كيف يمكن للمسلم الوصول الى تأمل عميق لمعاني القرآن الكريم؟

يجيب عن السؤال الشيخ أنس الموسى 

السؤال

كيف يمكن للمسلم الوصول الى تأمل عميق لمعاني القرآن الكريم؟

الجواب

 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

لا شك أن تعميق صلة المؤمن بالقرآن هدفٌ مهم ينبغي السعي إليه، وتحقيق هذا يتناول أكثر من جانب  فمنه ما يتعلق بالقراءة، ومنه ما يتعلق بالتدبر، ومنه ما يتعلق بالتطبيق. وإليك بعض التوجيهات في سبيل ذلك:

أولاً: قراءة القرآن وتلاوته: ابدأ بتلاوة القرآن وأنت تستحضر أن ما تقرأه هو كلام الله تعالى، واختر الوقت المناسب لذلك، وتذكّر أنّ لكل شخص وقته الذي يناسبه لتلاوة القرآن، وأن الوقت  الذي يكون قلبك فيه حاضرًا، وعقلك فارغًا لتدبر القرآن وتعقله، فهو لا شك وقتٌ مناسبٌ للقراءة.

كما أن من المهم التنبيه على أن قراءة القرآن في هدأة الليل والناس نيام تنشئ صلة وثيقة بين القرآن والقارئ؛ لِما لها من أثر لا ينكر في القلب؛ مصداق قول الله تعالى: ﴿إِنَّ ‌نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا﴾ [المزمل: 6] ، ومصداق قول الباري سبحانه: ﴿لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ‌أُمَّةٌ ‌قَائِمَةٌ ‌يَتْلُونَ ‌آيَاتِ ‌اللَّهِ ‌آنَاءَ ‌اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ ﴾ [آل عمران: 113] وجاء عن عبد الله ابن عمر رضي الله عنهما عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال: “‌من ‌قام ‌بعَشْرِ ‌آيات ‌لم ‌يُكتَبْ ‌من ‌الغافلين، ومَنْ قامَ بمئةِ آيةِ كُتِبَ مِن القانتين، ومَنْ قامَ بألفِ آية كُتِبَ من المُقنطِرين”. (1) و قد قال المصطفى صلى الله عليه وسلم في حق عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما: “نِعْمَ ‌الرَّجُلُ ‌عَبْدُ ‌اللهِ ‌لَوْ ‌كَانَ ‌يُصَلِّي ‌مِنَ اللَّيْلِ”. (2) وقيام الليل بلا شك يشتمل على الصلاة، وقراءة القرآن الكريم، وذكر الله تعالى. وكان إبراهيم النخعي يقول: “اقرءوا من الليل ولو حلب شاة”.(3)

وعلل الإمام النووي سبب رجحان القراءة ليلاً فقال: “وإنما رجحت صلاة الليل وقراءته لكونها أجمع للقلب وأبعد عن الشاغلات والملهيات والتصرف في الحاجات وأصونه عن الرياء وغيره من المحبطات، مع ما جاء الشرع به من إيجاد الخيرات في الليل؛ فإن الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم: كان ليلاً، وحديث ينزل ربكم كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يمضي شطر الليل فيقول هل من داع فأستجيب له”. (4)

وذكر بعض أهل العلم بأن أحسن الأوقات لقراءة القرآن: وقت الفجر، واستدلّوا على ذلك بقول الله تعالى: ﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ ‌إِلَى ‌غَسَقِ ‌اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا﴾ [الإسراء: 78]  أي: تَشْهَدُهُ ملائكةُ الليلِ وملائكةُ النهارِ. ولا شك أن في افتتاح اليوم بقراءة القرآن وذكر الله تعالى تحصُل السّكينة والطمأنينة وتزداد الصلة بالقرآن.

ثانياً: تدبر القرآن والتفكر بمعانيه من خلال: الاستعانة بكتب التفسير التي توضح المعنى الإجمالي للآيات، وربط الآيات التي تقرؤها بالواقع الحالي لأحوال المسلمين، وبعبارة أخرى تفعيل الجانب الحركي للقرآن وعدم جعله كتاب تلاوة دون أثر في دنيا الناس وآخرتهم.

