعُلَمَاءُ: الْمُفَتِّرُ: مَا يُحْدِثُ الْفُتُورَ وَالْخَدَرَ فِي الأَطْرَافِ وَصَيْرُورَتَهَا إِلَى وَهَنٍ وَانْكِسَارٍ، وَيَكْفِي حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ حُجَّةً، وَدَلِيلاً عَلَى تَحْرِيمِهِ.

7- فيه إسراف وتبذير، وهو إضاعة المال من أي نوع كان بإتلافه وإنفاقه في غير فائدة دينية ولا مصلحة دنيوية.

8- إنه مصادم للفطرة الإنسانية، مؤدٍ إلى تردد القلب وقلقه واضطرابه، فهو مشكوك ومشتبه فيه، ومن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، والبر: ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب.

9- فيه غول، وهو ما يعتري شاربه -بتركه- من الصداع و القلق والفساد والأذى في عقله ومزاجه وحواسه، وبسببه يعود له ولا يقدر على الترك، وكل ما فيه غول -يغتال العقول ويضعف الإرادة- يمنع منه، بدليل وصف الحق تعالى خمر الجنة بأنها : ﴿لا فِيهَا غَوْلٌ﴾  [الصافات 47]

– بعد بيان ما سبق من قول العلماء و أدلتهم على تحريم التدخين و اختلاف بعضهم في ذلك قديماً؛ أقول :
أما الآن في عصرنا و قد ثبت تحقق الضرر البدني و النفسي -يقيناً (6) – عبر الأبحاث و الدراسات الطبية و التحاليل الدقيقة، و عبر أجهزة التنظير و التصوير و التشريح، مع وجود ألوان و أنواع الأذى و الضرر الأخرى ؛ سواء على العقل أو المال أو المجتمع أو غير ذلك، فلا شك في رجحان حكم التحريم.

– و هذا يتفق مع أصول الشافعية في بناء الأحكام على المنافع و المضار؛ حيث يقول الإمام البيضاوي في كتابه منهاج الوصول إلى علم الأصول :( الأصل في المنافع الإباحة: لقوله تعالى :﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا ﴾ [سورة البقرة: 29] ، و ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ﴾ [الأعراف 32] ، و ﴿ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ ﴾ [المائدة 4]

و في المضارِّ التحريم: لقوله عليه الصلالة و السلام : ” لا ضرر و لا ضرار في الإسلام “)(7)

و يقول الإمام الفخر الرازي في كتابه المحصول : ( فثبت أن الأصل في المنافع الإباحة وهذا النوع من الكلام هو اللائق بطباع الفقهاء والقضاة …. أما الأصل الثاني وهو أن الأصل في المضار الحرمة فهذا يستدعي بحثين : أحدهما البحث عن ماهية الضرر والثاني إقامة الدليل على حرمته ..)(8)

و قد تحقق الضرر الآن في زمننا بما لا يدع مجالاً للشك ، و قد قام الدليل -كما سبق- على التحريم فثبت الحكم به، و الله أعلم.

بناء على ما سبق :

اعلم أخي السائل – وقد علمت الحكم بتحريم التدخين بأنواعه – أنه ينبغي عليك -إن كنت مدخناً- أن تعزم و تبادر إلى الإقلاع عن التدخين و أن تضع برنامجاً مناسباً في ذلك مع الاستعانة بأهل الاختصاص من الأطباء و غيرهم، و ان تبتغي بذلك مرضاة الله تبارك و تعالى أولاً ، ثم دفع الضرر عنك و عن أهلك و مجتمعك و الله يتولى هداك و معونتك، و إن لم تكن مدخناً فأنت في نعمة عظيمة فاثبت عليها و لا تلتفت إلى المغريات الزائفة التي تدعوك إلى تجربة التدخين ، فسرعان ما ستجد نفسك قد وقعت في الفخ و أدمنت على ذلك ، حفظك الله و رعاك و جميع المسلمين.

المصادر و المراجع :

1- الكتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية لمجموعة من المؤلفين ، [10\101]

2- الكتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية لمجموعة من المؤلفين ، [10\102]

3- ينظر : الموسوعة الفقهية الكويتية لمجموعة من المؤلفين ، [10\102-104] ،
و كتاب : الفِقْهُ الإسلاميُّ وأدلَّتُهُ للمؤلف الدكتور وَهْبَة الزُّحَيْلِيّ،دار الفكر – دمشق، [7\506-508]
و ينظر للتوسع كتاب : حكم التدخين و تعاطي المفترات و المخدرات لأبي المواهب جعفر بن إدريس الكتاني، الصفحة (58) و ما بعدها

4- الأربعين النووية : حديث رقم (32)

5- سنن أبي داود : رقم الحديث (3686) ، [3\329]

6- تذكر المراجع الحديثة أن التقارير عن التدخين أثبتت ضرره، وأنه مصدر خطر على الصحة، ويؤدي إلى مرض السرطان، وأن نسبة المتوفين من المدخنين أعلى منها بين غير المدخنين. انظر في هذا دائرة المعارف البريطانية ط ١٩٦٨ م مادة (TOBCCO) وكتاب التدخين وسرطان الرئة للدكتور نبيل الطويل ص ٣٠. ( الموسوعة الكويتية [10\103]

7- كتاب : منهاج الوصول إلى علم الأصول للإمام البيضاوي ، دار ابن حزم  ط1 صفحة (225)

8- كتاب: المحصول للإمام فخر الدين الرازي ، الناشر: مؤسسة الرسالة، ط 3 ، [6\105]

[الشيخ] عبد السميع ياقتي

الشيخ عبد السميع ياقتي عالم إسلامي من علماء سورية، مواليد حلب 1977م

نال الإجازة في الشريعة من كلية الشريعة جامعة دمشق، ودبلوم التأهيل التربوي من كلية التربية جامعة حلب، ودبلوم الشريعة والماجستير في الشريعة من كلية الشريعة والقانون جامعة أم درمان في السودان، وهو الآن بصدد إعداد أطروحة الدكتوراة في جامعة محمد الفاتح في إسطنبول

تتلمذ على أكابر العلماء: كالشيخ عبد الرحمن الشاغوري، والشيخ مصطفى التركماني، والشيخ الدكتور نور الدين عتر، رحمهم الله، والشيخ الدكتور محمود مصري، والعلامة الحبيب عمر بن سالم بن حفيظ و الشيخ عمر بن حسين الخطيب والشيخ محمد الأمين الشنقيطي وغيرهم من علماء الشام وحضرموت والإمارات.

عمل في مجال التدريس والتوجيه الثقافي في دار الأيتام وفي ثانويات حلب، وكان إماماً وخطيباً وقارئاً في مسجد الشيخ زايد في أبو ظبي، ومدرباً معتمداً للخطباء في برنامج تأهيل الخطباء في أبو ظبي

و يقوم بإعداد و تدريس برنامج تعليم الشباب في سيكرز عربية للعلوم الشرعية

للشيخ مؤلفات أهمها: إمام الحرمين الجويني بين علم الكلام وأصول الفقه، وبرنامج (رسول الله فينا) ﷺ