ما أهمية الاستماع إلى القرآن؟

يجيب عن السؤال الشيخ أنس الموسى 

السؤال

ما أهمية الاستماع إلى القرآن؟

الجواب

 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا ونبيّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

من أهم الأمور المتعلقة بالاستماع للقرآن أن فيه استجابة لأمر الله عز وجل، حين قال: ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ ‌فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [الأعراف: 204]  والمراد بالاستماع في الآية: التأمل والتفكير في كلام الله عز وجل، ولمَّا كان الاستماع قد يكون مع السكوت، وقد يكون مع النطق بكلام آخر لا يحول بين المتكلم وبين فهم ما يُسمع؛ عَقَّبَ اللهُ سبحانه ذلك بالأمر بالإنصات وهو عدم الكلام. فالاستماع ‌للقرآن الكريم بمقتضى الآية، عبادة مستقلة يستحق بها المسلم الأجر والثواب.

 كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصًا على استماع المشركين للقرآن؛ لما فيه من سياسة النفوس المعرِضة، واستدراجِها للتعرف على الحق بسماعه، ولِما يَعلم من قوة تأثيره في نفوسهم، فقد كان المشركون يتواصون بعدم ‌الاستماع ‌للقرآن؛ كيلا يجذبهم بسحر بيانه، وقوة تأثيره، بل ويتواصون باللغو فيه، وذلك بالتشويش على النبي حين قراءته، والصخب عليه، وإلقاء الشبه والأباطيل، قال عز شأنه: (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا ‌فِيهِ ‌لَعَلَّكُمْ ‌تَغْلِبُونَ﴾ [فصلت: 26] فكان إذا جهر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالقرآن يتفرقون عنه، ويأبون أن يستمعوا له، وبعضهم يُشغِّب عليه، وبعضهم يغطي نفسه بثوبه؛ كيلا يسمع، فكان حالهم كما وصفهم ربنا سبحانه: ﴿‌أَلَا ‌إِنَّهُمْ ‌يَثْنُونَ ‌صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ [هود: 5]

 لقد أخبرنا القرآن أن النصارى استمعوا له، وتأثروا به، مما دفعهم إلى الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم والدخول في الإسلام، بعدما فاضت أعينهم بالدمع مما عرفوا من الحق.
‌‌قال تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ * وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللهِ وَمَا جَاءنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبَّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ* فَأَثَابَهُمُ اللهُ بِمَا قَالُواْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ} [المائدة: 82 – 85]

وفي حادثة الهجرة الأولى للحبشة، وفي الحديث الذي دار بين سيدنا جعفر بن أبي طالب، والنجاشي ملك الحبشة: “….. فَقَالَ لَهُ النَّجَاشِيُّ: هَلْ مَعَكَ مِمَّا جَاءَ بِهِ عَنْ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ؟ فَقَالَ لَهُ جَعْفَرٌ: نَعَمْ؛ فَقَالَ لَهُ النَّجَاشِيُّ: فَاقْرَأْهُ عليَّ؛ قَالَتْ: فَقَرَأَ عَلَيْهِ صَدْرًا مِنْ: “كهيعص” قَالَتْ (أم سلمة): فَبَكَى وَاَللَّهِ النَّجَاشِيُّ حَتَّى اخْضَلَّتْ لِحْيَتُهُ، وَبَكَتْ أَسَاقِفَتُهُ حَتَّى أَخْضَلُّوا مصاحفَهم، حِينَ سَمِعُوا مَا تَلَا عَلَيْهِمْ. ثُمَّ قَالَ النَّجَاشِيُّ: إنَّ هَذَا وَاَلَّذِي جَاءَ بِهِ عِيسَى لَيَخْرُجُ مِنْ مِشكاةٍ وَاحِدَةٍ، انطلِقَا – يخاطب عمرو بن العاص وعبد الله –  ‌فَلَا ‌وَاَللَّهِ ‌لا ‌أسلمهم ‌إليكما، ولا يُكَادون. (1)

 بل لقد صرح القرآن باستماع الجن، وتأثرهم به، قال تعالى: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} [الجن: 1 – 2]
وقال تعالى أيضاً: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) [الأحقاف: 29-31]

