ما الحكمة من ترتيل القرآن بتجويد؟

يجيب عن السؤال الشيخ أنس الموسى 

السؤال

ما الحكمة من ترتيل القرآن بتجويد؟

الجواب

 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

قراءة القرآن بالتجويد تهدف إلى تحسين جودة تلاوة القرآن الكريم؛ فالتجويد كما عرَّفه العلماء، هو التحسين والإتقان، وهو مأخوذ من الجَودة، وهي ضدّ الرداءة. والتجويد هو حلية التلاوة وزينة القراءة.

وقراءة القرآن مجوداً فيه استجابةٌ لأمر الله تعالى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} [المزمل: 4]، كما أن القراءة المجوّدة سنة متبعة عن النبي صلى الله عليه وسلم، والآخذين عنه إلى يومنا هذا.

والمراد بالتجويد في اصطلاح القرَّاء: الأداء الجيد لحروف القرآن الكريم وكلماته مع بيان ووضوح، وإعطاء كل حرف حقَّه، وردِّه إلى مخرَجِه، ومراعاة الصورة الملائمة في نُطقه مع مجاوره، وإعرابُ ألفاظه، ومراعاةُ الحدود بمقاديرها الزمنية المناسبة، كل ذلك من غير إسراف ولا تعسف، وبدون إفراط أو تكلف أو تخليط، إلى غير ذلك مما تنفِرُ عنه الطباع، وتمجُّه القلوبُ والأسماع.

والتجويد يمكِّن القارئَ ويعينه على جَودة قراءة القرآن، وحُسنِ أدائه، وعِصمة لسانه من اللحن (الخطأ) أثناء التلاوة. (1)

 إن ما نقل عن بعض الصحابة من تميزهم بقراءة القرآن، ليدل بما لا يدع مجالاً للشك أهمية علم التجويد اثناء تلاوة القرآن؛ فهذا عبد الله بن مسعود قد أعطي حظًّا عظيمًا في تجويد القرآن وترتيله، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحب سماع القرآن منه، وكانت تُبكيه قراءته أحيانًا، حتى قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” ‌مَنْ ‌أَحَبَّ ‌أَنْ ‌يَقْرَأَ ‌الْقُرْآنَ ‌غَضًّا كَمَا أُنْزِلَ، فَلْيَقْرَأْهُ عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ “. (2)  يعني عبدَ الله بن مسعود. وصدق الله إذ يقول: ﴿‌الَّذِينَ ‌آتَيْنَاهُمُ ‌الْكِتَابَ ‌يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ [البقرة: 121]

وعَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ قَالَ: صَلَّى بِنَا ابْنُ مَسْعُودٍ الْمَغْرِبَ بِـ  (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)، وَوَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنَّهُ قَرَأَ بِسُورَةِ الْبَقَرَةِ مِنْ حُسْنِ صَوْتِهِ وَتَرْتِيلِهِ”. (3)
يقول ابن الجزري: وهذه سنة الله تبارك وتعالى، فمن يقرأ القرآن مجوَّدًا مصحَّحاً كما أُنزل؛ تلتذُّ الأسماع بتلاوته، وتخشع القلوب عند قراءته، حتى يكادُ أن يَسلُبَ العقول ويأخذ الألباب، سرٌّ من أسرار الله تعالى يودعه من يشاء من خلقه. ولقد أدركنا من شيوخنا من لم يكن له حُسنُ صوت ولا معرفة بالألحان، إلاَّ أنه كان جيد الأداء قيّما باللفظ، فكان إذا قرأ أطرب المسامع، وأخذ من القلوب بالمجامع، ‌وكان ‌الخَلق ‌يزدحمون ‌عليه، ويجتمعون على الاستماع إليه، أمم من الخواص والعوام، يشترك في ذلك من يعرف العربي ومنلا يعرفه من سائر الأنام، مع تركهم جماعات من ذوي الأصوات الحسان، عارفين بالمقامات والألحان؛ لخروجهم عن التجويد والإتقان. (4)

ملحوظات حول تجويد القرآن تبين أهميته

– لا شك أنه كما يُتعبَّدُ بفهم معاني القرآن، وإقامة حدوده يُتعبد بتصحيح ألفاظه وإقامة حروفه على الصفة المتلقاة، التي لا يجوز مخالفتها ولا العدول عنها، فمن أنِفَ عن الأخذ عن أستاذ يوقفه على حقيقة ذلك، مع تماديه على تحريف ألفاظ القرآن، فهو عاصٍ بلا شك، وآثم بلا ريب، إذ صيانة جميع حروف القرآن عن التبديل والتحريف واجبة، وقد قال تعالى مخاطبًا لرسوله صلى الله عليه وسلم خصوصًا، ولأمته عمومًا: ﴿‌وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا﴾ [المزمل: 4]، فلم يقتصر سبحانه وتعالى على الأمر بالفعل، حتى أكده بالمصدر؛ اهتمامًا به وتعظيماً له؛ ليكون عوناً على تدبر القرآن وتفهيمه، وكذلك كان صلى الله عليه وسلم يفعل، كما نعتت أم سلمة رضي الله تعالى عَنْها، حين سئلت عن قِرَاءَةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَلَاتِهِ فقَالَتْ: مَا لَكُمْ وَصَلَاتَهُ؟ ثُمَّ نَعَتَتْ قِرَاءَتَهُ، فَإِذَا هِيَ تَنْعَتُ قِرَاءَةً مُفَسَّرَةً ‌حَرْفًا ‌حَرْفًا» (5) نفهم من وصف السيدة أم سلمة رضي الله عنها، أن القراءة المجودة منقولةٌ أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، كما نُقل القرآن.

