ما المقصود من قول الله تعالى: (فَطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون)؟

يجيب عن السؤال الشيخ أنس الموسى

السؤال

ما المقصود من قول الله تعالى: (فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون)؟

الجواب

                                            بسم الله الرحمن الرحيم
هذه الآية من سورة الحديد، ومطلعها قول الله تعالى:

﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴾ [الحديد: 16].

وقد وردت أقوال كثيرة في سبب نزولها بعضها يثبت وبعضها لا يثبت. (1)
الله تعالى في هذه الآية يخاطب عباده المؤمنين فيقول لهم:

(أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ)

 أي: أَلم يَحن الوقت لِأَن تلين قلوب المؤمنين وتَرقَّ عند سماع تذكير الله ووعظه وقرآنه، فتفهمه وتنقاد له وتسمع أوامره وتطيعه وتجتنب نواهيه

وعن ابْنُ عَبَّاسٍ قال: ‌إِنَّ ‌اللَّهَ ‌اسْتَبْطَأَ ‌قُلُوبَ ‌الْمُؤْمِنِينَ فَعَاتَبَهُمْ عَلَى رَأْسِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً مِنْ نِزُولِ الْقُرْآنِ، فَقَالَ: “أَلَمْ يَأْنِ”. (2)

(وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ):

 الله عز وجل ينهى المؤمنين أن يتشبهوا ويكونوا في صحبة القرآن، وقسوة قلوبهم كاليهود والنصارى، الذين حملوا الكتاب فلم تعد تلين لوعدٍ ولا وعيد. وقد كانوا إذا سمعوا التوراة والإنجيل قبل ذلك خشعوا للَّه ورقَّت قلوبهم . (3)
عن ابن مسعود: “أنَّ ‌بني ‌إسرائيلَ ‌لما ‌طال ‌عليهم ‌الأمدُ ‌قستْ ‌قلوبُهم؛ فاخترعوا كتابًا من عندِ أنفسِهم استهوتْهُ قلوبُهم، واستحلَتْهُ ألسنتُهم، وكان الحقُّ يحولُ بينَهم وبينَ كثيرٍ من شَهَواتِهم، حتَّى نبذوا كتابَ اللهِ وراءَ ظُهورهم؛ كأنهم لا يعلَمون…”. (4)

 (فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ﴾:

 أي حين طال عليهم الزمان بينهم وبين أنبيائهم. أو: طال عليهم أمد انتظار القيامة. وقال مقاتل: {الأمد} هنا: الأمل، أي: لما طالت آمالهم لا جرم قست قلوبهم. وقيل: طالت أعمارهم في الغفلة، فحصلت القَسْوة في قلوبهم بذلك السبب. (5)

( فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ):

 أي صَلُبت قلوبهم ولم تعد تلين لذكر الله؛ لاتباعهم الشهوات.
وذلك أنَّ بني إسرائيل كان الحقُّ يحول بينهم وبين شهواتهم، وإذا سمِعوا التوراة والإنجيل خشعوا له، وخشعت قلوبهم، فلما طال عليهم الزمان، غلب عليهم الجفاء والقسوة، واختلفوا بسبب ذلك، حتى صاروا لا يتأثرون بالموعظة ولا بالوعد والوعيد، وبدّلوا كتاب الله الذي بأيديهم، واشتروا به ثمنا قليلاً، ونبذوه وراء ظهورهم، واتبعوا الآراء المختلفة والأقوال المؤتفكة، وقلّدوا أحبارهم ورهبانهم في دين الله من غير دليل ولا برهان.

( وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ):

 وكثير منهم خارجون عن حدود الله وأوامره ونواهيه، فصارت أعمالهم باطلة، وقلوبهم فاسدة، كما قال تعالى: {فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنّاهُمْ، وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً، يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ، وَنَسُوا حَظًّا مِمّا ذُكِّرُوا بِهِ} [المائدة 13/ 5] ولهذا نهى الله المؤمنين عن التشبّه بهم.(6)
وعن ابْنَ مَسْعُودٍ رضي الله تعالى عنه قَالَ: « مَا كَانَ بَيْنَ ‌إِسْلَامِنَا ‌وَبَيْنَ ‌أَنْ ‌عَاتَبَنَا ‌اللهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ} إِلَّا أَرْبَعُ سِنِينَ». (7)
وورد عن ابن مسعود أنه قال : لمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أَقْبَلَ بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ: أَيَّ شَيْءٍ أَحْدَثْنَا؟ أَيَّ شَيْءٍ صَنَعْنَا؟!”. (8)
وعن الحسن رضي الله عنه قال: أما والله لقد استبطأهم وهم يقرؤون من القرآن أقل مما تقرؤون، فانظروا في طول ما قرأتم منه وما ظهر فيكم من الفسق.
يعني: أن الله تعالى استبطأ خشوع قلوب الصحابة رضوان الله عليهم وعاتبهم على عدم تأثير القرآن فيها سريعًا، مع ما كانوا عليه من الخشوع، وكانت قراءتهم أقل من قراءتكم، فتفكروا أنتم في حالكم، وما أنتم عليه من الفسق مع كثرة القراءة! فهو شهادة بأن قلوبهم كالحجارة أو أشد قسوة.(9)

