ما معنى أن الغنى غنى النفس وكيف نحصل عليه؟

يجيب عن السؤال الشيخ الدكتور باسم حسين عيتاني

السؤال

 ما معنى أن الغنى غنى النفس وكيف نحصل عليه؟

الجواب

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين؛

أخي السائل حفظك الله تعالى؛

هذه العبارة الرائعة شطر من حديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الذي آتاه الله الحكمة العالية، والحديث بتمامه: “لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ، وَلَكِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ” [صحيح البخاري] والمعنى الإجمالي للنص النبوي: لا يعتبر كثرة المال هو الغنى الحقيقي، وإنما الغنى الحقيقي هو غنى النفس، وهو أن يستغني المرء بما أوتي ويقنع به ويرضى بذلك ولا يحرص على الازدياد، ومحل غنى النفس هو القلب، فمن كان غني النفس كان غني القلب.

هناك مفهوم سائد عند كثير من الناس: إن الغني قد امتلك مفاتيح السعادة وحياة الاستقرار والطمأنينة وسر النجاح في هذه الدنيا بسبب ما يمتلك من المال ومن العقارات والسيارات وأسهم الشركات وغيرها، ولكن نرى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يصحح مسار هذا الخط من خلال كلماته النورانية، فهو يضع مفهوماً دقيقاً يدل على سبر عميق  لفهم النفس البشرية التي قد تنحرف عن سلوكها الفطري بسبب انغماسها الشديد في المادة، فتنجرف نحو الشَّرَه والطمع والحرص والتعلق الشديد بحب الدنيا وتقديم مصلحته الأنانية على الجميع أي: نفسي نفسي أولاً وغير ذلك من المواصفات التي تُسقطه في وحل المادة، فيغرق ولا يستطيع أن ينتشل نفسه.

هذا المفهوم النبوي الدقيق يؤسس لتصحيح معياري الغنى والفقر بحسب مفاهيم الناس، ولوضع تصورات لها أبعاد معنوية وروحية ونفسية لينطلق إلى الغنى المعنوي الذي هو أساس لتعيش الحياة بسلام داخلي وأمان نفسي وراحة بال، وإلى الفقر المعنوي الذي هو أساس لحياة التعاسة والتعب النفسي والشقاء الدنيوي.

وتتضح كمال الصورة في جدلية السؤال والجواب بين رسول الله – صلى الله عيه وسلم – وأبي ذر الغفاري الصحابي الجليل وهو رأس في الزهد والصدق، وقد توجه الرسول إلى أبي ذر مختبراً له عن هذه المفاهيم السابقة الذكر، فسأله: “يا أبا ذرٍّ ! أترى كثرةَ المالِ هو الغِنى ؟” . قلتُ : (نعم يا رسولَ اللهِ ! ) قال : “فترى قِلَّةَ المالِ هو الفقرُ؟”  قلتُ : (نعم يا رسولَ اللهِ !) قال : “إنما الغِنى غِنى القلبِ ، والفقرُ فقرُ القلبِ.” [موارد الظمآن] هنا رسخ الرسول – صلى الله عليه وسلم – مفهوم الغنى المعنوي الذي يخزن المعاني الإيجابية في القلب لتؤثر في سلوك الإنسان النفسي، ومفهوم الفقرالمعنوي الذي يخزن المعاني السلبية فيه فتؤثر في سلوكه الذي قد يدمر الإنسان حياته.

وقد وجهه الرسول – صلى الله عليه وسلم – بعد ذلك إلى قاعدة ذهبية حكيمة وهي معيار نفسي، يستطيع أن يقيس كل إنسان هذين المفهومين من خلال الشعور النفسي الداخلي الذي يملكه، فقال: “مَن كان الغِنَى في قلبِه ، فلا يَضُرُّه ما لَقِيَ من الدنيا ، ومَن كان الفقرُ في قلبِه ، فلا يُغْنِيهِ ما أُكْثِرَ له في الدنيا ، وإنما يَضُرُّ نَفْسَه شُحُّها”

فإن غنى النفس أوغنى القلب وهو الاستغناء بما قسم الله لك والرضا به، سواء كنتَ غني المال أو فقير المال، وهو يُولِّد العزة في النفس والنزاهة والشرف فتعظم عند الخالق وعند الخلق، فمن وجد الاستغناء فهو واجد أبداً، ومن فقد الاستغناء فهو فاقد أبداً.

وإن فقر النفس أو فقر القلب يُولِّد رذائل الأمور وخسائس الأفعال ومن اتصف بفقر القلب يحترق قلبه على ما فاته ويقلق قلقاً شديداً لما هو آتٍ، سواء كان غني المال أو فقير المال فيصغر عند الخالق والمخلوق، فمن تحقق فيه فقر النفس فهو فقير أبداً.