– حتى الحيوانات تأثرت باستماع القرآن، فعَنْ الْبَرَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عنه قال: بينما رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ، وفرسٌ له مربوط في الدار، فجعل ينفِر، فخرج الرجل فنظر فلم ير شيئاً، وجعل ينفر، فلما أصبح ذكر ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: “السكينة ‌تنزلت ‌بالقرآن”. (2)

وعَنْ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ قَالَ: بَيْنَمَا هُوَ يَقْرَأُ مِنَ اللَّيْلِ سُورَةَ الْبَقَرَةِ وَفَرَسُهُ مَرْبُوطَةٌ عِنْدَهُ إِذْ جَالَتِ الْفَرَسُ فَسَكَتَ فَسَكَتَتْ، فَقَرَأَ فَجَالَتِ الْفَرَسُ فَسَكَتَ وَسَكَتَتِ الْفَرَسُ، ثُمَّ قَرَأَ فَجَالَتِ الْفَرَسُ، فَانْصَرَفَ، وَكَانَ ابْنُهُ يَحْيَى قَرِيبًا مِنْهَا، فَأَشْفَقَ أَنْ تُصِيبَهُ، فَلَمَّا اجْتَرَّهُ رَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ حَتَّى مَا يَرَاهَا، فَلَمَّا أَصْبَحَ حَدَّثَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: “اقْرَأْ يَا ابْنَ حُضَيْرٍ، اقْرَأْ يَا ابْنَ حُضَيْرٍ”، قَالَ: فَأَشْفَقْتُ يَا رَسُولَ اللهِ أَنْ تَطَأَ يَحْيَى وَكَانَ مِنْهَا قَرِيبًا، فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَانْصَرَفْتُ إِلَيْهِ فَرَفَعْتُ رَأْسِي إِلَى السَّمَاءِ، فَإِذَا مِثْلُ الظُّلَّةِ فِيهَا أَمْثَالُ الْمَصَابِيحِ، فَخَرَجَتْ حَتَّى لَا أَرَاهَا، قَالَ: وَتَدْرِي مَا ذَاكَ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: ‌تِلْكَ ‌الْمَلَائِكَةُ ‌دَنَتْ ‌لِصَوْتِكَ، ‌وَلَوْ ‌قَرَأْتَ ‌لَأَصْبَحَتْ يَنْظُرُ النَّاسُ إِلَيْهَا لَا تَتَوَارَى مِنْهُمْ”. (3)

ومما يروى في استماع القرآن ويبين أهميته، أن النبي صلى الله عليه وسلم مرَّ على أبي موسى الأشعري ذات ليلة وأبو موسى يقرأ في بيته، ومع النبي صلى الله عليه وسلم عائشة فقاما يستمعان لقراءته، ثم إنهما مضيا، فلما أصبح لقي أبو موسى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: ” ‌لَوْ ‌رَأَيْتَنِي ‌وَأَنَا ‌أَسْمَعُ ‌قِرَاءَتَكَ ‌الْبَارِحَةَ، لَقَدْ أُوتِيتَ مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ ” فَقَالَ: لَوْ عَلِمْتُ لَحَبَّرْتُهُ لَكَ تَحْبِيرًا”. (4) الْمُرَادُ بِالْمِزْمَارِ هُنَا: الصَّوْتُ الْحَسَنُ، وَأَصْلُهُ الْآلَةُ الَّتِي يُزَمَّرُ بِهَا. شَبَّهَ حُسْنَ صَوْتِهِ وَحَلَاوَةَ نَغْمَتِهِ بِصَوْتِ الْمِزْمَارِ. (5)

وعن ابن مسعود رضي الله عنه قَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اقْرَأْ عَلَيَّ، قُلْتُ: ‌آقْرَأُ ‌عَلَيْكَ ‌وَعَلَيْكَ ‌أُنْزِلَ؟ قَالَ: فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي، فَقَرَأْتُ عَلَيْهِ سُورَةَ النِّسَاءِ، حَتَّى بَلَغْتُ: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} قَالَ: أَمْسِكْ، فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ». (6)