 

ومن الدروس المستفادة من هذه الآية:

1- قال ابن رجب الحنبلي: “فهذه الآية تتضمن توبيخًا وعتابًا لمن سمع هذا السماع، ولم يَحدُث له في قلبه صلاحًا ورقة وخشوعًا، فإن هذا الكتاب المسموع يشتمل علي نهاية المطلوب، وغاية ما تَصلُح به القلوب، وتنجذب به الأرواح المغلقة بالمحل الأعلى، إلي حضرة المحبوب، فيحيى بذلك القلبُ بعد مماته، ويجتمعُ بعد شتاته، وتزول قسوته بتدبر خطابه وسماع آياته، فإن القلوب إذا أيقنت بعظمة ما سمعت، واستشعرت شرف نسبة هذا القول إِلَى قائله، أذعنت وخضعت فَإِذَا تدبرت ما احتوى عليه من المراد ووعت، اندكَّت من مهابة الله وإجلاله وخشعت”. (10)
2- روى أَبو الدَّرْدَاءِ عن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «‌أَوَّلُ ‌شَيْءٍ ‌يُرْفَعُ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْخُشُوعُ حَتَّى لَا تَرَى فِيهَا خَاشِعًا». (11)
والخشوع: هو خشية من الله تُداخل القلوبَ، فتظهرُ آثارُها على الجوارح بالانخفاض والسكون كما هو شأن الإنسان الخائف.
وكان بعض السلف يقول: “أعوذ بالله من خشوع النِّفاق فقيل: ما خشوع النفاق؟ فقال: أن يُرى البدنُ خاشعاً والقلبُ غير خاشعٍ”. (12)
3- قوله تعالى: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ) فيه بيان أن دواء قسوة القلوب هو ذكر الله. كما قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ زَادَتْهُمْ ‌إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال: 2]
4-هذه الآية تُذكِّرنا بقوله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال:24] قوله: (لما يحييكم) أي: يحيي قلوبكم.
وتذكرنا بقول الله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر: 22-23].
5- الإنسان قد يَعلَم الآيات، ويعلم الأحاديث، ويعلم الحلال ويعلم الحرام، لكن قلبه لا ينفعل بهذه الآيات والأحاديث لطول الأمد الذي يُحدث قسوةً في القلوب.
6- إن طولَ الزمن قد يُخفِّف من رقَّة الشعور، وتطاولُ الأيام قد يُنسي بعضَ القيم، وتقادُمُ العهد قد يغير المشاعر القلبية، ما لم يتعهَّد المرءُ نفسه ويجلو قلبه، ليبقى حاضرَ الفكر، واعيَ القلب، يقظَ الإحساس، لأن الليِّن ظاهرة سلوكية تنبع عن قلب ليِّن. (13)
وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


(1):ينظر: الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي (8/57)؛ التفسير المنير للزحيلي (27/314).
(2): معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم (تفسير البغوي) (8/37)؛ تفسير ابن كثير (8/52).
(3):ينظر:  تفسير ابن كثير (8/20)؛ تفسير الكشاف للزمخشري (4/477)؛ تفسير النسفي (3/437)؛ معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم (تفسير البغوي) (8/38)؛ فتوح الغيب في الكشف عن قناع الريب (حاشية الطيبي على الكشاف) شرف الدين الحسين بن علي الطيبي (15/244).
(4):سنن سعيد بن منصور (2179)؛  تفسير ابن كثير (8/20)؛ تفسير البحر المديد لابن عجيبة (7/318).
(5): ينظر: تفسير ابن عجيبة (7/319)؛ اللباب في علوم الكتاب ابن عادل الدمشقي الحنبلي النعماني (18/482)؛  الكشف والبيان عن تفسير القرآن (تفسير الثعلبي) أبو إسحاق الثعلبي (26/62).
(6): ينظر: التفسير المنير للزحيلي (313-27/315).
(7):صحيح مسلم (3027).
(8):فتح القدير للشوكاني (5/208)؛ الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (17/162).
(9):ينظر: فتوح الغيب في الكشف عن قناع الريب (حاشية الطيبي على الكشاف) شرف الدين الحسين بن علي الطيبي (15/243)؛ الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل للزمخشري (4/477).
(10): نزهة الأسماع في مسألة السماع (أحكام الغناء والمعازف) لابن رجب الحنبلي (2/469).
(11):ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد وقال: رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ. ينظر: مجمع الزوائد للهيثمي (2813)؛  تفسير ابن كثير (8/20).
(12): بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز للفيروزآبادي (2/542).
(13):ينظر: هذه أخلاقنا حين نكون مؤمنين حقاً محمود محمد الخزندار ص461.