أخي السائل المحترم؛

 الطريقة الموصلة إلى غنى النفس أو غنى القلب:

– اجعل القناعة والرضا هدفك وكن على ثقة وعلى وعي أنك إذا لم تقنع بما أعطاك الله من النِّعم الظاهرة والباطنة وترضى بها، لا يمكن لك أن تصبح غني النفس أو غني القلب بل ستبقى تركض وتلهث وراء المرغوبات ووراء الكماليات، وكلما وصلت بوهمك إلى مبتغاك، ترجع إلأى الركوض واللهث، وتستمر في حالة القلق الدائم الذي لاينفك عنك، وتظل مضطرباً، فلايُسكِّن لك هذا الاضطراب وهذا القلق إلا القناعة والرضى، فقد ورد : “ارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس”.[سنن الترمذي] ولا يمكن أن يصل الإنسان إلى القناعة والرضا إلا من خلال إيمان عميق واع وتهذيب للنفس مستمر.

– أكثر من هذا الدعاء: اللهم إني أعوذ بك من نفس لاتشبع. وكان الرسول يعلمه للصحابة ويقول: “اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ قَلْبٍ لاَ يَخْشَعُ، ومِنْ دُعَاءٍ لاَ يُسْمَعُ، وَمِنْ نَفْسٍ لاَ تَشْبَعُ، وَمِنْ عِلْمٍ لاَ يَنْفَعُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَؤُلاَءِ الأَرْبَعِ” [سنن الترمذي] فالدعاء مخ العبادة، والاستعانة بالدعاء علاج أساسي حتى يعينك الله على نفسك الأمارة بالسوء التي لاتقنع بما أتاها ولا ترضى، والدعاء كفيل بأن يخرجك من سجن الطمع والجشع والتطلع لمن هو أعلى منك والتشوف إلى جمع حطام الدنيا بشَرَهٍ، وبأن يملأ قلبك غنى نفسياً ويُزينه بالقناعة والرضى.

والله الهادي إلى تهذيب النفوس.

– البخاري،محمد بن إسماعيل، الجامع الصحيح، تحقيق: البغا، دار ابن كثير، دمشق، ط5،

(1414هـ -1993م)  2368/5 ر:6081

 – الهيثمي، علي بن أبي بكر، موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان، دار الثقافة العربية، دمشق، ط1، (1412هـ – 1992م) 2521 – 203/8

-الترمذي، محمد بن عيسى، تحقيق: بشار معروف، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط1،

(1996م) 140/4 ر:2305 – 467/5 ر:3482

[الشيخ] الدكتور باسم عيتاني

الشيخ الدكتور باسم عيتاني هو الشيخ الدكتور باسم حسين عيتاني من مواليد بيروت – لبنان عام 1965    

حاصل على الدكتوراه في الدراسات الإسلامية عام 2005

من مشايخه: الشيخ محمد طه سكر والشيخ أديب الكلاس والشيخ ملا عبد العليم الزنكي والشيخ عبد الرحمن الشاغوري والشيخ عبد الرزاق الحلبي والشيخ د. مصطفى ديب البغا والشيخ د. وهبي الزحيلي ود. محمد الزحيلي وغيرهم رحمهم الله جميعا.

 لديه العديد من الخبرات والتخصصات العلمية و الإدارية، وقد شغل مناصب علمية وإدارية في العديد من الجهات والمؤسسات العلمية والثقافية والإسلامية الحكومية وغير الحكومية في لبنان وخارجه من ذلك

 SeekersGuidance – عضو في اللجنة العلمية في مؤسسة

 التعليم المفتوح عبر الإنترنت حتى الآن

عميد كلية الدعوة الجامعية للدراسات الإسلامية – الدراسات العليا عام 2021-2020

مدير دار إقرأ للعلوم الإسلامية 1998- 2018

مدرس للعديد من المواد و المناهج العلمية في الفقه و الأصول و العقيدة و التفسير .. ومناقش و مشرف على العديد من الرسائل

والاطاريح العلمية في الماجستير والدكتوراه في العديد من الجامعات و الكليات في لبنان له مؤلفات وأبحاث  في مجال العلوم الإسلامية

أقوال الإمام زفر المعتمدة في المذهب الحنفي – الاجتهاد الجماعي سمو فكري في القرن 21 – العرف وأثره في الفقه الإسلامي 

المشاركة في العديد من المؤتمرات والندوات العلمية داخل لبنان وخارجه