– إذا تأملنا عرضَ النبي صلى الله عليه وسلم القرآن على جبريل عليه السلام، كما روت السيدة عائشة، ما أخبرتها به السيدة فاطمة رضي الله عنها: ” ….أَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ ‌يُعَارِضُهُ ‌بِالْقُرْآنِ ‌كُلَّ ‌سَنَةٍ مَرَّةً وَإِنَّهُ قَدْ عَارَضَنِي بِهِ الْعَامَ مَرَّتَيْنِ، وَلَا أُرَى الْأَجَلَ إِلَّا قَدِ اقْتَرَبَ…”. (6) مع ما روي من قراءته صلى الله عليه وسلم القرآن على أبي بن كعب، كما يروي أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: ” إِنَّ اللهَ أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا} [البينة: 1] ” قَالَ: وَسَمَّانِي لَكَ؟ قَالَ: ” نَعَمْ ” فَبَكَى”. (7) لَتَوَضَّح لنا سبب حرصِ العلماء أخذ القراءة على المشايخ، وأخذ الألفاظ عنهم بطريق المشافهة؛ فهو صلى الله عليه وسلم إنما قرأ على أبي بن كعب؛ ليعلِّمه طريق التلاوة وترتيلها، وعلى أي صفة تكون قراءةُ القرآن، لكون ذلك سنةً في الإقراء والتعليم، وقد وقع الأمر كذلك مع الصحابة – الآخذين للقرآن عنه صلى الله عليه وسلم – فقد عَرَضَ بعضهم على بعض القرآن، ثم وقع كذلك للتابعين وأتباعهم، حتى اتصل الأمر إلينا مسلسلاً متواترًا، فمن ابتدع واجترأ بما تعلَّم من الكتب فقد أساء وخالف، وربما وقع في أمر عظيم وخطرٍ جسيم. (8)

وقال النووي في شرح حديث أُبي بن كعب السابق: واختلفوا في الحكمة في قراءته صلى الله عليه وسلم على أُبيّ، والمختار أن سببها أن تستنَّ الأمة بذلك في القراءة على أهل الإتقان والفضل ويتعلموا آداب القراءة ولا يأنف أحدٌ من ذلك”. (9) أي ليكون سنةً في حق الأمة لتجويد التلامذة على الشيوخ قراءتهم، وتصحيح إخراج الحروف من مخارجها وكيفية النطق بها، وغير ذلك.

ويؤكد هذا ما رواه ‌شَقِيقُ بْنُ سَلَمَةَ، قَالَ: خَطَبَنَا ‌عَبْدُ اللهِ بن مسعود فَقَالَ: «‌وَاللهِ ‌لَقَدْ ‌أَخَذْتُ ‌مِنْ ‌فِي ‌رَسُولِ ‌اللهِ ‌صَلَّى ‌اللهُ ‌عَلَيْهِ ‌وَسَلَّمَ ‌بِضْعًا ‌وَسَبْعِينَ ‌سُورَةً…”. (10) كل هذا يدل على أن القراءة سنة متبعة.

– ليس المقصود من التجويد المطلوب، التكلُّف في النطق؛ بل التجويد أبعد ما يكون عن التكلُّف، والتعسف في الأداء، يقول أبو عمرو الداني – وهو أحد أئمة القراءة- مشيرًا إلى الصور المرفوضة في الأداء، والتي ينبغي أن ينأى عنها القراء: “لَيْسَ ‌التَّجْوِيدُ بِتَمْضِيغِ اللِّسَانِ، وَلَا بِتَقْعِيرِ الْفَمِ، وَلَا بِتَعْوِيجِ الْفَكِّ، وَلَا بِتَرْعِيدِ الصَّوْتِ، وَلَا بِتَمْطِيطِ الشَّدِّ، وَلَا بِتَقْطِيعِ الْمَدِّ، وَلَا بِتَطْنِينِ الْغُنَّاتِ، وَلَا بِحَصْرَمَةِ الرَّاءَاتِ، قِرَاءَةٌ تَنْفِرُ عَنْهَا الطِّبَاعُ، وَتَمُجُّهَا الْقُلُوبُ وَالْأَسْمَاعُ، بَلِ الْقِرَاءَةُ السَّهْلَةُ الْعَذْبَةُ الْحُلْوَةُ اللَّطِيفَةُ، الَّتِي لَا مَضْغَ فِيهَا وَلَا لَوْكَ، وَلَا تَعَسُّفَ وَلَا تَكَلُّفَ، وَلَا تَصَنُّعَ وَلَا تَنَطُّعَ، لَا تَخْرُجُ عَنْ طِبَاعِ الْعَرَبِ وَكَلَامِ الْفُصَحَاءِ بِوَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الْقِرَاءَاتِ وَالْأَدَاءِ”. (11)