ثالثاً: الاستعانة بصحبة صالحة: تتدارس معها القرآن وتتذاكرون الأوجه البلاغية والإعجازية، وتبحثون عن الرسائل والعبر المخزونة فيه، وكيف يمكن أن يؤثر القرآن في حياتكم؟

رابعاً: الجمع بين القراءة والاستماع الصوتي للقرآن: فتختار أحد القراء الذين تحبّ الاستماع لأصواتهم، فتسمع منهم القرآن؛ لأن الصوت العذب والأداء المتقن لقراءة القرآن يحركان المعاني ويعززان التأثر بالقرآن، فينعكس عمقَ العلاقة بينك وبين القرآن.

خامساً: قراءة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وسير السلف الصالح وحالهم مع القرآن: فقد كانت علاقة المصطفى صلى الله عليه وسلم بالقرآن وثيقة جداً وكان ربما يقرأ الآية الواحدة يكررها طوال الليل؛ فعن أَبِي ذَرٍّ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ” قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ فَرَدَّدَهَا حَتَّى أَصْبَحَ: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118] “. (5)

وكذلك كان حال أصحابه رضي الله عنهم، فهذه أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ افْتَتَحَتْ سُورَةَ الطُّورِ، فَلَمَّا انْتَهَتْ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور: 27] ‌بقيت ترددها طويلاً حتى قال الراوي: ذَهَبْتُ ‌إِلَى ‌السُّوقِ ‌فِي ‌حَاجَةٍ ، ‌ثُمَّ ‌رَجَعْتُ وَهِيَ تُكَرِّرُهَا {وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور: 27] قَالَ: وَهِيَ فِي الصَّلَاةِ. (6) لم يكن تأثر السلف الصالح بالقرآن تأثراً آنياً ينحصر في وقت القراءة أو في المكان والزمان الذي يقرأ فيه بل كان مستمراً يتغلغل في كل شؤون حياتهم.

سادساً:  اشغل جلَّ وقتك بقراءة كتاب الله تعالى وتدبر معانيه، كما كان السلف الصالح يفعلون؛ فكان بعضهم يختم القرآن في سبع ليالٍ، وبعضهم في كل ستٍ، وبعضهم في كل خمسٍ، وكثير منهم في كل ثلاث ليالٍ، ومنهم من كان يختم ثماني ختمات، أربعًا بالليل وأربعًا بالنهار. ومن الذين كانوا يختمون ختمة في الليل واليوم عثمان بن عفان رضي الله عنه، وتميم الداري، وسعيد بن جبير، ومجاهد، والشافعي، وآخرون.

سابعاً: الدعاء والتضرع إلى الله تعالى: أن يقوي صلتك بالقرآن ويمن عليك بحسن استقبال رسائله.

وأخيراً:

مشكلة المسلمين اليوم أن تأثرهم بالقرآن تأثر لحظي يتوقف عند التوقف عن القراءة أو مغادرة المكان، وانقضاء الوقت الذي يقرأ فيه…نسأل الله أن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه…آمين.

وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


(1): سنن أبي داوود (1398).
(2): صحيح البخاري (1121).
(3):  النووي: التبيان في آداب حملة القرآن ص64.
(4): النووي: التبيان في آداب حملة القرآن ص64.
(5): مسند أحمد (21388).
(6): أبو عبيد القاسم بن سلام فضائل القرآن ص174.

[الشيخ] أنس الموسى

الشيخ أنس الموسى هو الشيخ الحافظ الجامع أنس الموسى بن محمد بشير من مواليد سوريا – حماة 1974م 

تخرج في المعهد الهندسي قسم الإنشاءات العامة بدمشق، وتخرج في جامعة الأزهر كلية أصول الدين تخصص الحديث النبوي. 

قرأ على كبار علماء دمشق، منهم الشيخ عبد الرحمن الشاغوري والشيخ أديب الكلاس وغيرهم.

حفظ القرآن وأُجير به وبالقراءات العشر المتواترة،  على الشيخ بكري الطرابيشي والشيخ موفق عيون، كما وتخرج من مدرسة الحديث العراقية.

درس الكثير من المواد الشرعية في المعاهد الشرعية في سوريا وتركيا.

إمام وخطيب لمدة تزيد على 15 سنة.

مدرس للقرآن الكريم بمختلف قراءاته ورواياته.

حالياً يعمل كمدرس في مؤسسة سيكيرز، ومسؤول التوجيه الأكاديمي فيها.

أنهى مرحلة الماجستير في الحديث النبوي، وهو الآن يكمل في مرحلة الدكتوراه بنفس التخصص، متزوج ومقيم في إستانبول.