والاستماع ‌للقرآن في مذهب الإمام أبي حنيفة فرض كفاية؛ لأنه لإقامة حقّه؛ بأن يكون ملتفتا إليه غير مضيّعٍ، وذلك يحصل بإنصات البعض، كما في ردّ السلام حين كان لرعاية حق المسلم كفى فيه البعض عن الكل، إلا أنه يجب على القارئ احترامه بأن لا يقرأه في الأسواق ومواضع الاشتغال، فإذا قرأه فيها كان هو المضيِّع لحرمته، فيكون الإثم عليه دون أهل الاشتغال؛ دفعًا للحرج في إلزامهم ترك أسبابهم المحتاج إليها. كما وكره الحنفية الدعاء والاستغفار حال قراءة القرآن، وكذا كل ما يشغله عن الاستماع، فلا يرد سلامًا ولا يشمِّت عاطسًا؛ لما فيه من الإخلال بفرض الاستماع. (7)

ملحوظة:

 الأصل أن قراءة القرآن الكريم أفضل من الاستماع له، لكن هذا يختلف بحسب حال السامع وحال القارئ؛ فإن الاستماع أفضل من القراءة إذا كان حال المستمع باستماعه أفضل من حاله بقراءته.

ومهما يكن من شيء فالإصغاء والاستماع عند قراءة القرآن من الآداب التي ينبغي مراعاتها على كل مسلم تجاه القرآن الذي هو كلام الله تعالى. قال الحسن البصري: “إذا جلست إلى القرآن فأنصت له”. (8)

وأخيراً:

عسى أن يكون فيما سبق وازعاً يزع هؤلاء الذين يرفعون أصواتهم بألفاظ الاستحسان عند سماع القرآن، كأنما يستمعون إلى مغنٍّ أو مغنية، بل ومن حالهم تعلم أنهم لا يعون شيئاً مما يسمعون، فلا هم فهموه، ولا هم تأثروا به. والله المستعان.

وأقول للسائل أَصِخ للقرآن بسمعك، سماع طالبٍ للهداية راغبٍ بما عند الله، وتدبره بعقلك وقلبك، فالعلاقة وثيقة بين الاستماع والتدبر. جعلنا الله وإياك من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.

وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


(1): سيرة ابن هشام (1/290).
(2): صحيح البخاري» (4559).
(3): صحيح البخاري (4730).
(4): السنن الكبرى للبيهقي (4708).
(5): العراقي: طرح التثريب (3/105).
(6): صحيح البخاري (4582).
(7): ينظر: حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح شرح نور الإيضاح (ص228)؛ حاشية ابن عابدين: رد المحتار على الدر المختار (1/ 546)؛ السيوطي: الإتقان في علوم القرآن (1/381).
(8): تفسير ابن أبي حاتم (8737)؛ تفسير ابن كثير (3/538).

[الشيخ] أنس الموسى

الشيخ أنس الموسى هو الشيخ الحافظ الجامع أنس الموسى بن محمد بشير من مواليد سوريا – حماة 1974م 

تخرج في المعهد الهندسي قسم الإنشاءات العامة بدمشق، وتخرج في جامعة الأزهر كلية أصول الدين تخصص الحديث النبوي. 

قرأ على كبار علماء دمشق، منهم الشيخ عبد الرحمن الشاغوري والشيخ أديب الكلاس وغيرهم.

حفظ القرآن وأُجير به وبالقراءات العشر المتواترة،  على الشيخ بكري الطرابيشي والشيخ موفق عيون، كما وتخرج من مدرسة الحديث العراقية.

درس الكثير من المواد الشرعية في المعاهد الشرعية في سوريا وتركيا.

إمام وخطيب لمدة تزيد على 15 سنة.

مدرس للقرآن الكريم بمختلف قراءاته ورواياته.

حالياً يعمل كمدرس في مؤسسة سيكيرز، ومسؤول التوجيه الأكاديمي فيها.

أنهى مرحلة الماجستير في الحديث النبوي، وهو الآن يكمل في مرحلة الدكتوراه بنفس التخصص، متزوج ومقيم في إستانبول.