الوصول إلى المستوى الصحيح من تجويد القرآن، يتطلب مزيدًا من الدُّربة، والمِران، والتلقي عمن يحسن الأداء. وكلما أمعن القارئ من الدُّربة، والرياضة على القراءة الصحيحة، بعيداً عن مساوئ التكلف؛ وصل ما يريد من التجويد.

– وقد عدّ العلماء القراءة بغير تجويد لحنًا (خطأً)؛ فقسموا اللحن إلى: لحنٍ جليّ، ولحنٍ خفي.
فاللحن الخفي: خلل يطرأ على الألفاظ فيخلُّ بها، ويختص بمعرفته علماء القراءة، وأئمة الأداء الذين تلقوه من أفواه العلماء، وضبطوه من ألفاظ أهل الأداء.

أما اللحن الجلىّ: هو ما يخلُّ إخلالاً ظاهرًا يشترك في معرفته علماء القراءة وغيرهم، وهو الخطأ في الإعراب. (12)

وأخيراً:

فالحكمة من قراءة القرآن بالتجويد؛ أنّ التجويد هو حلية القراءة، وهو إعطاء الحروف حقوقها وترتيبها، وردّ الحرف إلى مخرجه وأصله، وتلطيف النطق به على كمال هيئته، من غير إسرافٍ ولا تعسف ولا إفراط ولا تكلف. وأن القراءة بالتجويد تلفت الانتباه وتشد القلب للقرآن وتؤثر فيه، وتعين على التفكر في معانيه. كما أن في قراءة القرآن بالتجويد استجابةً لأمر النبي صلى الله عليه وسلم لنا بقوله: ” زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ”. (13) أي: بتحسين أصواتكم عند القراءة، فإن الكلام الحسن يُزيد حسناً وزينةً بالصوت الحسن، ولا شك فإن لتطبيق أحكام التجويد أثر في ذلك.

وأنصح السائل إن كان يجد من نفسه ضعفاً في تطبيق أحكام التجويد التي ذكرها العلماء أن يلزم شيخاً مجازاً يعينه على ذلك.

وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


(1): السيد رزق الطويل: مدخل في علوم القراءات ص114.
(2): مسند أحمد (18457)
(3): ابن الجزري: النشر في القراءات العشر (1/212).
(4):  ابن الجزري: النشر في القراءات العشر (1/212).
(5): سنن النسائي (1022)؛ مسند أحمد (26742)، سنن الترمذي (2923)؛ عقيلة: الزيادة والإحسان في علوم القرآن (3/ 296).
(6): صحيح البخاري (5928).
(7): صحيح البخاري (3809)؛ مسند أحمد (12320).
(8): ينظر: القاضي عياض: إكمال المعلم بفوائد مسلم (3/168)؛ ابن الملقن: التوضيح لشرح الجامع الصحيح (20/415)؛ عقيلة: الزيادة والإحسان في علوم القرآن (3/ 295).
(9): النووي: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج (6/ 86).
(10): صحيح البخاري (5000).
(11): ابن الجزري: النشر في القراءات العشر (1/213).
(12):  الموسوعة القرآنية (2/ 112).
(13): مسند أحمد (18494).

 

[الشيخ] أنس الموسى

الشيخ أنس الموسى هو الشيخ الحافظ الجامع أنس الموسى بن محمد بشير من مواليد سوريا – حماة 1974م 

تخرج في المعهد الهندسي قسم الإنشاءات العامة بدمشق، وتخرج في جامعة الأزهر كلية أصول الدين تخصص الحديث النبوي. 

قرأ على كبار علماء دمشق، منهم الشيخ عبد الرحمن الشاغوري والشيخ أديب الكلاس وغيرهم.

حفظ القرآن وأُجير به وبالقراءات العشر المتواترة،  على الشيخ بكري الطرابيشي والشيخ موفق عيون، كما وتخرج من مدرسة الحديث العراقية.

درس الكثير من المواد الشرعية في المعاهد الشرعية في سوريا وتركيا.

إمام وخطيب لمدة تزيد على 15 سنة.

مدرس للقرآن الكريم بمختلف قراءاته ورواياته.

حالياً يعمل كمدرس في مؤسسة سيكيرز، ومسؤول التوجيه الأكاديمي فيها.

أنهى مرحلة الماجستير في الحديث النبوي، وهو الآن يكمل في مرحلة الدكتوراه بنفس التخصص، متزوج ومقيم في إستانبول.